الفتوى رقم: 234/ محمد مكركب
الموضوع: ما معنى أن الله تعالى يستحيي من العبد؟ وهل يجوز قول ذلك؟
قال السائل: سمعت الإمام يقول في خطبته: “من يجلس إلى حلقة العلم يبتغي وجه الله فإن الله يستحيي منه، كما جاء في الحديث”. قال السائل: ما معنى أن الله يستحيي من العبد؟
وهل يجوز أن نعبر بذلك، فنقول: من استحيا، استحيا الله منه؟ وما هو الحديث الذي استدل به الإمام؟ وجزاكم الله خيرا.
الجــــــواب:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله.
أولا: يقول الله تعالى:﴿فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾[سورة الشورى:11]، فالله تعالى:﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ لا تُشَبَّهُ صفاته وأفعاله بصفات وأفعال عباده، فاعلم هذا من البداية. ولكنه جل جلاله يسمى ويوصف بما سمى ووصف به نفسه، وبما سماه ووصفه به رسوله عليه الصلاة والسلام؛ فقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل بصفة الحياء، فالله (حَيِيٌّ كَرِيمٌ)، وأنه ( يَسْتَحْيِيِ) عز وجل، بما لا يمثل بالمخلوقات:﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾، ففي سنن أبي داود. حدث أبو عثمان، عن سلمان الفارسي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ رَبَّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ، أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا] (أخرجه أبو داوود في “الدعاء في الوتر” رقم: 1488).
وعند الترمذي: عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان الفارسي، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ] (أخرجه الترمذي، كتاب الدعوات: 3556).
والله تعالى أعلم.
ثانيا: قال السائل: (ما معنى أن الله يستحيي من العبد؟) قلت لك: أفعال الله لا تُشَبَّهُ بأفعال العباد وإنما تفهم من المقاصد، فإذا دعا العبد ربه أجابه بالرحمة والعطف والحنان والقبول.
فالمراد من استحياء الله من عبده هو: أن يستره، وأن يكرمه، ولا يعاقبه إذا تاب، فالرب عز وجل، مع كمال غناه عن الخلق أجمعين وقدرته عليهم، فإنه يستحي من المستغفرين، فلا يفضحهم، ولا يعجل لهم العقوبة ليتوبوا، أو يعفو عنهم ويغفر لهم.
والله تعالى أعلم.
وإذا قال العبد: “إن الله لا يستحيي من الحق”، كما قالت أم سليم: يا رسول الله، إن الله لا يستحي من الحق، هل على المرأة غسل إذا احتلمت؟ قال: [نعم، إذا رأت الماء] فضحكت أم سلمة، فقالت: أتحتلم المرأة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [فبم شبه الولد] (البخاري. كتاب الأدب. 6091)؛ فمعناه أن الله تعالى بعدله لا يريد إلا الحق، وبتعبير البشر لا يتعاطف مع الخاطئين، ولا يقر مخالفة المخالفين للحق. قال الله تعالى:﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَما فَوْقَها﴾[سورة البقرة: 26]، قال القرطبي: [وأصل الاستحياء الانقباض عن الشيء والامتناع منه، خوفا من مواقعة القبيح، وهذا محال على الله تعالى]، وقد ذكر من أقوال العلماء ثلاث كلمات لغوية: يستحيي بمعنى: يَخْشْى. يَمْتَنِعُ، يَتْرُكُ. وذكر بعضهم: يستنكف.
والله تعالى أعلم.
ثالثا: قال السائل: (وما هو الحديث الذي استدل به الإمام؟) قلت: يظهر من نص السؤال: (من يجلس إلى حلقة العلم يبتغي وجه الله، فإن الله يستحيي منه). يقصد الحديث الشريف الذي رواه البخاري في كتاب العلم. وهذا نص الحديث.
عن أبي واقد الليثي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس في المسجد والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب واحد، قال: فوقفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما أحدهما: فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر: فجلس خلفهم، وأما الثالث: فأدبر ذاهبا، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[أَلاَ أُخْبِرُكُمْ عَنِ النَّفَرِ الثَّلاَثَةِ؟ أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللهِ فَآوَاهُ اللهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللهُ عَنْهُ]. (البخاري.كتاب العلم. رقم: 66)؛ وهذا من روائع الحديث في باب طلب العلم، ومن أراد التزود بشرح هذا الحديث فليعد إلى كتاب مجالس التذكير من كلام البشير النذير.
والله تعالى أعلم.
رابعا: و[الحيي] اسم من أسماء الله تعالى كما ورد في الحديث أعلاه: [إِنَّ رَبَّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيِيٌّ كَرِيمٌ] وأسماء الله تعالى هي: كل ما سمى به نفسه في كتابه، أو سماه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وأن أسماء الله كلها حسنى ليس فيها نقص. قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[سورة الأعراف: 180]، ولا يجوز للعبد أن يسمي أو يصف الله تعالى بما لم يسم أو يصف به نفسه سبحانه وتعالى، وبما لم يسمه ويصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
والله تعالى أعلم.
خامسا: وللفائدة فإن معرفة أسماء الله تعالى باب من أبواب العلم المفيد، وأنه يستحب للمسلم أن يعرف ربه عز وجل من خلال أسمائه الحسنى، ففي الحديث الشريف. عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ]. (البخاري. كتاب الشروط. رقم: 2736، ومسلم: 2677)، وفي رواية مسلم: [لِلَّهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا، مَنْ حَفِظَهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَإِنَّ اللهَ وِتْرٌ، يُحِبُّ الْوِتْرَ]، قال فؤاد عبد الباقي: “(من أحصاها) معناه حفظها، وهذا هو الأظهر لأنه جاء مفسرا في الرواية الأخرى من حفظها، وقيل أحصاها عدها في الدعاء بها، وقيل أطاقها أي أحسن المراعاة لها والمحافظة على ما تقتضيه وصدق بمعانيها والصحيح الأول“.
والله تعالى أعلم، وهو العليم الحكيم.