أزْمتُنا !!! بين تشخيصاتٍ متناقضة!!
أ.د: عبد الحليم قابة/
أتصور أن أزماتنا لا تنحصر في تصور الناس (خواصهم وعوامهم) للعلاقة مع اليهود والنصارى، (رغم وضوحها في النصوص الشرعية في مجموعها).
– بل تنحصر في انبطاحنا أمام زحفهم وطغيانهم واستكبارهم، وفي بيع الأرض والعرض لهم، وفي تسلط من يسيِّرنا بمناهجهم ومبادئهم، وفي من يتفانى في الولاء لهم على حساب ديننا وعِزَّة أمتنا، وفي افتتان الناس بأوضاعهم، وتقليدهم بجنون فيما يخالف العقل والنقل والذوق.
وأتصور أن أزمتنا ليست في تراثنا وتعامل بعض الناس معه تعامل المقدس أو المعصوم أو مع التعميم الزماني والمكاني، مما لا يختلف الدعاة الهداة -الآن – والعلماء الفقهاء -عبر الأزمان – في كونه خطأً منهجياً وقع – ولا زال يقع – فيه بعض الكاتبين، أو المعلمين، أو الواعظين، وليس جميعهم، دون ريب.
– إنما أزمتنا في تقديس تراث الآخرين واحتقار تراث أمتنا التي أجمع عقلاء الباحثين ومنصفوهم من المسلمين وغيرُهم على عظمته، وعلى أن جوانبه المشرقة أكثر بكثير من الجوانب المظلمة ومن المحطات التي لا تشرف الدين الذي يُنسب إليه..
– إنما أزمتنا في منهج الكيل بمكيالين بحيث لا يترك الباحث الناقد المفتون صورة مشرقة لأمته إلا وتغافل عنها في حين أنه يبحث عن مثلها عند غيرنا بالملاقيط والميكروسكوبات لينشرها ويوظفها في مسار الانبهار الذي صبغت به بحوثُه وكلامه ومحاضراته.
وفي الوقت نفسه لا يترك صورة من أخطاء الأفراد في أمتنا إلا وأبرزها ودل الأعداء عنها، ناسيا أو متناسيا الستر المطلوب شرعا في حق عباد الله المؤمنين، أو التوظيف الراشد في السياق أو اختلاف الاعتبارات المطلوب لزاما في مناهج البحث عند عباد الله المنصفين.
– أتصور أن أزمتنا في مخالفة قوله تعالى:{وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}.
وأتصور أن أزمتنا ليست في القولبة (المزعومة!!!) ومنهج القطيع (المُدَّعى!!!) بحيث يترك الإنسان قناعته الإسلامية السابقة ويقينه الجازم؛ ليتبع قناعات المستشرقين والمستغربين!!! ومن دعا بدعوتهم من المقلدين!!!
فليست أزمتنا – والله – في قناعة المسلم:
– بوجوب الاحتكام إلى الشرع وأفضليته على كل ما عداه، لقوله تعالى:{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}.
– وبإيماننا بعذاب القبر الذي ذُكر في القرآن وتواترت به أحاديث النبي التي بلغت المئات. والمعروف أنه ليس هناك من سبيل للإيمان بالغيب وأخبار الأمم الغابرة إلا الخبر الصادق عند جميع العقلاء، ومن ينكر ذلك فلا يصح إدراجه مع العقلاء.
– وبإيماننا بأشراط الساعة الثابتة بالأخبار المتواترة أيضا.
– وبيقيننا بأن قسمة الرحمن للتركات لا يمكن أن يطالها نقص أو خلل بخلاف أحكام البشر.
– وبإيماننا بأن الدين عند الله الإسلام (الذي هو دين جميع الأنبياء) وأنه آخر الأديان وناسخ لها جميعا، وأن ما خالفه باطل لا محالة ولن يُقبل من صاحبه أبدا {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ…} {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ}.
وأن مقولات اليهود في حق الله، وقول النصارى بألوهية عيسى تكاد السماوات تتفطرن منها وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا، وغير ذلك من شأن الكافرين؛ لأن القرآن مليء بهذه الأحكام التي يعدُّها بعض الناس – ممن لم يتدبر القرآن – إقصاءً أو ظلماً أو نحو ذلك، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرا.
وأتحدى كل من عنده شك في كفر اليهود والنصارى بعد بعثة محمد وبلوغ دعوته إليهم، إذا عاندوا ولم يسلموا أن يفتح القرآن ويقرأ بإنصاف ودون خلفية هذا الكلام ولا غيره، ثم يحاكم هذا الكلام وكذا كلامَ المخالفين لكلام الله الحق المبين {وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} ثم يقرر بعد ذلك ما يشاء!!!
وأقتصر هنا على أمثلة:
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ َجزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} . فماذا تقولون بعد هذا الكلام ؟؟؟
وقال تعالى – أيضا -:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ}.
فهل هناك ما هو أصرح من هذا؟؟؟
والآيات كثيرة جدا لا أدري كيف غفل عنها الغافلون؟؟؟!!!
أما معاملة أهل الكتاب في هذه الدنيا فأمر آخر؛ فقد ميَّز الله بين المحاربين وغير المحاربين:
فقال عن المحاربين:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}.
أما غير المحاربين فقد قال الله لنا {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.
