مساهمات

عِلم العرب

محمّد بن حامد بومشرة السّنوسي/

من خلال مقالي هذا أردتُ أن أذكّر بأنّ التّكنولوجيا التي انتشرت في العالم بسرعة البرق في جميع الميادين والاختصاصات، يرجع فضلها للمسلمين عربا كانوا أو عجما.
وهذا العنوان رجع بي إلى سنوات الشّباب وأنا بالخدمة الوطنية يوم ألقيتُ درسا بمسجد الثّكنة العسكرية وسط مدينة سيدي بلعبّاس غرب الجزائر، تبعد عن تلمسان باثنين وتسعين كيلومترا شرقا. كما ألقيت خطبة جمعة بالثّكنة العسكرية بمدينة تلمسان، حيث وجدت عليه إقبالا وردودا حسنةً ممّن استمعوا إلي.
أردت من خلال هذا العنوان أن أبيّن لبعض السّاخرين أنّ علماء العرب ذوي الاختصاص علوم الشريعة في العلوم والشّرعية، اخترعوا واكتشفوا ما يفيد العالم بأسره مؤمنيه وكافريه، وجعلوا لتلك العلوم قواعد وأُسُسا، تخدم زمانهم ومن يأتي بعدهم.
وللإشارة فقط أقدّم الفرق بين العلوم الشّرعية التي هي مشروعة كالطّبّ والهندسة والرّياضيات والصّيدلة… وعلوم الشّريعة التي هي كلّ العلوم المتعلّقة بالدّين الإسلامي كالميراث والقراءات والفقه وأصوله.
فإذا استعملتُ عبارة «علم العرب» أقصد بها عربا كانوا أو العجم الذين عرّبهم الإسلام، وصار لسانهم عربيًّا لغة القرآن العظيم، التي أخرجت العباد من ظلمات الجهل إلى نور العلم والفهم.
لقد عرفَت اليمن قبل ظهور الإسلام حضارة لا يختلف فيها اثنان، بلغتهم العربية التي كانت سائدة ومنتشرة.
وبنى المسلمون حضارة بعيدة كلّ البعد عن الحضارة اليونانيّة أو الصّينيّة أو الكنعانيّة، في مجال العلوم والفنون وتطوّر المجتمعات، وكذلك الفنون المتعدّدة كالرّسم والنّحت والمسرح.
وقبل أن أتحدّث عن الحضارة الإسلامية يجب أن نلقي نظرة على حياة الغرب وأوربا في صدر الإسلام. ففي عهد خلافة هارون الرّشيد بعث هديّة تتمثّل في ساعة إلى ملك فرنسا شارلمان . فلّما استلمها وسمع دقّاتها، طرحها أرضا خوفا؛ ظانًّا أنّ بها عفاريت أو جانًا وبالمناسبة كان ملوك أوربا يتبوّلون خلف عروشهم أو السّارية أمام وزرائهم وغيرهم، بدون حياء ولا حشمة. كما كان مواطنوهم لا يعرفون المراحيض في بيوتهم؛ فيتبوّلون ويتغوّطون علنا في دلو ثمّ يرمون فضلاتهم في الشّارع، ولا يعرفون النّظافة بعدها، لأنّهم لا يستجمرون ولا يستحمّون، وكانت لهم مراحيض عمومية يقضون فيها حوائجهم جماعة، وقد تطبّعوا على ذلك. قال الله عزّ وجلّ: ﴿ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً﴾ وكانت تنبعث منهم، ومن بيوتهم روائح نتنة حتّى ألفوها إلى أن اكتُشِف مستخلص العطور من بعض الفواكه أو النّباتات لعلّها تطغى على الرّوائح الكريهة من أسنانهم المسوّسة أو العرق من أجسامهم والرّوائح النّتنة، ولا يعرفون حلق الشّعر خاصّة مكان الإبط والعانة. خلافا للمسلمين الذين كانوا يتوضّؤون خمس مرّات في اليوم واللّيلة ويغتسلون كلّ جمعة أو عند الجنابة… تشمّ من كبارهم رائحة العرق طيّبة.
ثمّ يوم كانت الفوانيس تضيء وتزيّن شوارع بغداد ليلا، كانت شوارع باريس مظلمة. وكان ملوك وأمراء الغرب يُرسلون أبناءهم وبناتهم يتعلّمون اللّغة العربية ليلجوا عالم العلوم والمعرفة من علم الاجتماع والحساب والجبر والفيزياء والكيمياء والفلك والطّبّ والصّيدلة التي اكتشفها العرب المسلمون، كما اكتشفوا المستشفيات ووسائل العلاج وآلات العمليات الجراحية بريادة العالم ابن سينا . ممّا أُجبروا على تعلّم اللّغة العربية لأنّها لغة العلم.
