نخبنا الفكرية: الاستــبــــداد من الموقع الثقافي
أ. عبد القادر قلاتي/
عندما تقتنع النخبة الفكرية والثقافية في العالم الاسلامي بعدم جدوى البحث في سؤال الغرب عن وضعية الـ «ما بعد» في المجال التداولي الغربي، وتكفُّ -هذه الفئة المتعلمنة- عن سرعة الاستجابة والانخراط في سياق الإجابة عن جملة السؤالات الموضوعية التي تحرّك العقل الغربي انطلاقاً من فلسفة التطور والتقدم التي استند عليها الغرب الحديث، حيث تكون لحظة الحداثة عنوانا بارزاً لكلّ مرحلة تاريخية جديدة، وعندما طالت لحظة الحداثة -القائمة في فكره ومنجزاته المعبرة حقاً عن هذه اللحظة – راح يبحث عن لحظة حداثية جديدة، لكنه خشي أن تكون امتدادًا للحظة السابقة، فأبدع سؤال ما بعد الحداثة، تعبيرًا عن هذه الخشية، ومن ثمّ ليس لسؤال المابعد تصور جديد، ورؤية مختلفة عن سابقتها، وإنّما تأثير وهيمنة فكرة «التطور والتقدم» على العقل الغربي، فلو استمرت لحظة الحداثة كما صَكَّها فكر التنوير، لكان هذا نهاية طبيعية لفكرة التطور والتقدم، المعبرة حقاً عن العقل الغربي في نسخته الحديثة، ولنا أن نتساءل: كيف تكون الحداثة حداثة معبرة عن لحظة زمانية جديدة، في حين تنتمي آلياتها (الديمقراطية، حقوق الإنسان المجتمع المدني…) إلى لحظة زمانية قديمة؟ أليست هذه الآليات منجزا من منجزات نظام التقليد وأنّ ما سمي بعصر التنوير لم يتمكن من إبداع آليات تخصّ لحظته التاريخية وتعبر عن واقعه الجديد، فتنصل من هذه اللحظة ورجع القهقرى باحثاً عن مفاهيم تنتمي إلى مجال انقلب عليه، فشحن منه –أي نظام التقليد – ما يخدم اللحظة الجديدة المسماة -مجازا – بعصر التنوير؟.
هذه حقيقة أدركها الكثيرون من الغرب نفسه، ودبجوا فيها المقالات والشروح، تأكيدا على هذه الحقيقة، لكن النّخب العربية والإسلامية، لم تعر كبير اهتمام لهذا النقد، وسلّمت بتفوق الحضارة الغربية المعاصرة، دون أدنى تردد أو تفكير، فكان منطق الرفض للماضي الفكري والثقافي، والقطيعة معه الخيار الأوحد الذي تبنته هذه النخبة، التي مارست ولسنوات طويلة استبداداً فكرياً وثقافياً على الأمة من موقعها الثقافي، فكانت ظهيراً للاستبداد السياسيّ، وسيفاً مسلطاً على كلّ من يخالف منطقها الفكري والثقافي، وللأسف الشديد مازالت هذه الفئة تستحوذ على الكثير من مفاصل حياتنا الثقافية، في الجامعات والوزارات والمراكز الثقافية، ومؤسسات المجتمع المدني.