اتجاهات

عن الأمراض الروحية والنفسية وعلاجها

عبد العزيز كحيل/

الأمراض الروحية والنفسية في تزايد كبير في مجتمعنا، و لها أثرُها على الأبدان، وهي خلف كثير من الأمراض العضوية: الانهيار العصبي، قرحة المعدة، القولون، الأمراض الجلدية، تساقط الشعر، اضطراب النوم… يعرض المصابون أنفسهم على الأطباء لكن بعض هؤلاء – ولا أقول كلهم – أصبحوا يتاجرون بالمرضى كمصدر ثراء، والمريض عندهم ليس صاحب ألم أو همّ أو غمّ في حاجة إلى تكفل نفسي وبدني بل هو مجرد مبلغ من المال يتمّ الحصول عليه في دقائق معدودة وتُرجى عودته إلى العيادة مرات ومرات من غير طائل، أما الأدوية التي يأمرون بها فهي أولا من نوع جنيريك، لا تنفع بل تسبب أمراضا إضافية، وعلى كل حال المستحضرات الكيماوية لا تعالج مثل هذه الحالات فاضطر الناس إلى البحث عن الطب البديل فكانوا كمن يستجير من الرمضاء بالنار، لأن ما يسمى الطب البديل هو في كثير من الأحيان نصبٌ واحتيال على يد بائعين للأعشاب أصبحوا أطباء يعالجون الأمراض المستعصية، ومشعوذين وأميّين صاروا «رقاة» يطاردون الجن والعفاريت والسحر الأسود، ومشتغلين بالتنمية البشرية، وهي شيء أشبه بالضحك على الأذقان، وممارسين للحجامة – وهي نوع من العمليات الجراجية – يداوون بها الصداع والصرع وألم المفاصل والكيست والمثانة والخلعة !!!…وكل هذا زاد المرضى رهقا.
ولا بد من وقفة هنا مع ما يطلقون عليه الطب النبوي لأن لدينا تحفظا كبيرا على المصطلح وعلى المضمون، فالرسول صلى الله عليه وسلم بُعث هاديا ولم يُبعث طبيبا للأبدان، وما ورد عنه من آثار في هذا الباب هو من قبيل المعارف الانسانية وليس وحيا من الله، لأن هذا لم يقم عليه أي دليل، بل يدل سياق جميع الأحاديث في الموضوع أنه صلى الله عليه وسلم أشار على المرضى بأنواع من العلاج معروفة في تلك البيئة، وليست من علم الطب في شيء، فهي من مجال المباح وليست من مجال السنة، وهذا رأي العلامة ابن خلدون، وهو موافق لصريح العقل ولا يخالف صحيح النقل.
ولعل أخطر ما في الأمر أن كثيرا من الذين يعانون أمراضا نفسية غاصوا في الخرافات وكانوا ضحايا للدجالين والمشعوذين، يلخصون الحالات النفسية في العين والمس والسحر، فصار معظم الناس مهلوسين يرون الجن وعين الحساد خلف كل صغيرة وكبيرة!!! وهذا في حد ذاته مرض خطير … إن هذه الحالات المتزايدة نتيجة في أغلب الأحيان للواقع المادي العلماني المنقطع عن هدي السماء، وكيف ينعم الناس بالطمأنينة والسكينة وحياة أكثرهم أزمات، قلق، اضطرابات نفسية، هيجان عاطفي، عدوانية بسبب ضغط الواقع، أبناؤهم متسربون من المدارس، أسر لا مساكن لها، البطالة تسحق الشباب وأرباب العائلات، فتيان وفتيات عاجزون عن الزواج، أصحاب حقوق مظلومون من طرف الإدارة ومؤسسات الدولة ومن طرف الأقوياء، متفوقون في الدراسة ونوابغ مهمشون محتقرون، مرضى غير متمكنين من العلاج في الداخل أو الخارج… هذا ما يقف خلف الأمراض الروحية والنفسية، وهي ألغام مزروعة في صدور الناس وفي عمق المجتمع تقود إلى قلة الدين بل إلى الكفر والعدوان، وبالتالي إلى ذهاب الطمأنية وانعدام السكينة وقلة الراحة الداخلية التي تصنع السعادة، وزاد الطين بلة انقطاع كثير من المسلمين عن الدين… فمن أين لهم الهناء والطمأنينة والسكينة وتذوق القرآن في زمن طغيان المادة وهم يرون المسؤولين في بحبوحة من العيش، في قصور وأرصدة في الخارج، واللاعبين والمطربين يتقلبون في أعطاف النعيم تغمرهم أموال طائلة؟ من أين لهم الاستقرار النفسي؟
والحل؟ لجأ الكثيرون إلى الشعوذة (بعضها باسم الرقية) والحجامة (ولا دخل لها في هذه الحالات إطلاقا، بل هي ممارسة للعمليات الجراحية بدن مؤهل علمي ولا قانوني)، والتنمية البشرية (وهي في رأيي مجرد وهم كبير) بينما معظم أمراضهم نتيجة طبيعية لابتعادهم عن طريق الهدى الحق، فتدينهم – إن كانوا متدينين أصلا – سطحي جد، لا يذكرون الله إلا قليلا و بقلوب ساهية، لا يحافظون على الصلاة في أوقاتها وبآدابها …
إننا في حاجة إلى علاج روحي نفسي يستقي أدويته من القرآن الكريم والأدعية النبوية، بدءا بالطهارة الظاهرة والباطنة وملازمة الصلاة والتلاوة الواعية والأذكار المأثورة والعمل على التحرر من العبودية للمادة حتى نكون عبادا لله لا للدنيا، نمشي على الأرض وقلوبنا معلقة بالسماء، نعمل للدنيا ومبتغانا هو رضا الله والجنة…تظنون هذا مستحيلا في زماننا؟ أبدا، بل هو ممكن كما جرّب كل من دخل العيادة الإلهية وتناول الأدوية الربانية…لكن هذا يحتاج قبل كل شيء إلى الفهم الصحيح البعيد عن الخرافة وحكايات الجن والسحر والعين ( أنا لا أنكر هذه الأشياء، فهي ثابتة بنص القرآن والسنة وبالواقع، لكن أنكر اتخاذها تفسيرا لحالات نفسية واضحة والمبالغة في ذلك)، وللإسلام عناية كبرى بالصحة النفسية للفرد والأسرة والمجتمع، وهذا الاسلام ليس مواعظ فقط ولا أحكاما فحسب بل هو منهج للحياة يوفر الأمن النفسي عبر تلاوة القرآن وخاصة عبر تطبيق تعاليمه، والخطوة الأولى في العلاج هي أن يرجع المسلم إلى فطرته التى خلقه الله عليها وليس غير ذلك، حينذاك يكون متصلا بالله بشكل قوي فيملك الطاقات الإلهية التي تجعله يشفى من أسقامه …صحيح هذه ليست وصفة سحرية لأن المجتمع غير مهيأ للتفاعل مع حقائق النفس والتأثر بمعاني القرآن، لكنها أفضل من اللجوء إلى ما يسمى الطب البديل بأنواعه.
وقبل هذا نحتاج إلى توفيق الله تعالى وتنزل رحمته علينا نحن العباد الضعاف المغلوبين…فلْنغيّر نمط حياتنا من التبعية للدنيا إلى الإقبال على الله في تديّن واعٍ بصير صادق، ولنتسلح بالإرادة الصادقة ولنعد ترتيب حياتنا بناء على قول الله تعالى «ففروا إلى الله».

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com