«التنوير» العربي والجرأة على القرآن الكريم
أ.د. عبد الملك بومنجل/
يفرض منطق الأشياء أن ينجذب النور إلى النور، ويتشاكل المعقول مع المعقول، ويتعامل صاحب النزوع إلى الحق تعاملا راقيا مع الحق. وقد عَلِم المسلمون جميعا، خاصتُهم وعامتُهم، أن القرآن الكريم نورٌ أنزله النور، ليكون ضياء للبشرية في كفاحِها ضد الظلام والظلم والبؤس. وقد أيقنوا –وذلك مقتضى إيمانهم وإسلامهم- أنه لا مجال، لمن رام الحقَّ والخيرَ والجمالَ، لأن يُعرضَ عن القرآن مصدرَ هدايةٍ إلى الحق والخير والجمال، أو أن يتلقاه بغير ما هو أهلُه من التعظيم والإجلال، أو أن يخوضَ فيه من غير أن يتخذ ما يجب من الاستعداد والاحتياط، فضلا عن أن يتجرَّأ عليه بما يدل على قلة أدبٍ مع مُنزِلِه، وانتفاء تعظيم لمقامه، وإرادةِ تغطيةِ شمسِ أنوارِه بغربالٍ من الشُّبَهِ السقيمة!
ولكن أكثرَ رموز «التنوير» العربي يتعاملون مع مصدر النور بغير هذا المنطق؛ فهم يُقبلون على قراءة «أسفار» الفلسفة الغربية بكثير من التأدب والتهيّب، وكثير من الخشوع والإجلال، وكثير من الاستعداد والاحتياط؛ لئلا يُخطئوا في فهمها وتقدير مقامات أصحابها، ولئلا يُقال عنهم إن أدواتهم قعدت بهم عن الفهم السليم لمضامينها –وإن كان ذلك يقع- حتى إذا دفعتهم إلى دراسة القرآن الدوافع –ويا لها من دوافع!- لم يستحضروا ما ينبغي استحضاره من الخشوع والهيبة، ومن الاحتياط والعُدّة، ومن الأدب واللباقة؛ بل بدا لهم أنهم إزاء خطابٍ عاديٍّ لا حرجَ في الإقبال على تأويله بغير زاد، والخبط في تفسيره خبط عشواء، والتجاوز لما سلفَ من خبراتِ الأولين في استنباط أحكامه وفهم مقاصده كأنْ ليست من الخبرة والعلم والاجتهاد في شيء، وكأنْ أوتوا من العلم الحديث ما يؤهلهم لتجاوز علوم الأولين والآخرين ممن هم في صميم التخصص، دون أن يبذلوا في تحصيل العلوم العربية الأساسية سوى جهد المُقِلٌّ؛ كأنما الخطأ في تفسير القرآن أمرٌ هيِّن، وإبطال أحكامه بشبهةٍ واهية اجتهادٌ مأجور، وصرف كلام الله عن مقاصده لونٌ من اللهو المباح !
كثيرةٌ هي الأحكام التي أجمع علماء المسلمين عليها، فلم ير هؤلاء «التنويريون» إلا التمرد عليها بألوان من الحيل السخيفة. وكثيرةٌ هي الدلالات الصريحة لألفاظ قرآنية عربية فصيحة، أبى «التنويريون» إلا أن يستبدلوا بها دلالات أخرى ليست من منطق العربية ولا منطق العقل ولا منطق الشريعة في شيء. ودعك من الوقاحة التي تحمل بعضهم على أن يقولوا في أسلوب القرآن قولا عظيما؛ فقد رصد الناس مما تجرّأ به أركون على القرآن زعمه أن الفكر المعاصر يجد القرآن -بحكم تعوّد هذا الفكر اتباعَ نوع معين من البرهان والإيحاء والوصف والسرد- «مدعاةً للنفور بعرضه غير المنظم، واستخدامه غير المعتاد للخطاب، ووفرة إيحاءاته الأسطورية، والتاريخية والجغرافية، والدينية، وكذلك بتكراره وانعدام ترابطه». وزعمه أنه «نادرا ما تشكل السور القرآنية وحدات نصية منسجمة». ورميه سورة الكهف بالتفكك والتبعثر نتيجة قيامها على تداخلات نصية تعالقت بها مع نصوص التاريخ القديم!
وإن شئت أن تأخذ نماذجَ من التساهل الغريب في صرف دلالات الألفاظ القرآنية عن وجوهها المتفق عليها بحكم منطق اللغة والعقل والشريعة، فانظر إلى قراءة محمد شحرور لآيات الحجاب من سورة النور، حيث فسّر الزينة بأنها الجسم كله لا مواضع تزين المرأة بالحليّ، وبنى على ذلك قوله: «إن المرأة المؤمنة يحق لها أن تظهر عارية تماماً أمام «الزوج» و«الأب» و«والد الزوج» و«الابن» و«ابن الأخت» و«الأخ» و«ابن الأخ» و«ابن الأخت» المذكورين في نص الآية (31): نعم يجوز إن حصل ذلك عرضاً، وإذا أرادوا أن يمنعوها فالمنع هو من باب العيب والحياء وليس من باب الحرام، لأنه شملهم مع الزوج».
وفسّر الجيوبَ المطلوبَ ضربُ الخُمُر عليها لسترها بأنها الشقوق ذوات الطبقتين، وهي في المرأة ما بين الثديين، وما تحت الثديين، وما تحت الإبطين، والأليتان؛ وفسّر ضرب النساء بأرجلهن ليُعلم ما يخفين من زينتهن، بأنه السفر إلى حيث تعمل المرأة عارضة أزياء، أو تستمتع بالسباحة في البحر أو المسبح، حيث تظهر جيوبها التي حدّها شحرور فيما يغطيه لباس القطعتين!
فأيُّ اجتهادٍ لغوي أوصله إلى هذه المعاني؟ وأيُّ شذوذ عن العربية، وجنوحٍ عن المذهب السوي في التحليل اللغوي، تورّط فيه؟ وأيّ عزوف عن الاستعانة بالرصيد التفسيري، والتراث العلمي اللغوي للأمة، تجرّأ عليه؟ وأي موضوعية وعلمية تبقى بعد كل هذا التسيب والارتجال والضرب في متاهات التأويل بلا دليل!