جامعة قسنطينة (1969 ــ 1975)بمناسبة مرور نصف قرن على تأسيسها (5)
نتائج إصلاح التعليم العالي في السنة الجامعية (1975/1971م) بإشراف الوزير محمد الصديق بن يحي (رحمه الله)
أ. د. محمد عيلان */
التنظيم العام لمرحلة التدرج وما بعد التدرج
أهم إنجاز في ميدان التعليم العالي بالجزائر في نهاية العشرية الأولى وبداية العشرية الثانية من الاستقلال كان متمثلا في فك الارتباط بمنظومة التعليم العالي الفرنسي وذلك بــ:
أ ــ التخلي عن نظام الكليات والتحول إلى هيكلية علمية جديدة بالجامعة، حيث حولت الكليات إلى (معاهد)، وأعيد النظر في تنظيم تخصصاتها العلمية لتتوافق في نظامها العلمي مع مشروع المعاهد، التي كان من ثمارها خريطة الطريق التي رسمها المجلس الوطني للبحث العلمي (C.N.R.S) (وقد كنت عضوا به أول تأسيسه سنة 1972 إلى سنة 1978)، ومن هنا فإن التخصصات التي كانت ممثلة في الدوائر بالكلية، تحول بعضها إلى معهد مستقل بتخصصاته الداخلية، وبعض الدوائر أدمج مع دوائر أخرى في معهد واحد؛ فمثلا كلية الآداب تحولت (دائرة الأدب والثقافة العربية) بها إلى (معهد الأدب والثقافة العربية) مستقلا عن غيره، وأقسام أخرى انضوت تحت اسم (معهد العلوم الاجتماعية) تضم: التاريخ، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، وغيرها من التخصصات التي لها صلة بالعلوم الاجتماعية، و(دائرة اللغة الفرنسية) أصبحت مع دوائر علمية أخرى معهدا يسمى: (معهد اللغات الأجنبية) وهكذا.
ب ــ تغيير المدة الزمنية للحصول على شهادة الليسانس في الآداب لتصبح أربع سنوات؛ موزعة على ثمانية سداسيات (السداسي مصطلح يعني ستة أشهر) بمكونات معرفية وببرامج تنظيمية جديدة مواكبة لطموحات الجزائر في تطوير منظومة التعليم العالي، والتخلي عن نظام الشهادات الموروث عن الجامعة الفرنسية.
ج ــ تغيير نُظُم الامتحانات وطرائق ومعايير التقويم للمعارف في مرحلة التدرج.
د ــــ إعادة النظر في النسق المعرفي للمواد المقررة من حيث محتواها وربطها بحاجيات المحيط الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي للجزائر.
ه ــ تغيير بنية ومدة التكوين في الدراسات العليا بعد شهادة الليسانس من نظام دبلوم الدراسات العليا المعمقة (سنة واحدة)، وشهادة دكتوراه الدرجة الثالثة (ثلاث سنوات)، وشهادة دكتوراه الدولة في النظام الفرنسي (أربع سنوات) إلى شهادتين هما: شهادة الماجستير وشهادة دكتوراه الدولة وفقا للنظام الانكلو سكسوني، وفي مرحلة الماجستير يتلقى الطالب محاضرات في المناهج والمنهجية وبعض المواد المتعلقة بالتخصص ثم يتجه لتحضير رسالته. وقسمت السنة الدراسية الجامعية إلى (سداسيين/فصلين).
وتبع ذلك أيضا ظهور مصطلحات تعبر عن مرحلة الدراسة الجامعية، كالتدرج وهو سنوات الدراسة الأربع للحصول على شهادة الليسانس، وما بعد التدرج لمرحلة الماجستير (سنتان) ودكتوراه الدولة (ثلاث) سنوات. وهكذا فقد بدأت تنشأ مصطلحات أكاديمية تنظيمية جديدة واكبت هذا التحول.
و ـ تغيير نظام التكوين في مرحلة (الليسانس)، ونظام إنجاز الرسائل، وتسمية الشهادات والمدة اللازمة للحصول عليها، والتقديرات التي يكافأ بها الطلبة على أبحاثهم أمام لجان المناقشة لنيل شهادة الماجستير أو الدكتوراه بأحد التقديرين: (مشرف أو مشرف جدا). وفي كل ذلك لم تخرج الجامعة الجزائرية عن النظام العالمي في التعليم العالي.
ز ــ إنشاء التكوين المتخصص فيما بعد التدرج في (العلوم القانونية) مدة الدراسة به سنتان يمنح الطالب شهادة مهنية، تمكنه بعد النجاح من الارتقاء في مهنته الإدارية، لكنها لا تؤهله لمواصلة الدراسة لنيل دكتوراه، تسمى هذه الشهادة: (دبلوم الدراسات العليا المتخصصة D.E.S.S)، وهذه الشهادة كانت الظروف الإدارية تتطلب أعوانا مقتدرين متمكنين من القوانين الإدارية؛ لأنهم ذاكرة الدولة بحكم وظائفهم الإدارية واستمرارهم فيها.
