الباحـــث الأكاديمـــي الدكتــور بــدر الديــن زواقـــة للبصائـــر:
انشغلنا بالقرآن قراءة وتلاوة ولم ننتبه للقرآن الحقيقي "الإنسان"
حاورتـــه: فاطمــة طاهـــي/
أشار الدكتور بدر الدين زواقة، الباحث في الفكر الإسلامي، وأستاذ بجامعة باتنة، إلى أهم أسباب تخلف وركود الأمة الإسلامية، وإلى مشكلات الفكر الإسلامي واقعه وأسباب تأخره عن أداء دوره، كما تحدث الباحث الأكاديمي عن خصوصية المجتمع الجزائري مشيرا في هذ السياق إلى فقه المواطنة قائلا: “هو السبيل والحل الوحيد لكي نطور هذا الوطن”. وفيما يخص العمل الدعوي والتربوي والإصلاحي تحدث الدكتور عن غياب رؤية مؤسسية وعدم تطبيق علم الإدارة الحديثة، كما حدثنا أيضا عن تأثير وسائل الإعلام الجديد وكيف يمكنه أن يحمل مشروعا حضاريا ذا مرجعية دينية وإنسانية، ثم تطرق للحديث عن لغة الخطاب الديني وأداته وكيفية الارتقاء به حتى يحقق أهدافه في المجتمع، إضافة إلى دور الدراما الدينية الهادفة في الدعوة الإسلامية وفي تعزيز القيم الدينية لدى الناشئة، هذا وأفادنا الدكتور بدر الدين زواقة برؤاه حول العديد من القضايا التي تشغل الساحة الدينية من خلال أبحاثه المختلفة في مجال الفكر الإسلامي.
نبدأ بالسؤال الكلاسيكي في الإعلام، من هو الدكتور بدر الدين زواقة؟
-بدر الدين زواقة مواطن جزائري، إنسان يسعى إلى أن يجسد الرؤية الكونية في هذا الفضاء الجميل في دنيا الناس، يؤمن بالتواصل وشروط النهضة، أستاذ جامعي بولاية باتنة، مؤسس شعبة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في ولاية باتنة، والده من الجيل الثاني في جمعية العلماء المسلمين، حيث أسس مدرسة بـمسكيانة ولاية أم البواقي بأمر من الشيخ العربي التبسي، وهي المدرسة التي ولدت فيها أنا وإخوتي. بدر الدين زواقة يرى أن الأمة تحتاج إلى شبكة علاقات قوية جدا وإلى تصحيح مفهوم الدين من أجل انطلاقة جديدة.
في البداية دكتور كيف تبدو لك أزمة الأمة اليوم؟
-قضية أزمة الأمة اليوم متشعبة ومعقدة، لأن كل الكتابات التي سبقت هي كتابات جزئية تفصيلية تنظر من زاوية واحدة، مع أن الكثير من المجددين أمثال ابن خلدون ثم مالك بن نبي حاولوا تشخيص أزمة الأمة والمتمثلة بامتياز في الأزمة الثقافية الحضارية، والتي تتعلق بمحورية ومركزية الإنسان وعلاقته بالكون، ولهذا عندما نقول أزمة الأمة فهي أزمة ذلك الانسان الذي جاء القرآن لصناعته من خلال أبعاد ومحاور القرآن الكريم، فنحن انشغلنا بالقرآن قراءة وتلاوة ولم ننتبه للقرآن الحقيقي وهو الإنسان.
كيف ترى مدخل الإصلاح والتغيير الحقيقي في حياتنا الفردية والجماعية؟
– الحقيقة أن القراءة للقرآن الكريم لابد أن تكون قراءة متكاملة، وهذا مشكل الأمة حيث أن قراءتنا للقرآن الكريم والسنة النبوية قراءة تفصيلية تجزيئية جعلت الفرد المسلم يعيش اختلاطا على جميع المستويات. عندما نجعل القرآن هو المركزية والمحورية والمرجعية لتفكيرنا ولسلوكنا ولاستشرافنا ندرك بأن القرآن الكريم يتكلم عن ثلاثيات نمر عليها مرور الكرام دون أن ننتبه لها وهي كالتالي:
الثلاثية الأولى وهي المتمثلة في الإسلام والإيمان والإحسان: بمعنى أن الإنسان لابد أن يرتقي من دائرة السلام العام إلى دائرة الإيمان ثم إلى دائرة الإحسان، حيث يقول الله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
والثلاثية الثانية هي العقيدة والشريعة والأخلاق: العقيدة المؤدية بالضرورة إلى الشريعة وهي نفسها المؤدية بالضرورة إلى الأخلاق، وهنا أشير إلى أن الإسلام هو دين أخلاقي بامتياز ومستقبل البشرية للديانات الأخلاقية، ولهذا نجد تفوق البوذية مثلا مع أنها دين منحرف وشركي؛ انتشرت في جنوب شرق آسيا، حتى تأثر بها حتى بعض المسلمين والمسيحيين والسر في ذلك أنها دين أخلاقي. ونحن عندما فصلنا العقيدة عن الشريعة والشريعة عن الأخلاق أنتجنا مسلمين في المسجد لكن خارج المسجد لا ندري ماهي صورتهم ولا صبغتهم.