– فماذا على المسلم المطيع، الذي يؤمن بأن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، إن استجاب لأمر الله، وتقولب في هذا الإطار الرباني، ولم يقبل أيَّ كلام آخر – غير كلام الله ورسوله – يزيّنه الشيطان أو يُنمَّقه صاحبه بأسلوب الإثارة أو التجرؤ أو نحو ذلك.؟؟؟!!! أتصور، أيها المنصفون، أن أزمتنا ليست في بعض أحكام الشرع، كأحكام الميراث، ووجوب الستر والعفاف، وليست في التزامنا بفتاوى علمائنا إذا لم يتبين خطؤها، وليست في استدعاء ماضينا لنستنير به في حاضرنا، أو نحو ذلك من تشخيصات الأعداء الماكرين، والتي اجترَّها – للأسف – مَن ظاهرُهم أنهم أولياء.
– إنما أزمتنا في مخالفتنا للثابت من أحكام الشرع، وفي إحياء أوضاع الجاهلية أو إقرارها والرضى بها (الفجور والتبرج وغيرهما)، وفي مخالفتنا للراشدين من علمائنا – سلفا وخلفا – واتباعنا لأشباه العلماء، وأنصاف العلماء، وأعداء العلماء، ومن لم يتعلم ضوابط العلم عند العلماء، وفي تمردنا بجرأة وإسراف، أو تقوقعنا بجهل وإسفاف، على ماضي أمتنا بصوابه وخطئه، وفي حسن ظننا وثقتنا المطلقة بالمستشرقين ومن تبعهم من المستغربين، ثم بمن يردد مقولاتهم بانبهار من المعاصرين التابعين.
أتصور أن أزمتنا -الآن – ليست في الخطاب المسجدي ، الذي لو وَجد الأعداء سبيلا لحرمان الناس منه ومن بركاته على الأمة ودينها لفعلوا؛ كما صرَّحوا؛ لأن محاذير الجهل، والغفلة عن الواقع، والتقوقع على أخطاء الماضي، والموضوعات الميتة، والخطاب البارد، وكل ما أنكره العقلاء والمجددون، ومعهم هؤلاء المقلدون، على الأئمة والخطباء، عولج كثير منه بفضل الله، ثم بسبب انتشار الوعي، وارتفاع المستويات، وبعض القرارات الراشدة والمعاهد الراقية التي صححت هذا المسار، بحمد الله، حتى غلب (أو كثر) من أئمتنا الخطاب الراشد الذي يبني ولا يهدم، ويجمع ولا يفرق، ويُسهم في نهضة الأمة بقسط وافر، والحمد لله، وإن كان ما زال بعضٌ مما يُنكر موجودا، دون شك، لكن التهويل وربط كل أزمات الأمة به خطأٌ علمي منهجيٌّ ينبغي أن نتوب منه كما نتوب من الذنوب، وبخاصة أن له آثارا وخيمة على حرص الناس على الجمعة والجماعات التى ربط الله حياة القلوب بها.
أتصور أن أزمتنا الحقيقية في سوء فهمنا لديننا، وفي بعدنا عن حسن العمل به والانقياد لأحكامه، وفي فشلنا في حسن الدعوة إليه وتحبيبه إلى الناس جميعا.
ولا أخفيكم سرا إذا قلت أننا قد نشترك جميعا في ذلك أو في شيء من ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله، بل إني أخوف ما أخاف وأخوف غيري منه قوله تعالى:{ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}، ولا أستثني من أشبعوا أمتنا جلدا من المتأثرين بالمستشرقين وضُلَّال العلمانيين والحداثيين، بل إني أعتقد -والله أعلم – أنهم أسهموا في تخلفنا بالقسط الأوفر؛ وذلك بسبب زعزعة يقين الناس بالحق الذي نزل من السماء، وبشغلهم بما فرغت منه الأمة عما يجب أن ينشغلوا به من واجبات وقتهم وفرائض زمانهم، وبخدمة أعداء الأمة والمتربصين بها بالمجان، بل بنفقات سخية منهم على باطلهم، وبعدم تقديم حلول واضحة لا تصادم الثوابت، ولا يمكن تحويلها إلى مشاريع عملية، وبإسقاط ثقة الأمة في زعماء فكرها ورواد مسيرتها وأفذاذ علمائها، وبغير ذلك مما يحتاج إلى كتب ومحاضرات.
أتصور -أخيرا – أن أزمتنا ليست في التشخيص والتنظير، فقد سمعنا، وقرأنا، وكتبنا منه ما أوصلَنا إلى حدِّ الاكتفاء والتخمة.
– إنما الحلّ الناجح، والدواء الناجع لأزماتنا كلها يكمن في ما يلي:
– في تحويل التنظير إلى تنفيذ، والأحلام إلى واقع ملموس، وفي المبادرات التي ننتظرها لتملأ فراغنا بالعمل، وتبعدنا عن الجدل (فما ضل قوم بعد هدىً كانوا عليه إلا أوتوا الجدل).
– وفي التضحيات التي يُفرَّق بها بين التقيّ والدعيّ، وبين الصادق والكاذب.
– وفي مخالفة الأهواء والشهوات التي تقطع الطريق على طلاب الدنيا بالدين أو طلابها بمعاداة الدين، والتي يُميّز بها بين ما كان لله وما كان لغير الله.
– وفي حسن الارتباط بالله وذكره وطاعته وحسن الالتجاء إليه ليهديَنا لما اختلف فيه من الحق بإذنه، إنه يهدي من يشاء إلى طريق مستقيم.