ح ـ تعريب العلوم الاجتماعية لصلتها مباشرة بالضرورات الاجتماعية والثقافية والسياسية للدولة الجزائرية؛ ولذلك ما كان العقد السابع من القرن العشرين ينتهي حتى كانت العلوم الاجتماعية بالجامعة قد تعربت بنسبة كبيرة جدا.
جامعة قسنطينة في مسار التطور:
1ــ تمثيل جامعة قسنطينة في المجلس الوطني للبحث العلمي (C.N.R.S).
في السنة (1973/1972) تأسس (المجلس الوطني للبحث العلمي بالجزائر (C.N.R.S). من أعضاء منتخبين من مؤسسات التعليم العالي وأعضاء من المؤسسات الاقتصادية والثقافية التي يتطلب حضورها. وقد انتخبني الزملاء الأساتذة عضوا ممثلا لكلية الآداب بجامعة قسنطينة، إلى جانب زملاء آخرين من الجامعة وكان الهدف من تأسيس المجلس:
أ. التخلص من المجلس الذي ورثته جامعة الجزائر عن الاستعمار الفرنسي المسمى هيئة التعاون العلمي (Organisme de coopération scientifique).
ب ــ دعوة الباحثين الجزائريين من مختلف الرتب العلمية والمؤسسات للتشاور وإعداد استراتيجية جديدة تنهض بالبحث العلمي، وتحديد معالم خارطة طريق؛ لمواكبة مرحلة البناء والتشييد التي تعرفها الجزائر، مع الانفتاح على البحث العلمي في الجامعات والمراكز البحثية في العالم. وقد كان أمر تسييره والتكفل بكل مستلزماته الإدارية والمالية وما يترتب عنه من اقتراحات قد تُرِك لوزارة التعليم العالي.
لقد كنا نجتمع في قصر الأمم في جلسات عامة، وورش عمل متخصصة، وكل ورشة من الورشات تقترح ورقة عمل تتضمن الواقع؛ من حيث عَدَدُ الباحثين في الجزائر وفي الخارج، وتحديد الأولويات للانطلاق بالبحث العلمي في الجامعات والمؤسسات الوطنية، وفي نهاية أعمال الورشات تطرح الاقتراحات في جلسة ختامية عامة للمناقشة والمصادقة، يحضرها المسؤولون التنفيذيون في الوزارات والمؤسسات الاشتراكية.
وأذكر من أساتذة ورشة الآداب والفنون التي كنت أحد أعضائها الدكتور أبو العيد دودو، والدكتور عبد الله ركيبي، والدكتور عبد الله شريط، ومصطفى كاتب، والدكتور بلهميسي، والدكتور زهير إحدادن.
وهكذا ظل المجلس في اجتماعات (فصلية) متواصلة؛ يقترح ويقدم نماذج لمشاريع تنموية واستراتيجية لمستقبل البحث العلمي وأولوياته في الجزائر حتى نهاية السبعينيات.
2 ــ الهيأة الوطنية للبحث العلمي O.N.R.S.
ولكي تكون اقتراحات المجلس الوطني للبحث العلمي(C.N.R.S). لها أثرها في الواقع العملي صدر مرسوم في فيفري عام 1974 بإنشاء هيئة تنفيذية للبحث العلمي تسمى: (الهيأة الوطنية للبحث العلمي O.N.R.S) كان يمثل جامعة قسنطينة بها السيد برارحي عبد الحق، عهد إليها تمويل مشاريع البحث العلمي الجامعي في الجامعات الثلاث عبر مراكزها التي تأسست بها، ومعالجة القضايا التقنية والاقتصادية والثقافية للمؤسسات الوطنية، وكان أغلب المسيرين والباحثين بها جامعيين.
3 ـــ مركز البحث العلمي (C.U.R.E.R) بجامعة قسنطينة.