الثلاثية الثالثة وهي العبادة والعمارة والخلافة: العبادة المؤدية بالضرورة إلى عمارة الأرض ثم إلى الخلافة، ونقصد بالخلافة أن تكون مستخلفا فيما تملكه، للأسف نحن اختصرنا الخلافة في الحكم السياسي ولهذا تناحرنا وتقاتلنا لمدة قرون، ولكن لابد أن يفهم الانسان بأن المسلم توقف عند العبادة ولم تعد علاقة له بالعمارة، ولهذا وجدنا أنفسنا نبحث عن اللقاح خارج بلاد المسلمين؛ فالمسلم غير مبرمج لما أمره الله سبحانه وتعالى به “العمارة” مثل ما أمره بالعبادة حيث يقول تعالى: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ}.
الثلاثية الرابعة وهي قضية المعرفة والقيم والنظم، فالإسلام جاء ليؤسس المعرفة من خلال “اقرأ” المؤدية إلى القيم، حيث لا يمكن فهم القيم والالتزام بها إلا بالمعرفة وهذا ما أقره علم النفس المعرفي وبالضرورة المؤدية إلى النظم، وهنا أشير إلى فكرة مهمة جدا وهي أن الأحكام والنظم والقوانين لا تبني المجتمع بل تنظمه، فالكثير من التجارب الإسلامية فشلت في تطبيق الشريعة لأنها تريد أن تؤسس المجتمع عن طريق النظم والأحكام والقوانين، فالأحكام الشرعية تنظم المجتمع ولا تؤسسه فجلّ الأحكام الفقهية والقوانين جاءت في المدينة.
الثلاثية الخامسة هي ما طورها أستاذنا العراقي طه جابر العلواني العراقي، المؤسس لفكرة: إسلامية المعرفة، التوحيد والتزكية والعمران: القيم التي يدور حولها الانسان؛ التوحيد بمعنى الحرية المؤدية بالضرورة إلى التزكية، وبالمناسبة الإسلام جاء بمظهر أخلاقي جديد وهي التزكية، ولهذا المسلم المعاصر قد لا تجده سارقا أو كاذبا أو زانيا لكنه قد يكون حاسدا أو مغتابا، وهنا جاء الإسلام ليؤسس موضوع التزكية أو موضوع التصوف الصحيح أو العرفان المؤدي حتما إلى العمران البشري بكل أنواعه.
الثلاثية السادسة والتي طورها فيلسوف الأخلاق الأستاذ طه عبد الرحمن المغربي وهي الشهادة والأمانة والتزكية: الشهادة لأن الله أشهدنا على أنفسنا، ثم الأمانة حيث جعلنا سبحانه وتعالى أمناء على هذا الدين وعلى القيم ثم تأتي التزكية.
ماهي مشكلات الفكر الإسلامي وماهي التحديات المعاصرة التي تواجهه؟
-أعتقد أن مشكلات الفكر الإسلامي تكمن أولا في قضية الفهم، فهم هذا الدين، فعلى سبيل المثال عندما نسأل ما محور القرآن الكريم: الله أو الإنسان، يبدو هذا السؤال غريبا أو عجيبا ولكن الإجابة عنه هي المهمة وهو محور القرآن، وكما نعرف في الدراسات الأدبية أن النص يتكون من الفكرة الأساسية للموضوع وأفكار ثانوية، هل الفكرة الأساسية في القرآن الله أم الإنسان؟، صحيح أن القرآن يتكلم عن الله سبحانه وتعالى وعن أسمائه وعن صفاته وعن جبروته وجلاله وجماله وكماله ولكن في الأصل أن محور القرآن هو الانسان ولهذا فإن الفكر الإسلامي عندما تجاوز أو ركز على تقديس الله الذي لا يحتاج إلى تقديس لأن الله مقدس في ملكوته وفي ملكه، وأن القرآن أنزله الله سبحانه وتعالى من أجل الإنسان. لهذا السبب تجد الأمة الإسلامية في تجاربها مضطربة حول موضوع الانسان فبدل أن تصنع الانسان ابتدعت لنا ما يسمى بالتبديع والتضليل وأخطرها التكفير.
