الحـــق الـمر

آفـــــاق 2000

يكتبه د. محمّد قماري/

ليلة رأس السنة الميلادية، جلست على كرسي في شرفة المنزل، نام جميع من في البيت وبقيت وحدي، أنظر إلى السماء حينا وإلى ما حولي حينا آخر، أترقب (رأس السنة) لعله يطل عليَّ، ومضت الدقائق والساعات فلم أر رأسا ولا ذنبًا، غير أنني أدركت بأن سنة 2021 قد طويت وقد دخلنا فعلا سنة جديدة…
وما معنى جديدة؟ وما معنى سنة انقضت؟ وما الذي تغير؟ بل ما هو الزمن أصلاً؟ ولمَ يهنئ الناس بعضهم بالجديد وكأنهم تخلصوا من عبء ثقيل، وقد كانوا قبل أشهر يهنئون بعضهم بقدومه؟ إنني منذ وعيت وأنا اسمع الناس يتحدثون عن قدوم العام الجديد مستبشرين، ويستحثون الوقت في دواخلهم لطرد زمنهم الحاضر والاحتفاء بالمستقبل.
ولعل من مظاهر عبقرية اللّغة العربيّة، أنْ ليس فيها زمن (حاضر) منفردا، بل جاء وصف سيبويه لتقسيم الزمن في عبارة موجزة بليغة: «…بنِّيتْ لما مضى، وما يكون ولم يقعْ، وما هو كائنٌ لا ينقطع»، فتجد في أغلب اللغات حديث عن الحاضر (Le présent)، لكن ما الحاضر؟ أنت تقرأ الآن ما كتبته لك، وعند قراءة كل حرف وتجاوزه للذي يليه، دخلت قراءة ذلك الحرف في الماضي.
ولأجل ذلك، جاءت تسميات الأفعال الدالة على الزمن عجيبة في العربيّة، فالماضي (مبنيٌ) لا يحتمل الخلخلة أو اعادة التشكيل، أما (ما هو كائنٌ لا ينقطعْ) فهو يضارع الأسماء ويشبهها في الإعراب والحلحلة، فنحن لا نستطيع أن نغير ماضينا المبني خير أو شرًا، وبإرادتنا أن نتصرف فيما بين أيدينا أي في ما هو (كائنٌ لا ينقطعْ).
تلكم هي روح المغامرة مع الزمن، الفرح بالتخلص من الماضي (المبني) الذي لا نستطيع تغييره، والفرح باستقبال مجهول متحرك، يجعل منه الكسالى والمتكلين موسمًا للأماني وفقط، ويدرك العاملون النابهون أنه مادة للتخطيط والبرمجة، فالأماني والأدعية تكون في طلب التوفيق بأن تكلل تلك الخطط والبرامج بالنجاح، وليس دعاء مبهما مطلقا، مع تفاؤل يتسلح أصحابه بالعزيمة والإرادة لا تفاؤل القدرية والاستسلام…
وعندما عدت أستذكر ما مر من ماضي سنواتي، تذكرت منتصف عقد الثمانينيات (1980)، كان الرئيس الشاذلي بن جديد، رحمه الله، في بداية عهدته الرئاسية الثانية، وكان الحديث عن (نحو حياة أفضل)، ورفع شعار (آفاق سنة 2000)، وبدت لي سنة 2000 بعيدة جدا، وكأن القوم يدخلوننا في متاهة مستقبل بعيد !
ذلك ما شعرت به حقيقة في حينه، فإذا بنا اليوم نستقبل العام الذي يدخل فيه جيل الاستقلال سن التقاعد القانوني، أي نعم دخلنا سنة العقد السابع من الاستقلال، ومعنى ذلك حسب تعريف ابن خلدون للجيل، فإن جيلا ونصف جيل قد مضى من عمر الجزائر المستقلة، إذ الجيل عند ابن خلدون أربعين سنة، ومن واجب كل الذين عاشوا الزمن (المبني) أي الماضي قبل الاستقلال أن ينسحبوا، لأن أخيلة ذلك المبني في ذاكرتهم تشوش (المضارع) المتحرك!
لقد ابتليت البلاد مع انقضاء العقد الثالث من استقلالها سنة 1992 بفتنة هوجاء، مضى عليها اليوم ثلاثة عقود أخرى، وبعد عقد من الزمن أي في سنة 2032 إن شاء الله، يكون جيل كامل قد مضى من تاريخ تلك المحنة العاصفة، ومن الحكمة إذن أن تكون هذه العشرية التي تفصلنا عن ذلك التاريخ عشرية (التجديد) الوطني…
والتجديد يتطلب معماريين اجتماعيين وسياسيين وخبراء، ينظرون في خلل (المبني)، ويتجنبون الوقوع في الخلل الذي حدث، وهم يرسمون معالم البنيان الجديد، فإذا لم يكن باستطاعة البشر احداث تغيير في ماضيهم، فبمقدرتهم إصلاح حاضرهم ومستقبلهم، وهذا ما يمكن أن نطلق عليه (التوبة الجماعية)، بأن نخرج من معاصينا الحضارية، ونظرتنا نحو ما يكون جميلا لا البكاء على كان قبيحًا…
هذه هي قيمة الزمن، قيمته أن يكون (مواقيت) محددة للإنجاز والتعمير، ولذلك جاءت كل العبادات في الاسلام مرتبطة بـ(المواقيت)، فلا تصح قبلها ولا تصلح بعدها، بل إن المعاملات المالية كلها تنحدر من الاباحة إلى التحريم بفعل (المواقيت) ومنها ربا النسيئة، ومنها (الأجل المسمى) في الدين، ومنها بيع الثمار (قبل) بدء صلاحها…
وربما وجدنا من يردد المثل الفرنسي (Avant l’heure ce n’est pas l’heure et après l’heure c’est n’est plus l’heure)، وهو مثل يبدو ساذج في مفهوم أمّة مسلمة علاقتها بالزمن يفترض أنها منضبطة بالمواقيت، ويكفي الوقوف على ظاهرة أسماء السور: (العصر)، (الفجر)، (الضحى)، (الليل)… كلها تذكر بالزمن وأهمية المواقيت…

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com