قضايا و آراء

على من يضحك الشاب (كالد)؟!/ : جمال نصر الله

 

الخرجة الأخيرة التي اطلع لنا فيها “كينغ الراي”، ليست أكيدا بالأولى من نوعها. فقبله فعلت “الزهوانية” نفس الشيء…! وعدد من رواد الملاهي والكباريهات، أو ممن يُنعتون بالأصوات المصنوعة بالأجهزة “الروبوتيكية”..! يوم ينخرطون في عالم الفن الغنائي ساعين متلهفين نحو النجومية…ليس اعتمادا على مواهبهم الخارقة فحسب، بل على حساب التكنولوجيا والمال الوفير؛ ثم حين يشعرون بالذنب بعد عدة سنين من السقوط في الموبيقات، ويتخذون من زيارة المقدسات خاصة مكة المكرمة وما أدراكم ما مكة المكرمة! محجا مؤقتا لهم ثم سرعان ما يعودون لعاداتهم القديمة، وكأن بالحج أو أداء مناسك العمرة في مخيال هؤلاء هو مجرد مِرش أو حوض ماء يغسلون فيه أجسادهم ويطهرونها ثم يبدؤون صفحة جديدة..! وما هي بجديدة؟! إنما هي تلاعب بمبادئ هذه الأمة السمحاء وقيمها التي تربت وعهدت نفسها عليها أبا عن جد…! وفي أذهانهم أن زيارة هذه الأماكن المقدسة تُمحي الماضي السيئ، وكل ما ارتكب من ذنوب وأخطاء، ولو كانت مكة هي من تغفر للناس جمعاء وتدخلهم الجنة لكان لكل سكان السعودية وما جاورها ذلك…! وإنما نقصد بأن الحج أحد الأركان الخمسة، ولا يمكن التغاضي عن الأركان الأخرى.

“ملك الراي” زار السعودية ولسنا ندري هل ذلك بطلب من هذه الدولة التي تريد أن تثبت للعالم بأنها دولة منفتحة وليست متزمتة ومنغلقة على نفسها؟ أم برغبة شخصية من هذا النجم الذي أراد أن يثبت هو كذلك للجميع بأنه يحترم المقدسات العربية الإسلامية؟ وأنه ابن عائلة لازالت تتشبث بقيم وعادات أغلب الجزائريين.. وأن يمحو من مخيال من ينعتونه بأنه صنيع جهات غربية خاصة تلك علاقته بـ”ميشال ليفي” المناجير الذي كان له الفضل في إقعاده على منصة العالمية …؛ المهم أن مناسك العمرة تمت ..ولكن… المهزلة هو ما حدث بعدها مباشرة أي أثناء زيارته للعاصمة جدة وأدائه لأغاني سبق وأن صدحت بها حنجرته في مرابض أقل ما يقال عنها أنها مجالس للخمرة والخمارين …مثلما فعلت “الزهوانية” تماما. الفرق فقط أن “الزهوانية” حجت إلى بيت الله الحرام، لكنها إلى الغناء في الجزائر بعد أدائها لمناسك الحج الأكبر…!؟

مع بداية الستينيات كتب الأديب العربي طه حسين في الشعر الجاهلي. متهما فيه الكثير من العلماء بأنهم هم من قاموا بكتابة المعلقات ونسبها إلى الأعشى وامرؤ القيس وطرفة بن العبد، حتى قال بأن القرآن هو من الشعر وسجع عادي بإمكان أيا كان كتابته…! ثار بعدها مباشرة أئمة وعلماء الأزهر وأرادوا حرق بيته، ثم تراجع هو عن أقواله، وأكد ذلك يوم زار مكة المكرمة، ومسك بستار الكعبة وراح يذرف دموعه باكيا تعبيرا عن خطئه الفادح…! لذلك ظل رأي العلماء فيه أقل سخطا وعفوا عنه، بحكم أن الأديب اعترف بخطيئته في حق قيم الأمة؛ ولكن أدباء بعده لم يفعلوا مثل طه حسين بل جاوزوا كل الحدود وتمادوا بطلاقة مجنونة أقل ما يقال عنها أنها مروق وأشبه بالزندقة …! حتى كان مصير كل منهم  مختلفا ولا يُحسدون عليه بل سيئا. وهو في الواقع لا يمكن البتة مقارنة طه حسين بـ”الشاب خالد” أو “الزهوانية” أو غيرهما، وإنما أردت من خلال هذا المثال أن أوضح بأن الأديب المفكر يبقى أديبا ذو ضمير حي ومثقف من الدرجة الأولى، قابلا للتحاور وتصحيح الأخطاء، عارفا للحق والحقوق والعلوم، وليس عاصيا متمردا. مثل بعض من يصفون أنفسهم بالفنانين في مجال الغناء؛ ولو رجعت لبداياتهم، وكيف دخلوا هذا المجال لندمت على سماع حتى أسمائهم وليس أعمالهم ؟!

فالأديب الحقيقي هو من يبدع للعامة وليس أن تكون كتاباته وإبداعاته شاذة خارجة عن الإجماع، وتدعوا للخلوة والسمر المباح… وفي خدمة زمرة أو شلة متخندقة في زاوية ما.

لقد قرأ الجميع بأنه لدى العلمانيين ثقافة طلائعية، مفادها أن ما لقيصر لقيصر، وما لله هو لله؛ لكنهم للأسف لا يطبقونها، بل يخلطون بعضها ببعض إلى درجة أنهم يعتقدون بأن لا أحد يراقبهم أو يحاسبهم..!؟ فهم يفبركون الحريات كما يشاؤون، ويفهمونها حسب ميولاتهم وملذاتهم، فالتعامل مع المقدسات بالنسبة إليهم كالتعامل مع أي مكان آخر يمارسون فيه سلوكياتهم، ويعرضون فيه إنتاجاتهم.

المطرب “خالد” أكيد وقع في هذا التناقض الصارخ، وهو لا يدرك بأن المقدسات لدى أية ديانة وجودية وربانية لا يمكن مزجها بنقيض لها، فالعبادات والعقائد تعني الخشوع التام والوفاء لأصول ومقاصد هذا الدين أو ذاك، وليس ممارسة النقيض في نفس اليوم والساعة مثلما فعل هو حين نزل إلى مسرح الغناء بمدينة جدة (السعودية)، حيث هتافات الشباب المتعطش حتى لا نقول المراهق!

وما الضرر إن غنى “الشاب خالد” أو غيره من “المغنين”؟ فهل هو غير منطقي أن يضع الإنسان عامليّ المكان والزمان في الحسبان؟ لقد وجب ذلك شئنا أم أبينا؟ وباختصار مفيد، لأن الحديث يطول في هذا الشأن، نقول إذا بأنها وبلا شك ظاهرة “شيزوفرينية” تضاف إلى باقي أنواع “الشيزوفرينات” المتوارثة في الشخصية العربية، والمتجذرة عبر السنين، ولا يمكن معالجتها أبدا إلا من خلال الإنسان نفسه، سواء كان فنانا؟ أو مسؤولا سياسيا؟ أو حتى مجرد اسكافيا؟

 

djamilnacer@gmail.com

 

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com