النقطة الثانية في قضية الفهم هي قضية فاعلية الانسان المسلم، أعتقد بأن الفكر الإسلامي اقتصر في مسائل جزئية متعلقة بالعقل وبعلاقة الحاكم والمحكوم، فلم نرتق إلى فاعلية هذا الانسان في دنيا الناس وما يريده الله سبحانه وتعالى من هذا الانسان.
النقطة الثالثة التعامل مع الدنيا: المسلم المعاصر اضطرب في التعامل مع الدنيا ولهذا الكثير من الناس يدعون إلى الزهد وإلى حياة الكفاف، ولكن الأصل أن الله سبحانه وتعالى خلق الانسان حتى يكون غنيا وثريا، لكن هذا المال ليس في قلبه بل في يده ليحقق الاستخلاف في الأرض.
والنقطة المهمة أيضا هي أن الفكر الإسلامي والثقافة الإسلامية دائما تركز على الماضي والغيب، فالخطاب الديني إذا قمنا بتحليله نجده يركز فقط على الماضي والغيب (رغم أهميتهما) ويتناسى ويتجاهل أو يتغافل عن الحاضر والمستقبل.
حدثنا دكتور عن واقع تجديد الفكر الإسلامي ولماذا هذا التأخر في أداء دوره لتطوير واقع الأمة وخدمة الإنسانية؟
-في الحقيقة توجد أبعاد كثيرة: أولا: غياب فهم هذا الدين، حيث مازلنا نتخبط إن صح المصطلح في فهم هذا الدين. ألقيت محاضرة في جامعة الأمير عبد القادر قبل عشر سنوات حيث تكلمت عن القراءة التجزيئية للمنهاج النبوي وأثرها على الحركة الإسلامية.
لماذا توقفت الحركات الإسلامية التي ينبغي عليها الإصلاح والتغيير، لماذا وصلت إلى طريق مسدود في كثير من الدول، والأخطر من ذلك أنها انشقت وتمزقت، فكل جهة تقرأ منهاج النبي صلى الله عليه وسلم بقراءتها، في حين أن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وصلت إلينا بنصوص ظنية، كما أنه لا يمكننا إتباع التفاصيل، فالأصل في سيرة النبي أن نستخرج منها استراتيجيات الإصلاح وهي استراتيجيات التجديد والتغيير في دنيا الناس.
ثانيا: التحول من فكرة الصحوة التي هي قلب وعقل الأمة والتي تحقق الرحمة للعالمين والشهود الحضاري إلى فكرة التحول، الحركة الإسلامية ارتبكت ارتباكا طويلا، فكيف توفق بين مفهوم الدعوة التي تؤمن بها وبين مفهوم التموقع السياسي والاجتماعي والحقيقة، ولدي رؤية خاصة سأفسرها إن شاء الله مستقبلا.
كيف نوفق دكتور بين خصوصية المجتمع الجزائري وبين منطق التناسج الثقافي والعالمية الذي يفرض نفسه اليوم على كل المجتمعات؟
-هذا سؤال مهم جدا، لقد وصلنا إلى الحبكة بمفهوم الإعلام، المجتمع الجزائري له خصوصيات ليست بدعية أو جديدة أو غريبة هي خصوصيات لمجتمع عاش الاستعمار، عاش الكثير من التجاذبات السياسة إلى غير ذلك، للأسف الداعية أو الذي يقدم المشروع لم يبحث في حقيقة الشخصية الجزائرية وهنا أثمن جهود الأستاذ الدكتور مصطفى عشوي الذي حاول أن يدرس الشخصية الجزائرية وصدر له كتاب منذ ثلاث سنوات وهو كتاب مهم جدا، أدعو الباحثين ومتصدري الشأن العام لقراءته، فعلى الأقل نقرأ الشخصية الجزائرية التي لديها مميزات وسمات كبيرة ومهمة جدا.
أما قضية التحديات الخارجية أعتقد أنه حتى الدول الكبرى والعظمى تعيش هذه الازدواجية أو تعيش هذا الارتباك المزدوج بين سياقات الثقافات الداخلية وبين التحديات الخارجية.
أعتقد بأن المجتمعات انتبهت لذلك من خلال موضوع ما يسمى بالمواطنة أو قضية العيش المشترك، لا حل لنا في الجزائر كأمازيغ أو كعرب أو كإباضيين أو حتى المذاهب الفقهية أو الفرق العقدية، لا خيار لنا إلا بخيار العيش المشترك. فقه المواطنة هو السبيل والحل الوحيد لكي نعيش في هذا الوطن ونساهم في تطويره.
