جمعتـهــم الثــورة وفرقـتـهــم السلــطـــة!
أ. عبد الحميد عبدوس/
شاء القدر أن يكون شهر ديسمبر وهو آخر شهور السنة الميلادية موعدا لرحيل عدد من أبرز قادة الجزائر، منهم ثلاثة زعماء تركوا بصمات لا تمحى في التاريخ الجزائري المعاصر في مرحلتي الثورة والاستقلال. فقد صهرت ثورة التحرير المجيدة جهودهم ومواهبهم الكبيرة في إطار هدف مشترك ألا وهو تحرير الجزائر من الاحتلال الفرنسي، وبعد تحقيق هذا الهدف النبيل، فرقهم الصراع على السلطة بعد استرجاع الاستقلال.
كان أول الثلاثة الذي فارق الحياة الرئيس الثاني للجزائر المستقلة، وأول وزير للدفاع الوطني العقيد هواري بومدين واسمه الحقيقي محمد بوخروبة الذي وافته المنية في 27 ديسمبر 1978 عن عمر ناهز46 سنة، بعد أن شغل منصب الرئاسة لمدة 13 عاما (من 19 جوان 1965 إلى 27 ديسمبر 1978).
ولد محمد بوخروبة في 23 أوت 1932 في دوّار بني عدي بولاية قالمة وتنتمي عائلته إلى عرش بني فوغال بولاية بجيجل، نزحت عند بداية الاحتلال الفرنسي من جيجل إلى قالمة. وعندما بلغ 16 سنة ختم حفظ القرآن الكريم وأصبحَ يُدَرّس أبناء قَريتِه القرآن الكريم واللغة العربية، وفي سنة 1949 توجه إلى المدرسة الكتانية في مدينة قسنطينة وانخرط خلال الدراسة في خلية حركة انتصار الحريات الديمقراطية (حزب الشعب الجزائري سابقا) تحت قيادة الطالب علي كافي الذي أصبح عقيدا في جيش التحرير الوطني وقائدا للولاية الثانية ثم رئيسا للمجلس الاعلى للدولة في جويليه 1992.
في سنة 1950استدعيَ محمد بوخروبة للالتحاق بالجَيش الفِرنسي لكنّه رفض التجنيد في جيش العدو، ورحل إلى تونس سيرا على الأقدام رفقة ثلاثة من زملاء الدراسة. ومن تونس توجه إلى مصر مع أحد زملائه عبر الأراضي الليبية في رحلة تشبه وقائع المغامرات السينمائية، وفي مصر التحق بالجامع الأزهر ودرس كذلك اللغات الحية في ثانويات خاصة وتفوق في دراسته، وقسّم وقته بين الدراسة والنضال السياسي والتدرب على استعمال السلاح الحربي، كما عمل ضمن مكتب المغرب العربي الكبير سنة 1950، تحت إشراف أحمد بن بلة أول ريس للجزائر المستقلة وحسين آيت أحمد، ومحمد خيضر ـ عليهم رحمة الله ـ
في سنة 1955 عاد إلى الجزائر بعد ان نجح في تهريب شحنة من السلاح من مصر إلى ثوار الجزائر على متن سفينة «دينا» المسجلة باسم ملكة الأردن، وانضم إلى جيش التحرير الوطني في المنطقة الغربية، وأشرف عام 1956 على تدريب وتشكيل خلايا عسكرية مكنته قدرته التنظيمية وقوة شخصيته وحدة ذكائه من التدرجّ السريع في رتب جيش التحرير إلى أن بلغ رتبة عقيد وتولى قيادة الولاية الخامسة في سنة 1957 ومنذ ذلك الوقت أصبح مشهورا باسمه العسكري «هواري بومدين» ثمّ تولى في سنة 1960رئاسة الأركان وتزعم ما يعرف بـ«جماعة وجدة» وجيش الحدود، دعم في صائفة 1962 أثناء تفاقم الصراع على السلطة «جماعة تلمسان» بقيادة الرئيس أحمد بلة، وعيّن سنة 1962 بعد الاستقلال وزيرا للدفاع ثم نائبا لرئيس مجلس الوزراء في سنة 1963.
في 19 جوان قاد هواري بومدين انقلابا عسكريا ناجحا ضد حليفه السابق الرئيس أحمد بن بلة وتولى الحكم رئيسا لمجلس الثورة من 1965 إلى عام 1975 حيث تم انتخابه رئيسا للجمهورية الجزائرية وهو المنصب الذي شغله إلى غاية 27 ديسمبر 1978 تاريخ التحاقه بالرفيق الأعلى. ودفن بمربع الشهداء في مقبرة العالية، ومازال السبب الحقيقي لوفاته غامضا.
