على هامش التنوير

الجهل بالتراث العربي مشترَكُ «التنويريين» العرب

أ.د. عبد الملك بومنجل/

الحكم على شيءٍ فرعٌ عن تصوِّره ، وتصوُّرُه فرعٌ عن العلمِ به، والعلمُ بهِ ناتِجُ بذل الوسعِ في قراءته والإحاطة به، وقد يكون ناتِجَ حبِّه وتبجيله؛ وقد حكم «التنويريون» العرب على التراث العربي الإسلامي أحكاما جائرة خاطئة تدل على الجهل به، وعدم بذل الوسع في معرفته، وقد تدل على انتفاء حبه سلفا وقلة تقديره.
سيقول طائفة من أتباع هذا التيار: كيف ذلك وقد دلت دراستُهم له على تبحر في تتبع أصوله وفصوله، واستقصاء وديانه وحقوله؛ والكتب التي يذكرونها دليل على ذلك، والأسماء التي ينقدونها والنصوص التي يوردونها لا يحصل إيرادُها ثم نقدها إلا بذلك؛ فهل ترون أدونيس مثلا جاهلا بالتراث، وقد كتب «سِفْرَهُ» الضخم «الثابت والمتحول» كاشفا سعةَ علمه بحقول المعارف التراثية دينا وفكرا وسياسة وأدبا ونقدا؟ وهل ترون الجابري جاهلا بالتراث، وقد محّصه تمحيصا حتى استطاع أن يكشف خصائص العقل العربي ممزقا بين البيانية والعرفانية، عازفا، أو عاجزا في أكثره عن الاتصاف بالبرهانية؟ وهل ترون أركون جاهلا بالتراث، وهو الذي صال فيه وجال، ونبش في جذوره وأسراره حتى كشف ما تورّط فيه من الزيف والتزوير ومجافاة العقل، وما اتسم به من المحدودية والهزال؟
ونجيب: نعم، ولا يُنكرُ ذلك إلا من هو أشدُّ منهم جهلا به. ودليلُ ذلك في «أسفارهم» تلك، التي هي عندنا أصفارٌ في القيمة المعرفية، والدقة المنهجية، والمعالجة الموضوعية؛ إذ بُنيت أصلا على الهوى الإِدْيُلوجي مُضافا إليه الجهل المركب بالتراث والرغبة في نقضِه لا نقده، وفي هدمِه لا فهمه وتقويمه والبناء عليه.
نذكِّركم بفضيلة الاعتراف التي تفضل بها الفيلسوف زكي نجيب محمود، عندما اعترف بجهله بالتراث جهلا يكاد يكون كاملا، وإقباله على قراءته في أخريات حياته. ونضيف إلى ذلك ما يلحظه الدارسون المتمكنون المنصفون لما كتبه هؤلاء ينقدون التراث، من كوارثَ منهجية، ومهازلَ معرفية، وركاكة لغوية، تدل على أن تقصيرهم في طلب العلوم القاعدية التي هي شرط في فهم التراث ونقده، قد بلغ عندهم مبلغا. ثم نضيف إلى ذلك أن هؤلاء الذين يخوضون في القرآن والحديث، وفي الفقه والأصول، وفي علم الكلام والسيرة والسياسة والفلسفة الإسلامية، اقتحموا هذه الحقول من غير تخصص، وتكلفوا الخوض فيها من غير عدة، وزاحموا بمناكبهم أهلها وبهم من الجهل بأصولها والتمرس بأدواتها ما بهم. وقد قال الفيلسوف طه عبد الرحمن بشأنهم:
«لقد أنزل كثير من هؤلاء أنفسهم من التراث المنزلة التي لا يستحقون، فتكلموا فيه بما لا يعرفون، وتطاولوا على البت فيما لا يفقهون، مع إيجابهم على الناس قبول كلامهم فيه وترك ما يؤثر من خلافه. والحق أن قلة إطلاعهم على معارفه وضعف استئناسهم بمقاصده، لا ينازع فيهما إلا من هو أقل علما وأضعف أنسا، ولا أدل على ذلك من أمرين: قلق عبارتهم ونقص عملهم، أما قلق عبارتهم، فينطق به ما أنشأوا من أقوال لا تستقيم على أصول التبليغ العربي السليم، فكيف يصح إذن لمن لا يجيد لغة التراث أن يدّعي القدرة على تقويمه ! فمن أين يقع على حقيقة مضامينه وعلى كنه آلياته ! وأما نقص عملهم، فينبئ عنه أتباعهم الشاذ والغريب من الأقوال، فلا يطلب الشاذ إلا من يريد الزيغ عن الحق والمروق. ولا يطلب الغريب إلا من يريد المخالفة والظهور. ولا أشذ ولا أغرب مما ينقلون عن غير أهل هذا التراث، متوسلين به عند النظر في معارف التراث، ومحتكمين إليه في الحسم في قضاياه».
حين يخبط الجاهل في غير فنه فإنه يأتي بالعجائب. ولقد خبط هؤلاء «التنويريون» في أمازون التراث العربي الإسلامي غيرَ مزوَّدين بوسائلَ من أصول العلوم العربية والإسلامية، ولا معزَّزين بدليلٍ من شعور الانتماء إلى الحضارة الإسلامية والولاء للثقافة العربية؛ فلا تندهش إذا وجدت أحدهم يُقدم على تأويل القرآن بما تنكره اللغة وينكره التاريخ وينكره العقل أيما إنكار. ولا تستغرب إذا رأيت أحدهم يجرؤ على تفسيره وهو عاجز حتى عن الوفاء لرسمه؛ فقد رأينا أحدهم يورد الفعل (ترى) غير مجزوم في جل الآيات التي تبدأ بـ((أَلَمْ تَر)) ! وكفى بهذا الجهل بالنحو العربي والنص القرآني شاهدا ودليلا.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com