نحن الحمد لله في الجزائر جلنا في اختيار فقهي وعقدي واحد وحتى اختيار صوفي واحد، وحتى مع إخواننا الاباضية الذين يمثلون امتدادا لهذا النسيج تاريخيا وجغرافيا، كانوا متعاونين مع جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وهذا ما يبين عبقرية العلامة عبد الحميد ابن باديس في جمع كل العلماء، فكان الشيخ بيوض رحمه الله نائب أمين المال والشيخ أبو اليقضان أحد وجوه جمعية العلماء المسلمين، وتظهر هنا عبقرية ابن باديس في الانتباه للسياقات والتحديات الداخلية أكثر من التحديات الخارجية، ونحن كل شيء نفسره بالمؤامرة بأنهم يخططون لنا ويمكرون لنا، والحقيقة أن الرؤية القرآنية والرؤية التاريخية تثبت بأن الهزائم تكون من الداخل، عندما نخالف سنن الله أو عندما لا نأتي بالأسباب تأتي الهزيمة، لهذا نجد أن التخلف الذي نعيشه أو الانشقاق الذي نعيشه على المستوى الثقافي والاقتصادي والسياسي أسبابه تسعين بالمئة داخلية تتعلق بغياب العدالة الاجتماعية وفقه المواطنة وأبجديات العيش المشترك وقبل ذلك قضية الفهم الآخر إلى غير ذلك، ثم يأتي بعد ذلك الذين يخططون لهذا البلد من أجل الجغرافية السياسية ومن أجل استغلال هذه الأمور السلبية في مجتمعنا والاستفادة منها واستثمارها في السيطرة على ثقافتنا ومن خلال الغزو الفكري.
حدثنا دكتور عن واقع العمل الدعوي والتربوي والإصلاحي؟ وماهي رؤيتك للنهوض بهذا المشروع حتى يحقق أهدافه؟
– كنت شريكا وشاهدا على العمل التربوي والدعوي في الجزائر، للأسف السلبيات التي تنتشر هنا وهناك سببها غياب رؤية مؤسسية، مازلنا نعمل عملا تقليديا وأهملنا العمل المؤسسي المتمثل في ادخال جودة العمل وإدارة الأعمال، للأسف أن الكثير من المؤسسات لا تؤمن بهذا الخيار الاستراتيجي. إن تطبيق الإدارة الحديثة والعمل المؤسسي والتخطيط الاستراتيجي هذه المسألة ليست نافذة بل هي مسألة فرد وتتعلق بمصير، ولهذا تجد الكثير من المؤسسات لا تطبق علم الإدارة الحديثة وتُغيّب الرؤية ولا تفرق بين الهدف والغاية.
لابد من التخطيط الاستراتيجي وأن يكون واضحا دقيقا قابلا للقياس ومرتبطا بالزمن، فالشيخ عبد الحميد ابن باديس نجح لأنه صنع الرؤية والهدف، رؤيته عندما تدارس مع الشيخ محمد البشير الابراهيمي واقع المجتمع الجزائري فوجده قابلا للاستعمار لأنه جاهل، فأنشأ في كل حاضرة من حواضر الجزائر ما يسمى بمدرسة التربية والتعليم أو مدرسة التهذيب، ثم اهتم بشيء مهم جدا وهو الإعلام، الاعلام الذي لا زلنا نمارسه بطريقة تقليدية، نتكلم عن الإعلام بمفهوم الصحافة المكتوبة في تلك الفترة، أما اليوم خاصة مع ظهور الميتا والواقع المعزز أعتقد أزمتنا الإعلامية متمثلة في غياب الرؤية المؤسسية والرؤية الفلسفية للعمل.
إذا صنعنا رؤية فلسفية عميقة ثم صنعنا الهدف، وكان العمل مؤسسيا بناء على الإدارة الحديثة، وحاولنا أن نستوعب الكفاءات بغض النظر على اختلاف مهاراتهم وتفكيرهم وأنماطهم وأنسجتهم. نحن نعيش الفاعلية أحيانا ولكن لم نرتق إلى الفعالية لأن الفعالية يشترط فيها الهدف.
