التعري الإرادي…

يكتبه د. محمّد قماري/
حينما أتى القرآن الكريم على ذكر (اللّباس)، جعل له وظائف ثلاث: وظيفة نفعيّة، ووظيفة ووظيفة جماليّة، ووظيفة أخلاقية: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} (الأعراف/26)…
وقفت طويلاً عند هذه اللفظة (أَنزَلْنَا)، هل اللباس نزل من السماء؟ والخطاب موجه لعموم (بَنِي آدَمَ)، ثم انتبهت إلى احالة متضَّمنة في السياق إلى أصل القصة، قصة بداية الخلق حيث آدم وزوجه في الجنّة، وتكتنف حياتهما فيها ظروف محددة: «إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تعرى وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تضحى» (طه/118)، لا جوع ولا عطش ولا لباس ولا تعب، هي ظروف مُثلَى…فما الذي حدث بعد ذلك؟
خرق آدم، عليه السلام، الحظر الذي يمنعه من الأكل من (شجرة) معينة، وتلك معصيّة افقدت الزوجين العيش في الظروف المثلى، ونزلنا إلى العراء والشقاء: «فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا» (طه/121)، والسوأة وإن أشارت للعورة المغلظَّة والتي يحاول الانسان سترها بالفطرة، لا يحب أن ينظر إليها غيره، فإن فيها معنى أشمل هو تعرية هذا الجسم البشري بجلده الرقيق ليواجه عوادي كوكب الأرض…
ويردد الناس منذ القديم تلك العبارة السيارة (سقطت ورقة التوت)، وهم يقصدون بها انكشاف الستر عن أحدهم، والإنسان السوي بفطرته يستر ذلك الجزء من جسمه، فإن لم يجد ما يغطي به، استعمل يديه حتى لا يرى، وهو أمر ينسحب على الأمور المعنوية، فإن البشر مهما تعروا في سرد تفاصيل حياتهم، فإنهم محتفظون بأمور لا يحبون أن يطلع عليها غيرهم، ورحم الله الأديب أحمد أمين حيث قال في مقدمة مذكراته (حياتي): (ولم أذكر فيه كل الحق…فمن الحق ما يرذل قوله، وينبو عن الأذن سماعه، وإذا كنا لا نستسيغ عُرِّي كلِّ الجسم، فكيف نستسيغ عري كل النفس؟).
ودار الزمن دورته، فإذا ببني البشر في هذا الزمن يتعرون، يتعرون حقيقة في أجسامهم، ويتعرون مجازا في عرض سقطاتهم وتفاهاتهم على الناس، بل أشعر أحيانًا أننا بصدد مزادٍ شعاره: من يتعرى أكثر، ومن دون التفكير في الاستعانة بورقة توت ولا بصل تواري السوءات!
إن التعري لا يعدو أن يكون (نزولاً) يحاكي الحيوانات، وتحضرني عبارة رقيقة للأديب مخائيل نْعِيمة في مذكراته (سبعون)، فهو حين تجاوز سن الثلاثين عزف عن الزواج، وأدرك ــــــ حسب قوله ــــ أن التزاوج والخلفة يحسنها كل حيوان، فماذا عساه قائلاً عن حال أولئك الذين يضاهون الحيوان في استعراض حاجتهم البيولوجيّة، سواء بالصورة أو بالقلم؟
تلك هي آفة هذا الزمن الذي انتقل فيه بعض الناس، من مشاركة غيره في بعض خاصته إلى استعراض جانب الحيوان فيهم على الملأ، بل ثبت من سلوك أن بعض الحيوانات تستتر من أعين غيرها، وهناك خط رفيع يفصل بين (الاعتراف) و(الفضيحة)، فالبشر، كل البشر، لهم قصورهم وزلاتهم، لكن البشر الأسوياء هم الذين يعرضون على غيرهم ما ينمي جانب المدافعة والارتقاء، لا الافتخار بما يحسنه كل الحيوانات على حد قوله الأديب نعيمة.
إن فتنة هذا العصر تكمن في كونه نفذ إلى الكشف عن كثير من مجاهيل الكون، لكنه ضرب بحاجز صفيق عن الكشف عن حقيقة الإنسان، وهي القضية التي جعلت الطبيب الدكتور ألكسيس كاريل يعلن في كتاب ألفه (الإنسان ذلك المجهول)، وهو الطبيب الحائز على جائزة نوبل لا يتحدث عن الجانب الجسدي من الإنسان، فالعلم قد راكم في القرن الأخير من المعارف والأدوات ما لم يتحقق للإنسان من لدن آدم عليه السلام!
وهي مأساة أدركها شاعر العراق الكبير محمد مهدي الجواهري، وصاغها في أبيات عذبة من الشعر في قوله:
قـالوا: قدِ انتصر الطبيــ ـــبُ*** على المُحالِ مِن الأمورِ
زَرَعَ الجَماجمَ والقلو بَ*** وشدَّ أقفاصَ الصّدورِ
فأجبتُهُم: ومتى سَتُر فَعُ*** رايةَ النصرِ الأخيرِ؟
زَرْعَ الضمائرِ في النفوسِ*** العارياتِ مِن الضّميرِ
لقد كانت التعرية في القديم من أشد أنواع الاكراه والتعذيب، أن يبدو الإنسان أمام أعين الناس في صورة تفتقد لذيل الكبش أو البقرة، سواء في جسمه أو بما ينقله عن نفسه من (مغامرات)، وما المغامرة كما في (معاجم اللّغة) إلا رمَيٌ الانسان بنفسه في الشدائد، أو هي طيش لا يحسب الإنسان تبعاته وعواقبه…
فهل يكون النزق وفقدان الحلم مدعاة للتفاخر؟ وهل المغامرة إلا من (الغَمر) في الماء حيث الضيق وترقب الهلاك؟ تلك لعمري لا تستحق الذكر إلا في سبيل شأن عظيم.