حديث في السياسة

أحدثكم عن عين الفوارة !!/ التهامي مجوري

تابعت الأسبوع الماضي ما أثير حول تمثال عين الفوارة في سطيف، فلاحظت أن شرائح المجتمع كلها تحركت للمساهمة في تسجيل الموقف، استحسانا وشجبا وتهديدا وتعبيرا عن التجاهل..، ووظفت فيه جميع الأبعاد الاجتماعية والثقافية والدينية والسياسية، ولكن كل ذلك كان في حسابات تنبئ بأزمة ثقافية وسياسية حادة، بحيث لم نلاحظ إلا القليل ممن تناول القضية بتحليل موضوعي سواء بالبحث في مبررات الفعل الحقيقي، أو بتفسيره بالحصول على الخلفيات المرتكز عليها في الموضوع أو ما شابه ذلك، أو باستنكار الفعل باعتباره جريمة…

لقد اعتبر البعض أن هذا الفعل “تخريب التمثال” فعل سياسي تنفيسي للمجتمع الذي ضاقت به الأرض بما رحبت، جراء الاضطراب السياسي والاجتماعي والاقتصادي؛ بحيث بلغ مستوى من الاحتقان إما أن تعالج مشكلاته أو هو معرض للانفجار لا قدر الله، وذلك يعني أن هذا “الحدث” مصطنع لإلهاء الناس عن الحقائق التي على الأرض، وإن كان الفعل معزولا قام به شخص، فإن تناوله بهذه الصفة وتضخيمه بهذا الشكل، هو استثمار سياسي في الموضوع للتنفيس على الناس وإشغالهم عن المهم بالأقل أهمية. كما اعتبر آخرون أن الذي قام بالتخريب له ملامح المتدين، فهو ملتح ويرتدي قميصا، إذن فالباعث على التخريب دافع ديني، فاندلعت المناقشات حول مشروعية تخريب هذا التمثال من عدمه، على اعتبار أن الموقف الشرعي من التماثيل معروف في الفقه الإسلامي، والنتيجة كما هو معلوم عراك بين الموافق والمخالف، يرتقي في بعض الأحيان إلى مستوى اتهام المتجادلين والمتحاورين لبعضهم بالبعض بالتسيب وعدم احترام الدين والتحلل منه وربما انتقلوا إلى تكفير بعضهم البعض. وفريق ثالث يرى أن هذا الفعل من ورائه جهات مشبوهة تريد زرع الفتنة والبلبلة في نفوس الناس، لما يعرفون من تعلق الأسرة السطايفية بهذه العين وتمثالها، كعادة وواقع متوارث، لاسيما أن عملية التخريب هذه قد تكررت للمرة الثالثة على التوالي: سنة 1997 و2006 و2017، والتكرار يعني التعمد والإصرار، بينما يرى آخرون أن هذا الفعل عبارة عن رد فعل اجتماعي، عبر به هذا الشخص الذي قام بالتخريب، احتجاجا على الواقع الاجتماعي الذي يتدحرج في التدني يوما بعد، فكان الفعل عبارة عن فعل اجتماعي أكثر منه تخطيطا وبرمجة وما إلى ما هناك من التوقعات المحتملة.

لا شك أن تحاليل المحللين وعرض الإعلاميين غير بعيد عن الاحتمال، لاسيما وأن هذه الاحتمالات كلها لها ما يسندها في الواقع؛ لأن بلادنا بالفعل تعاني من الكثير من الأمراض المزمنة، وواقعنا الاجتماعي لا يبشر بالخير، وواقعنا السياسي لا يبعث على التفاؤل…، ولكن المفاجئ في الموضوع هو أن الفاعل هذه المرة مختل عقليا، وفي سنة 2006 كان الفاعل شابا مزطولا، وفي سنة 1997 البلاد كانت في أزمة أمنية قتل فيها العباد وفجرت فيها المؤسسات وليس التماثيل فحسب..

ولكن يبدو أن المجتمع عندما يفقد بوصلته يصبح يبحث عن مواضيع للنقاش ليفرغ وليبحث عن مشجب يعلق عليه مصائبه… فكان هذه تمثال عين الفوارة، ولكن ما يحز في النفس ولا يسر أي حر في هذه البلاد هو أن يعتبر “تمثال عين الفوارة” جزء من هوية المواطن السطايقي، أو حتى من هوية مدينة سطيف نفسها..، إنها مخادعة كبيرة وكذبة أكبر أن يعتبر تمثال عين الفوارة جزء من شخصية سطيف؛ لأن هذا التمثال، الذي هو لامرأة عارية طولها متران، نصبته فرنسا في سنة 1899 في قلب مدينة سطيف وسط ثلاثة معالم دينية: المسجد العتيق، والمعبد اليهودي، والكنيسة النصرانية، نحته الفرنسي فرانسيس دو سانت فيدال، الذي اشتهر بنحت النافورة الضخمة التي نصبت تحت برج إيفل لمعرض باريس العالمي، وبطلب من رئيس البلدية يومها أوبري سنة 1896، فانتهى النحات من صنع التمثال في النصف الأول من سنة 1898، وعرضه في معرض باريس العالمي في نفس العام، قبل أن يبعثه إلى مدينة سطيف.

ووضع هذا التمثال في هذا الموقع بالذات، كأنه تحد للدين بجميع شرائعه السماوية: اليهودية والنصرانية والإسلامية، وليس مجرد تحفة فنية تزين بها المدينة في ذلك الوقت. ثم إن الموقف من هذا المعلم التاريخي الاستعماري، كان ينبغي أن يكون وفق الموقف المبدئي من الاستعمار ومخلفاته السيئة…، فكم من تمثال ترك بعد فرنسا واستبدل بما هو خير منه، فلماذا هذا التمثال بالذات تكون له قداسة دون غيره؟ بحيث يلحق بالهوية الوطنية.. !!، وإذا كانت هناك مرجحات لهذا التمثال دون غيره فما هي أهي الرمأة العارية؟ أم العين التي هي باردة في الصيف ودافئة في الشتاء ببركة هذه “المادام” الماثلة للأعين عارية كما خلقها نحاتها؟ ثم أي ذوق في وجود تمثال لامرأة عارية في وسط المدينة..؟ اللهم لا ذوق لهذا المشهد إلا العادة التي اعتادها الناس فاعتبروه لازمة لا محيد عنها..، كما اعتبرتها السلطة معلما ثقافيا تصرف عليه الملايير وتجلب له النحاتين العاليين ليحافظوا عليه من بداوة العرب والمسلمين..

ومع كل هذا لا أرى أن هذا الموضوع والكلام فيه من الأولويات لاسيما في هذا الظرف بالذات الذي لا يأمن فيه أحد على البلاد ولا على مستقبلها.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com