بالإضافة إلى النجاعة، مازلنا دوما في الفاعلية المتمثلة في العمل بالتحسيس لكن لم نرتق إلى الفعالية، عندما يكون لنا هدف سنحقق الفعالية، ثم نرتقي إلى النجاعة، النجاعة بمعنى أن تكون مصروفاتك أقل بكثير من مخرجات ذلك العمل. ثم تأتي الجودة التي لابد أن نصل إليها وبالمناسبة الغرب تجاوزوا الجودة قبل 15 سنة، ونحن لم نصل إليها ولم نصل إلى النجاعة ولا إلى الفاعلية. أصبح الغرب اليوم يتحدث عن التميز، وفي الحقيقة من دون هذه الرؤية الفاعلة والفعالية والنجاعة والجودة والتميز لا يمكننا التغيير أو التجديد.
اقترحتم في فيديو لكم تعميم التجربة الميزابية كنموذج لتطوير المجتمع الجزائري، حدثنا دكتور عن هذه التجربة؟
– في الحقيقة لما وقعت بعض الأحداث بالريان خاصة ما يسمى بالأحداث بين العرب والإباضية ولا أريد أن أقول الإباضية بل بني مزاب، وقد تعاملت معهم من خلال مؤسساتهم التعليمية ودخلت بيوتهم ومساجدهم. وجدت أن المجتمع المزابي هو المجتمع الضارب في التاريخ، حيث استفاد من تجاذبات التاريخ، وهو مجتمع يميل إلى العلماء بالدرجة الأولى، وقد استطاع أن يحقق ما نسميه اليوم باقتصاد المعرفة أو مجتمع المعرفة، ولهذا استطاع بنو مزاب من خلال رؤيتهم التعليمية والمعرفية بالدرجة الأولى، ومن خلال كذلك رؤيتهم الاقتصادية المحققة بالضرورة إلى الاكتفاء الذاتي للفرد المزابي، ذلك أنك لن تجد في بني مزاب متسولا أو فقيرا، كما أنك لن تجد الجمعيات الخيرية الكثيرة جدا والموجودة في مناطقنا اليوم، لماذا؟ لأن الفرد يؤهلونه ويعطونه مشروعا.
بالإضافة إلى الرؤية التجديدية لدى الكثير من قياداتهم وشبابهم، عندما نرى المدارس العلمية في بلديات: الحميز وبرج الكيفان، عندما نرى المعهد العالي للعلوم -معهد المناهج-، ووسام العالم الجزائري وكأنها فكرة «نوبل» حيث لا مؤسسة رسمية ولا شعبية انتبهت لهذه المبادرة.
إن التجربة المزابية فكرتها: الانطلاق من مجتمع المعرفة المؤدي حتما إلى مجتمع القيم والمؤدي بالضرورة أيضا إلى مجتمع النُظم.
حدثنا عن مناقب الانفتاح على المنابر الإعلامية الجديدة وعن مآخذ الاختراق؟ حيث لكم بحث بعنوان: المنابر الإعلامية الجديدة والأسرة المسلمة؟
-هذا البحث مشترك مع إحدى الأستاذات، لدي مشروع يسمى بـ: التربية الإعلامية، دائما لنا مشكلة التلقي السلبي، نشكو من إدمان أبنائنا لمواقع التواصل الاجتماعي وعلى الرسوم المتحركة، ودائما علاجنا هو علاج ظاهري، وأنا طورت فكرة نظرية المعرفة، حيث أن الحل لعلاج الإدمان على مستوى الأسرة خاصة هو أن نحول التلقي السلبي إلى المرسل الايجابي، مثلا: إذا ابني مدمن على مواقع التواصل الاجتماعي فعوضا أن أمنعه من المتابعة أحوله إلى مرسل ايجابي وإلى صانع المحتوى، وهذه الفكرة في الحقيقة طورتها من سنة، فبدلا أن تستمع إلى فيديو ما رأيك أن تصنع محتوى، والحمد لله في الجزائر لدينا الكثير من صناع المحتوى لكن للأسف القليل منهم يصنع محتوى هادفا مقارنة بالمحتوى التافه.
فمثلا: واجهة الأردن للتربية والتعليم هي منظمة غير حكومية تقوم بمخيمات صيفية للشباب والأطفال من أجل صناعة المحتوى خاصة الرسوم المتحركة، والألعاب، وعندما يصبح الطفل صانع رسوم متحركة ومحتوى هادف سيخرج من التلقي السلبي ويتحول من التأثر إلى التأثير، وهذا هو الحل الوحيد لإنقاذ أطفالنا وإنقاذ الأسرة، ولهذا طورت فكرة نظرية التربية الإعلامية التي اقترحتها على مؤسسات وزارة التربية والمرصد الوطني للبرامج لإدراجها كمادة أساسية لإنقاذ أبنائنا. فبدلا من منعهم نحولهم إلى صناع المحتوى ومن ذلك الدخول إلى عالم العبقرية والإبداع.