وكان أبناؤهم عند عودتهم يتكلّمون بكلّ فخر باللّغة العربية حتّى يُشعروا أبناءَ جلدتهم أنّهم مثقّفون؛ كما هو حال بعض من بني جلدتنا اليوم الذين انسلخوا عن هُويتهم ليتحدّثوا بالفرنسية أو الإنجليزية.
وفي زمان الفتح الإسلامي كان العجم يتعلّمون اللّغة العربية حبّا فيها لِما اكتشفوه فيها من خير كتقويم اللّسان، والنّطق السّليم لكلّ حرف، ولِما تمتاز به من قواعد نحوية وصرفية وإملائية، وأنواع الكلمات يشرح بعضها بعضا، والأضداد، كما اكتشفوا فيها حرفا من حيث النّطقُ غير موجود في كلّ لغات العالم ألا وهو حرف الضّاد، وعليه تُسمّى لغة الضّاد كأنّه تحدٍّ. حتّى سمّوا أبناءهم بالعَرْبي نسبة إلى اللّغة العربية، وفتحي وفتح الله وعبد الفتّاح نسبة للفتوحات الإسلامية.
وكلمة العرب أو العربي هي لكلّ من تعلّم اللّغة العربية وأتقنها وعشقها حتّى النّخاع. وعلموا أنّها هي لغة أهل الجنّة؛ أمّا لغة أهل نار جهنّم فالصّراخ والعويل لغتهم والنّدم، والله أعلى وأعلم. ورحم الله الشّيخ عبد الحميد ابن باديس القائل: «أنا أمازيغي عرّبني الإسلام» أو كما قال الشّيخ محمّد الغزالي: «أنا فرعوني عرّبني الإسلام».
إنّ من أعظم ما اكتشفه العرب وانطلقوا في البحوث والاختراعات إلى يومنا هذا، وبشهادة علماء ومثقّفي الغرب المنصفين هي الأعداد من صفر إلى تسعة بالحروف والأرقام حسب عدد الزّاوية في الرّقم.
لقد تعلّمنا في المؤسّسات التّعليمية، والمحاضرات أنّ العرب هم روّاد الاختراعات والاكتشافات، وبالمقابل هناك من حاول في زعمه إنصاف غير العرب، -وهم الكفّار عربا كانوا أو عجما وعملاؤهم- أنّهم كذلك اخترعوا واكتشفوا؛ ليطمسوا دور المسلمين فيما قدّموه للعالم عن طريق احتلال أوطانهم ليربّوا جيلا جديدا يؤمن بالغرب وأفكاره فقط، ويسبّوا العرب ويلعنوهم.
وقال أحدهم وهو العالم الفيزيائي الفرنسي بيير كوري الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء سنة 1903: «لو لم تُحرق كتب المسلمين، لكنّا نتجوّل اليوم بين المجرّات». لعلّه يقصد كتب العراق زمن هولاكو، وكتب الأندلس زمن الحروب الصّليبية وغيرها..
يُحكى أنّ شابا من التّائهين والمعجبين بالغرب، ناكرا دور العرب تماما في النّهضة العلمية، دخل على شيخ بمسجد كان يُعلّم تلامذته أمور دينهم، فقال له: تفوّق الغرب علينا بالعلم، وصعَد إلى القمر، وأنتم مازلتم في تعليم الوضوء والتّيمّم.. فردّ عليه الشّيخ بحكمة نحن نتعلّم الفقه كما تزعم، والغرب مَثَلكم الأعلى وصل إلى سطح القمر وغاص البحار، أمّا أنت فلا تعلّمت الفقه ولا تربّعت على سطح القمر.
يقول العالم العربي الرّاحل أحمد زويل الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء: «الغرب ليسوا عباقرة ونحن لسنا أغبياء؛ هم فقط يدعّمون الفاشل حتّى ينجح، ونحن نحارب النّاجح حتّى يفشل».
خذ على سبيل المثال تعلّمنا أنّ مكتشف قارّة أمريكا هو «كريستوف كولومبوس» وقد تغاضوا عمّن سبقهم من المسلمين في ذلك بقرون . والعثور على آثار إسلامية كانت موجودة في أمريكا قبل وصول «كريستوف كولومبوس» والمستكشفين الأوروبيين إليها.