في السنة 1973/1972 عُيِّن الدكتور عبد الحق برارحي مديرا لجامعة قسنطينة وفي الوقت نفسه مديرا لمركز البحث، وبدأت الجامعة تأخذ طابعها الأكاديمي، فأُسِّسَ بها مركز البحث العلمي (C.U.R.E.R)، وقد كنت مسؤولا عن دائرة النشاط الثقافي به، وكان أحد المراكز الثلاثة بجامعات الجزائر ، قسنطينة، ووهران، نتيجة توصية المجلس الوطني للبحث العلمي (C.N.R.S) في أول انطلاقته. اتخذ هذا المركز من مبنى الجامعة القديم (المدرسة) بشارع العربي بن مهيدي مقرا إداريا له، ليواكب القطاع الاقتصادي في مجال الثورة الزراعية، بإعداد المشاتل ورعايتها ثم توزيعها على الفلاحين أو المساهمة بها في مشروع السد الأخضر، لوقف زحف الصحراء نحو الشمال، وبدأت أنشطته وأبحاثه في (عين ببوش) و(الضلعة) بولاية (أم البواقي)، ثم اتجه إلى ولاية (المسيلة) لدراسة إمكانية إحياء زراعة الزيتون التي ذكرتها المراجع التاريخية، ومنها ابن خلدون، فقد ذكرت (المراجع التاريخية) بأن منطقة (المسيلة) تتوفر على احتياط كبير من المياه الجوفية، حيث كان السكان يحفرون في الأرض بمقدار قامة/طول جسم صبي عمره ثمان سنوات يصلون إلى الماء، وعندما أرسل مركز البحث العلمي بالجامعة بعض المهندسين بعتادهم فحفروا في أماكن متباعدة في المناطق المحيطة بـ (المسيلة) إلى غاية (منطقة بوسعادة) وجدوا عروق أشجار الزيتون وغيرها تحت الردم؛ مما يدل على أن المنطقة كانت غنية بهذا النوع من الأشجار..
4 ــ مشروع انفتاح كلية الآداب والعلوم الإنسانية على المحيط الثقافي والاجتماعي.
أ ـ في السنة الجامعية 1971/1970 م دعا الدكتور العيد مسعود عميد كلية الآداب لمشروع نشاط ثقافي تتبناه الكلية، يقوم به أساتذة الكلية أسبوعيا بقاعة عامة خلف البريد المركزي بقسنطينة، تسمى (الجامعة الشعبية)، وأُعد لذلك برنامجا يتضمن سلسلة من المحاضرات الأسبوعية في الأدب والثقافة والتاريخ.. تواصلا مع المحيط الثقافي والاجتماعي بالمدينة، لكن ذلك لم يستمر طوبلا.
ب ـ في 1974/1973م تطورت مكتبة جامعة قسنطينة بعين الباي تطورا بينا؛ وتوفرت بها نسبة كبيرة من الدوريات والكتب الأدبية والعلمية والقانونية، سواء تلك التي اقتنتها الجامعة من البلدان العربية والأجنبية، أو تلك التي تبرعت بها مؤسسات جامعية في إطار التعاون. فأصبحت تلبي نسبة لا بأس بها من حاجة الطلبة إلى المراجع في العلوم الإنسانية والقانونية.
ج ـ محاولة الجامعة برئاسة السيد عبد الحق برارحي في سنة 1973/1972 وما بعدها الانتقال إلى العالم الافتراضي مع الجامعات الأجنبية في سويسرا وفرنسا وبلجيكا..، رغبة في تواصل طلبتنا في العلوم الإنسانية مع باحثين وأساتذة في تخصصاتهم، وأحضرت التجهيزات اللازمة لذلك، ووضعت في قاعات عمارة الآداب إلا أن المشروع لم يكتب له النجاح. وفي نفس السنة اشترت الجامعة مخابر تقنية لتعليم اللغات الأجنبية وتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها وعُرِضت طرائق عديدة لمستويات تعلم اللغة العربية أبرزها طريقة لغويين عرب في بلجيكا..
انفتاح الجامعة على المحيط الجامعي الخارجي.
1 ــ في 1974/1973 وقَّعَت جامعة قسنطينة وثيقة توأمة مع (جامعة غرونوبل) بفرنسا بفضل أمينها العام السيد (موران) لارتباطه بمدينة قسنطينة اجتماعيا، بسبب تعلق والدته الفرنسية منذ نشأتها بمدينة قسنطينة، إذ كانت تقيم في حي (المنظر الجميل)، ولا ترغب في مغادرة قسنطينة على ما قيل، وبوساطته سجل بعض الطلبة في جامعة غرونوبل، وكنت رفقة زوجتي المعيدة بالكلية، قد حصلنا على منحة من وزارة التعليم العالي لتحضير شهادة الدراسات العليا في الأدب المقارن بفرنسا. لكننا لم نستطع الالتحاق بسبب أداء واجب الخدمة الوطنية..
2 ــ مجلس استشاري لتطوير جامعة قسنطينة:
وكعادة جامعة قسنطينة في الإنجاز والتفوق في مستوى التكوين، تأسس في نهاية السنة 1972م مجلس استشاري من أساتذة الكليات (جزائريون ومتعاونون أجانب)، رأسه الدكتور عبد الحق برارحي مدير الجامعة، يتكون من مجموعة من اللجان، مهمتها تطوير الجامعة والانفتاح على المؤسسات الاقتصادية والتكفل بانشغالاتها، وتقديم الرأي والخبرة، في إطار الخارطة الجغرافية لجامعة قسنطينة، عهدت أمانته الإدارية للسيد (محمد دريدي) مدير المكتبة.
يتبع