كيف ترى تأثير وسائل الإعلام الجديد على العلاقات الاجتماعية وعلى قيم الأسرة المسلمة؟
-قبل الإجابة على هذا السؤال إن: «المال والسلطة» «المسؤولية والإعلام» لا يغيروننا بل يكشفوننا، إن مواقع التواصل الاجتماعي كشفت شخصيتنا لا نعيش مجتمعات الحرية ولا مجتمعات التعبير. لا أعتقد بأنها مسألة ثقافية فالمجتمعات المثقفة التي تكرس الحوار وثقافة المطالعة والقراءة والمعرفة لن يؤثر فيها الإعلام الجديد، ولهذا أعتقد بأن الإعلام الجديد يؤثر فقط في المجتمعات التي ليست لديها مرجعية ثقافية واحدة، ولهذا نحن بدل أن نفكر في مواجهة الإعلام الجديد نفكر في بناء مشروع ثقافي في المجتمع، كان المجتمع الجزائري في السبعينيات متماسكا وفق سياقاته الثقافية، فكنا نحترم المعلم والشرطي، ونحترم امام المسجد ونحترم العم والكبير والصغير.
كيف يمكن للإعلام أن يحمل مشروعا حضاريا ذا مرجعية دينية قيمية إنسانية لهذا العالم؟
-في الحقيقة هذا من أهدافي حيث سأبوح به للقارئ الكريم قريبا…
لقد ضُربنا في الصميم لأننا لم نعرف قيمة الإعلام، الإعلام ليس فقط مؤسسة أو وسيلة أو محتوى، الإعلام هو مشروع لفكرتنا، ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمارس الإعلام بمفهومه الحديث ولكنه مارس الاتصال الجماهيري في تلك الحقبة. كما أن العلامة عبد الحميد ابن باديس في ظل الظلم والاستبداد والقهر أسس لمنظومة نحن اليوم بكل هذه الإمكانيات لم نستطع أن نؤسسها، جمعية العلماء المسلمين الجزائريين أصدرت تقريبا ثماني جرائد، وبالمناسبة ابن باديس لو كانت القنوات الفضائية الخاصة في تلك الفترة لجمع الأموال من أجل قناة فضائية خاصة بجمعية العلماء المسلمين، حيث اشترى مطبعة ففي ذلك الوقت كانت الوسيلة الاعلامية الوحيدة والحديثة المنتشرة.
الفكرة هي عرض الإسلام كما عرضه ابن باديس، فعندما نفتح جريدة الشهاب في 1939 نجد أن الرؤية كانت عالمية متقدمة، ولهذا أعتقد أن رفع مستوى المادة الإعلامية هو ليس خيارا بل مصير. وأقول هذا أيضا فيما يخص الخطاب الديني ارفعوا المستوى لا ترفعوا مستوى لغة الخطاب فلتكن الدارجة أو الأمازيغية أو الشاوية لكن مضمون الرسالة لابد أن يكون راقيا جدا عندما نفتح بعض الجرائد أو نستمع لبعض البرامج تناقش إحدى المسائل لا نجدها تبحث في حاجيات العصر، مثلا في موضوع الهجرة غير الشرعية الشباب يحتاجون إلى إجابات أخرى، الشباب الذي يتعاطى المخدرات لا يريد إجابات فقهية بسيطة جدا، واهتمام المرأة ليس فقط الزواج أو الطلاق، والدين ليس فقط الوضوء والصلاة، لابد أن نرفع اهتمام الموضوع ليصبح المتلقي الخارجي يدرك بأن المسلمين يتحدثون عن مشروع حضاري، وفي هذا السياق دعيت إلى تبسيط كتب مالك بن نبي على مستوى الإعلام وعلى مستوى التربوي.
كما أن مشكلة الإعلام هو أن ما نعرضه اليوم هو إعلام الشيوخ، فالذي يصلح في المسجد قد لا يصلح في القناة، الإعلام يساوي الدراما، الإعلام هو الصورة والكوميديا، فمثلا فيلم «الرسالة» قد يكون أفضل من ألف درس في السيرة النبوية، لهذا كان له الفضل الكبير في نشر الإسلام بعدما بثت النسخة الانجليزية في بداية السبعينات بالولايات المتحدة الأمريكية.
