لا…هـــذه ليست توبة
عبد العزيز كحيل/
لا شك أنكم تعرفون في محيطكم صنفا من الناس حياتُهم كلها معجونة بالحرام، شبوا وشابوا على الاختلاس، الحصول على مشاريع وهمية، التعامل واسع النطاق بالرشوة، الربا بكل أنواعه، عدم إعطاء حقوق الأقارب وخاصة الأخوات من الميراث، أكل أموال الناس بالباطل وبشتى أنواع الباطل…كوّنوا بهذه الطرق ثروات طائلة، يملكون العديد من الفيلات الضخمة والسيارات الفاخرة والأراضي وأرصدة بالعملة الصعبة، وأملاكا بأسماء الزوجة والأبناء (على صورة ما كشفته محاكمة بعض الرموز السياسية والمالية منذ سنتيْن)، وعندما تتقدم بهم السن «يتوبون»…كيف؟ يطلق الواحد منهم لحية ويرتدي لباسا أبيض ويكثر من الحج والعمرة، بعضهم يصبح عضوا في لجنة المسجد، وآخر يؤذن للصلوات، وهناك من يصبح كلامه كله آيات كريمة وأحاديث شريفة، بل بعضهم يصير مفتيا في أمور الدين… بالنسبة له تاب وانتهى الأمر… لا، هذه ليست توبة لأن هذا الإنسان «مأكله حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغُذي بالحرام» (كما ورد في الحديث الذي رواه مسلم)، المطلوب منه ليس تغيير المظهر ولا الاقتصار على إصلاح ما بينه وبين الله بأداء العبادات والإكثار من الطاعات، فكل هذا ضروري لقبول التوبة لكنه ليس كافيا، وإنما تكتمل التوبة وتكون صادقة بردّ الحقوق إلى أصحابها، ردّ المظالم التي ارتكبها لأنها حقوق العباد لا ينفع معها الإقلاع عن المعاصي بل لابدّ أن يتجسد الندم ليس في دموع العين والمظهر الديني فحسب بل في ردّ المظالم، ولْيبدأ بأخواته اللائي أكل ميراثهن ثم أصحاب الحقوق التي أخذها، سواء الأموال الخاصة أو أموال الدولة، فهذه لا تمحوها التوبة حتى ولو كانت صادقة – أي الإقلاع والندم والعزم على عدم العود – فكيف إذا كان شكلية مظهرية؟ إذا لم يؤدِ هذه الحقوق في الدنيا فسيؤديها في جهنم لا محالة، كما هو ثابت في النصوص الشرعية…هذه هي التوبة النصوح، فحقوق الله قد يغفرها الله بسهولة أما حقوق العباد فلا تضيع عنده أبدا.
إننا لا نحاكم النيات ولا دخل للبشر في ذلك لكننا نحتكم إلى النصوص الشرعية القطعية، فإذا لم يرد التائب الحقوق المسلوبة والأموال المنهوبة تكون توبته أقرب إلى أساليب يستعملها البعض للظفر بثقة الناس…لا، إن الخالق لا تستطيع أن تمرر أسلوبك عليه، فهو يعلم السر وأخفى، قد يغفر ذنوبك من جهته وفي حقه، أما حقوق البشر فتبقى مطالبا بها في الدنيا أو في الآخرة، ومن الطرائف ما حكاه لي صديق، قال إن رجلا من مدينته قضى حياته في السرقة والغش، وكسب مالا بنى ببعضه مسجدا، فكان الناس يطلقون عليه متهكمين «المسجد الحرام»… وحكى لي صديق آخر قال: أذكر شخصا أعرفه أكل ما أكل من حقوق الناس، كان يقترض ولا يرجع الأموال لأصحابها، وعند تقاعده ذهب في عمرة وعندما عاد سمع به أحد ضحاياه ظن أنه بذهابه للعمرة قد تاب فقال في نفسه أذهب إليه فأطالبه بإرجاع ما أقترضه مني، وأكيد سيستجيب لأنه في الظاهر قد تاب، ولكنه صدم بجواب هذا الشخص، فقد قال له لقد تبت، وأما ما مضى فقد عفا الله عما سلف.
تقتضي النصيحة تنبيه هؤلاء ألا يكونوا مثل الذين يحبون أن يعيشوا كالكفار والفسقة فإذا صاروا في خريف العمر أحبوا أن يكونوا كصالحي المسلمين، قال تعالى {أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ}[سورة الجاثية 21]، والآية تشير إلى الذين لم يتحللوا من الحقوق.
إذًا «قل للمتبهرجين لا تتبهرجوا فإن الناقد بصير»…كثير من الناس لا يحبون سماعَ هذا الكلام متكئين على حديث «من قال لا إله إلا الله دخل الجنة»، وهو حديث صحيح لكن له فقهه، ويكفي استحضار القاعدة الجليلة المجمع عليها «حقوق الله على المسامحة وحقوق العباد على المشاحة»، أي قد يسامح الله في حقوقه بخطوة واحدة يفعلها العبد في طريق التوبة والإنابة، أما حقوق العبادة فيُحاسب عليها مهما كان شأنه مع الله، ومعلوم أن الواحد منا إذا رأى من أكل حقه قد تاب فإن هذا لا يدعوه في الغالب الأعم إلى التنازل عن حقه بل بالعكس يظنه أقرب إلى رد حقه المهضوم لأن هذا هو دليل صدق التوبة، فإن لم يفعل ربما ظن الناس أنه ممن أعجزته السن وأحس بقرب الأجل، وإلاّ استمرّ في نهب ما ليس له .
– أنصحهم بإعادة قراءة حديث «أتدرون من المفلس»؟ .. قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: «إن المفلس من أمَّتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتَم هذا، وقذف هذا، وأكَل مال هذا، وسفَك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإنْ فَنِيَتْ حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أُخذ من خطاياهم فطُرحت عليه، ثم طُرح في النار»- رواه مسلم.
– وروى البخاري أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ كَانتْ عِنْدَه مَظْلمَةٌ لأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ مِنْ شَيْءٍ فَلْيتَحَلَّلْه ِمِنْه الْيَوْمَ قَبْلَ أَلَّا يكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمتِهِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سيِّئَاتِ صاحِبِهِ، فَحُمِلَ عَلَيْهِ».
– «كل لحم نبت من حرام فالنار أولى به» – حديث رواه الإمام أحمد.
فهذه النصوص تقيّد ما ورد مطلقا في نصوص قرآنية وحديثية أخرى تتناول عموم رحمة الله، فقول الله تعالى {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[سورة الزمر 53]، وكأحاديث «من قال لا إله إلا الله دخل الجنة».
ومن كبُر عليه التخلي عن الأموال التي جمعها من حرام فليتذكر الحديث النبوي «ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة»- رواه الترمذي…ولْيتحرر من سطوة الدنيا على قلبه وتسلط الشيطان عليه، فهذا الذي ينجيه بين يدي الله وليس التوبة الشكلية.