ولم يذكروا لنا كذلك أنّ الذين رافقوه مسلمون، كانت لهم دراية كبيرة بعلم الفلك، وتفوّقهم في الملاحة وصناعة السّفن.
ومن منّا لا يعرف «عبّاس بن فرناس» من أصول أمازيغية، هو عالمٌ مسلمٌ ومخترعٌ وشاعرٌ وفيلسوف، ومن أعظم إنجازاته واختراعاته محاولته الطّيران مستعينا بجناحين ليكون السّبّاق لمحاولة طيران الإنجليزي «إلمر المالمسبوري» في سنتي 1000 و1010. وهذا ما يجب أن يعرفَه أبناؤنا. إنّ الإسلام فتح باب العلم على مصراعيه للولوج فيه بكلّ ثقة وبكلّ قوّة. وليس كما كان في عهد ظهور العَلمانية، والصّراع الحاقد بين الكنيسة والعلم.
فمن أقنع الغرب عِلميا أنّ الأرض شكلها كروي، بعدما أعدمت الكنيسة كلّ من يدّعي كروية الأرض. كما علّم المسلمون غيرهم أنّ من خلال كروية الأرض دورانها حول الشّمس مدّة أربعٍ وعشرين ساعة لينتج عن ذلك اللّيل والنّهار، وفي الوقت نفسه تدور الأرض حول الشّمس مدّة حولٍ كامل لينتج عنه الفصول الأربعة.
ومن حكمة الله تعالى أن قدّم حضارات غربية وشرقية مبنية على الماديات ولم تقاوم أمام الحضارة الإسلامية التي قامت على الدّين الإسلامي وتطوّرت ميدانيا واستفاد منها العالم كلّه؛ كالخوارزمي والفرابي والبيروني وابن الهيثم وجابر بن حيّان وابن البيطار والرّازي وابن بطّوطة والحبّاك..
وعليه يجب تعليم أبنائنا أنّ المسلمين اكتشفوا واخترعوا ما ينفع النّاس، فمنهم من توصّل لهدفه، ومنهم من حال بينه الموت فأكمل ذلك علماء الغرب بمساعدة المسلمين، بدون ذكرهم في كتبهم، ليجعلوا من أنفسهم روّادا في العلم، يصدّرون اكتشافاتهم واختراعاتهم، وغيرهم جهلة يستهلكون كلّ منتجاتهم فقط.
ولا ننسى من هؤلاء العلماء الأجلّاء من تزعّم معارك ضارية ضدّ المحتلّين كالشّيخ العزّ بن عبد السّلام الملقّب بسلطان العلماء؛ وآخرون ضدّ الاحتلال الإيطالي بليبيا بزعامة الشّهيد عمر المختار؛ والاحتلال الفرنسي بالمغرب الشّقيق بزعامة عبد الكريم الخطّابي، وبالجزائر بزعامة الشّيخ بوعمامة والشّيخ بوبغلة والأمير عبد القادر ولالّة فاطمة نسومر.. يقول الشّيخ محمّد الغزالي رحمه الله: «نحن قوم لا نساوي شيئا بدون إسلام».
هذا الاحتلال الصّليبي المستمر، إنّما هو خطّة منكرة وخبيثة لقهر المسلمين ودفن الإسلام في أراضيهم وفي عقر ديارهم مستعملين أسلحة متنوّعة بدءا بالتّجهيل ثمّ التّفقير والاستعانة بنشر الأمراض والأوبئة إلى أن يصلوا إلى الأسلحة الممنوعة دوليا، قال الله تعالى:﴿ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ﴾ وأخطر سلاح يستعملونه هو سلاح العملاء الذين باعوا ضمائرهم للعدو الجاهل. وقديما قالوا: يفعل الجاهل بنفسه ما لا يفعله العدوّ بعدوّه.
ولا ننسى بلاد الأندلس التي أبهرت العالم الغربي كونها بلاد العلم والعلماء والاختراعات والاكتشافات، حتّى حقد الغرب وأوروبا عليها وعلى أهلها ودمّروها تدميرا، واحتلّوها وأفسدوا فيها الحرث والنّسل. وبقيت آثار علوم العرب إلى يومنا هذا، كساحة السّباع بقصر الحمراء التي بها اثنا عشر أسدا تُمثّل السّاعة، وعدد النّوافذ التي تمثّل عدد أيّام السّنة الشّمسية . وقف علماء الغرب حيارى عاجزين عن تصليح ما أفسده الدّهر بالأندلس، أو الإتيان بمثله.
تلمسان فاتح ربيع الآخر 1442 هجرية، الموافق لـ: 16 نوَنبر 2020.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com