دكتور هل يمكن أن نقول بأن تحليل لغة الخطاب الديني الذي تبثه الوسائل الإعلامية، هو أمر من شأنه أن يقودنا لنتيجة مفادها: أنه متطور بعض الشيء على مستوى الشكل غير أنه متخلف ورجعي على مستوى المضمون؟
-للأسف متخلف من حيث الشكل والمضمون، ربما من حيث الشكل ساعدتنا هذه البرمجيات الحديثة، أقول لكم ومازلت أراهن عندما نغير مضمون الخطاب سيتغير المجتمع، أنا لا أتحدث عن لغة الخطاب، لا تهمني اللغة، لابد أن نغير المضمون للارتقاء من الجزئيات إلى الكليات من التفاصيل البسيطة إلى الفكرة العامة.
وباعتبارنا أساتذة الاعلام نُدرّس قضية الأجندة أو ترتيب الأولويات، حيث أن الاعلام يضع الأولويات والأجندة للجمهور فعندما تضع له مادة تافهة بسيطة متداولة ساذجة في مقابل فكرة عميقة، أنا أعتقد أننا نؤسس لمجتمع التلقي الساذج وعندما يكون المحتوى قويا سيرتقي الفرد وترتقي المرأة ويرتقي الشاب ويرتقي المتلقي.
الخطاب هو لغة الخطاب وأداته، أداة الخطاب الحمد لله لدينا العلماء ودكاترة ولدينا الأجهزة والإمكانيات. نحن في حاجة إلى فحوى الخطاب لابد أن يتغير من أجل رفع المستوى ليكون كذلك التأثير.
هل أزمة الإعلام الدينى، هى جزء من أزمة أكبر يعاني منها الخطاب الديني حيث افتقاره لمشروع حقيقي للتجديد؟
-بالضبط، أزمة الإعلام الإسلامي هو غياب الرؤية والعمل المؤسسي مع غياب العمل المحترف، فمن أراد أن يقيم مؤسسة إعلامية عليه أن يخطط لها تخطيطا كبيرا، ويخرج إلى الجمهور كما تخرج الشركات المعروفة بأكبر الماركات العالمية، الكفاءات والأموال موجودة، البرامج سنؤسس لها، ولكن لابد من رؤية مهمة جدا تركز في خدمة القرآن الكريم وفي خدمة الرؤية الكونية.
كيف يمكن للإعلام الديني المعادلة والموازنة بين تناول القضايا والموضوعات المعاصرة بأسلوب بسيط ليصل للعامة وبين الحفاظ على مستوى راق للخطاب الدينى؟
-لغة الخطاب لابد أن تكون إعلامية وهي المستوى الثالث، عندما ندرس اللغة الإعلامية نجد هناك ثلاث لغات: اللغة الأكاديمية واللغة السوقية ولغة الوسط، نريد أن نؤسس للغة إعلامية وهي اللغة الثالثة ليست الأكاديمية بمعنى لا يفهمها إلا المتخصصون في ذلك الحقل المعرفي، وليست سوقية كما نشاهدها في بعض القنوات الجزائرية مع الأسف، لابد أن نؤسس للغة وسط هي لغة كما نقول السهل الممتنع. أما فيما يخص فحوى الخطاب، لابد أن يكون موضوع الخطاب راقيا وفكرته راقية، حتى وإن وُجهت لطفل صغير، فأنشتاين يقول: إذا لم تستطع أن تُفهم فكرتك لطفل صغير في عمره ست سنوات فإنك لم تفهمها أنت أصلا، لابد من تبسيط لغة الخطاب مع ترقية فحواه.
دكتور حدثنا عن الدراما الدينية الهادفة والجذابة ودورها في الوقت الراهن بالنسبة للطفل والشاب والأسرة؟
-كتبت مقالا سنة 2012 حول دور الدراما في الدعوة الإسلامية، حيث كنت أدرّس كثيرا الدراما والإعلام الديني، وعندما نتحدث عن الدراما بمفهوم أفلاطون فهي محاكاة الفعل، للأسف أن الإعلام الديني يركز على الكلمات وأحيانا تكون الكلمات جافة جدا، لابد أن نحول الكلمات إلى صورة بكل أنواعها، ومن بين الصور صورة الدراما، فمثلا عندما نسمع عبد الحميد كشك رحمه الله في الخطب نجد أنه كان يقوم بعمل الدراما وهو في المسجد.
الدراما هي خطة وإستراتيجية لإيصال الفكرة، لابد أن تتحول المواد التعليمية البيداغوجية في المدارس إلى دراما وإلى قصص وصور ورسوم متحركة فهي الأقرب لضمان وصول الفكرة والتأثير ورجع الصدى.
تحدثتم كذلك دكتور في بحثكم عن مظاهر الاختراق الديني والغزو الثقافي وأشرتم في حديثكم إلى مسألة الاستشراق والتغريب، حدثنا عن هذا الجانب؟
-بداية أنا لا أؤمن بنظرية المؤامرة. الأمة الإسلامية تتحدث عن المؤامرة والاستشراق كأننا دائما أمة معرضة للتأثير والهجوم، الواقع أن الحركة الاسلامية متقدمة جدا ففي فرنسا مثلا تجدين معدل سبعة أو ثماني فرنسيين يدخلون إلى الإسلام يوميا، ولكن للأسف دائما نتكلم عن التنصير ونتكلم عن الاستشراق وكأننا أمة مستهدفة، ولهذا قلت بدل أن نتكلم عن الاستشراق لابد أن نحول البوصلة. وكما يقال في الرياضة: أحسن دفاع هو الهجوم، ليس الهجوم بالعنف وإنما الهجوم الفكري والمعرف. فبدلا أن نقول الاستشراق والتنصير والغزو الفكري نقول الاستغراب بمعنى: نحن مطالبون بدراسة الغرب، لابد أن نفهم أمة الدعوة، لنزيل هوة الصراع ونرتقي إلى سنة التدافع، صحيح لابد أن ندرس الاستشراق معرفيا لنرى الغرب كيف يفكر عنا لكن علينا أن نرتقي أولا إلى فكرة الاستغراب.
لكم أيضا بحثا حول المنهج في عرض موضوعات الدعوة الإسلامية: عرض العقيدة نموذجا، حدثنا عنه؟
-وهو أول البحوث التي كتبتها، حيث وجدت اشكالا قديما حول كيفية عرض العقيدة، هل نعرضها على منهج السلف أهل الحديث أو على منهج أهل الرأي، وهذا ربما يصلح في الدولة الأموية أو العباسية، والحقيقة أن الأمة اليوم تطورت والمعارف موجودة والفرد أصبح قارئا، ولهذا قلت أفضل طريقة لعرض العقيدة هي كما عرضها القرآن الكريم لأن القرآن المتجدد كريم وخصه الله سبحانه وتعالى بالكريم، فعندما نقول الانسان كريم يعني كريم العطايا، كذلك القرآن كريم يعني يُفهم في كل زمان ومكان، وحتى نتحاوز هذه الخلافات القديمة والمتكررة لابد أن نعرض العقيدة كما نعرضها كما عرضها القرآن الكريم حيث يوجد تخاطب بينه وبين الانسان، وطورت هذا من خلال فكرة الأعاجم الذين يفهمون العقيدة من خلال الخطاب القرآني، فالقرآن نسخة من الانسان والانسان نسخة من القرآن.
حدثنا عن فقه الوسطية ودوره في تفعيل هوية الانسان حيث لكم بحث بعنوان: «الوسطية والهوية: التفاعل والتكامل»
-دعيت إلى جامعة قابوس في سلطنة عمان لإلقاء محاضرة حول موضوع الهوية وقمت بربطها بالوسطية وبالقرآن الكريم، فوجدت جذر وسط في أربعة مواضيع: «الصلاة الوسطى»، في المعيشة الوسطى: «أوسط ما تطعمون به أهليكم»، «فوسطنا به جمعا»، «أمة وسط»، واستخرجت من هذه أربع كلمات بأن الأمة تكون وسط في معيشتها وفي موقعها وفي صلاتها وفي موقعها الحضاري، نقصد هنا بالوسط العلو، العلو في كل شيء، في صلاتك، في معيشتك ليس تبذيرا بل في رؤيتك، وأن تكون وسطا بين البشرية، ثم موقعها الوسط.
كيف ترى دكتور دور جمعية العلماء المسلمين وآفاقها المستقبلية؟
-جمعية العلماء المسلمين دورها مهم جدا خاصة على مستوى الخدمة الاجتماعية، لكن لابد عليها أن ترتقي إلى العمل المؤسساتي، فيه جهود كبيرة تُبذل لكن لابد من صناعة الرؤية والعمل المؤسسي العلمي المبني على الطرق الحديثة، وهذا هو الاحسان الذي أمرنا به الله سبحانه وتعالى، يمكن أن نختصر المسافة والجهد والوقت بالعمل الإداري المؤسسي.
شكرا جزيلا دكتور، ماذا تقول ختاما؟
-شكرا لك على الاستضافة، وشكرا لجمعية العلماء المسلمين أم وسيدة الجمعيات التي بارك الله فيها وبارك لأهلها، وأقول للقارئ بأن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين هي أمانة في أعناقنا جميعا.