كان الرئيس هواري بومدين هواري بومدين من أهم القادة العسكريين والزعماء السياسيين في الجزائر والوطن العربي والعالم الثالث، وكان أول رئيس من العالم الثالث تحدث في الأمم المتحدة عن نظام دولي جديد والقى خطابه باللغة العربية، وكان على المستوى الداخلي حاميا للعدالة الاجتماعية وعدوا للديمقراطية السياسية، وكان على المستوى الخارجي نصيرا لحركات التحرر الوطنية في العالم وداعما لكفاح الشعب الفلسطيني واشتهر بمقولة «الجزائر مع فلسطين ظالمة أو مظلومة».
وبعد سبع سنوات من وفاة هواري بومدين، رحل في 23 ديسمبر 1985 زعيم وطني وقائد سياسي جزائري آخر عن عمر ناهز 86 سنة، هو فرحات عباس، ودفن في مربع الشهداء في مقبرة العالية ولد فرحات عباس في 24 أوت 1899 بدوار الشحنة بلدية الطاهير ولاية جيجل. شارك جده احمد بن الضاوي في ثورة المقراني 1871 رفقة قبيلة بني عمران مما عرضه على غرار الثوار الجزائريين إلى مصادرة أملاكه وأراضيه الزراعية من طرف المحتل الفرنسي، ليتحول بعدها إلى فلاح صغير ومعدوم، ولكن والده السعيد بن احمد استطاع مع مرور الوقت أن ينتقل من وضعه كفلاح معدوم الحال إلى تاجر محترم، كما ارتقى في السلم الاجتماعي حتى أصبح «قايد» في دوار بني عافر. زاول فرحات عباس تعليمه الابتدائي في مسقط رأسه، والثانوي في مدينة سكيكدة، ثم انتقل للعاصمة لإكمال تعليمه الجامعي وتخرج بشهادة عليا في الصيدلة عام 1931، فتح صيدلية في سطيف سنة 1932.
بعد مجازر 8 ماي 1945 ألقت السلطات الفرنسية القبض عليه ووضع في سجن الكدية بقسنطينة مع الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ولم يطلق سراحهم إلا في سنة 1946 بعد صدور قانون العفو العام على المساجين السياسيين، أسس عام 1946 حزب الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري. قام في أفريل 1956 بحل حزبه وانضم إلى صفوف حزب جبهة التحرير الوطني، بعد مؤتمر الصومام في20 أوت 1956 عين عضوا في المجلس الوطني للثورة الجزائرية، وقاد وفد الجزائر في مؤتمر طنجة المنعقد بين 27 و30 أفريل 1958 الذي حضرته القيادات المغاربية، ثم عين رئيسا للحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية واستمر على رأسها لفترتين متتاليتين من 19 سبتمبر 1958 إلى أوت 1961. انتخب في يوم 26 سبتمبر 1962 رئيسا للمجلس الوطني التشريعي، ثم قدم استقالته من رئاسة «الجمعية الوطنية الجزائرية» في 14 أكتوبر 1963 تعبيرا عن معارضته لمشروع الدستور الذي اعدته جبهة التحرير الوطني، وسجن بأدرار بالجنوب الجزائري بسبب معارضته لسياسة احمد بن بلة أول رئيس للجزائر المستقلة ولم يطلق سراحه إلا في شهر ماي 1965،.أصدر في مارس 1976 رفقة حسين لحول، والشيخ محمد خير الدين من جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بيانا معارضا للحكم الفردي للرئيس هواري بومدين ولمشروع الميثاق الوطني، وضع تحت الإقامة الجبرية من 1976إلى 13 جوان 1978.
عرف فرحات عباس بدفاعه عن الديمقراطية وحقوق الانسان وتميز بانفتاحه السياسي والفكري، حيث تحول خلال حياته السياسية التي تمتد على أكثر من ثلاثين سنة، من فكرة الاندماج إلى الفكرة الاستقلالية، ومن الإصلاحية إلى الثورية، قال عنه السيد حسين آيت أحمد زعيم حزب القوى الاشتراكية: «كان يفضل السرية، وله رؤى استراتيجية، يحمل قيما إنسانية عظمى وحقيقية.. ذكي، صريح، صادق وأهل للثقة». وجزم حسين آيت أحمد أن مجازر 8 ماي 1945 كانت تهدف للتخلص من فرحات عباس التي حاز على قوة سياسية وتنظيمية صنعت الخوف في قلب المستعمر الفرنسي.
بعد ثلاثين سنة من وفاة فرحات عباس، انتقل إلى رحمة الله الزعيم الوطني والقائد الثوري والمعارض السياسي الصلب حسين آيت أحمد الذي وافته المنية في 23 ديسمبر 2015 عن عمر ناهز89 سنة.
ولد حسين آيت أحمد في 26 أغسطس 1926 بقرية آيت أحمد الواقعة بعين الحمام بولاية تيزي وز، وهي القرية التي أسسها جده المرابط الشيخ محند الحسين، في الرابعة من عمره دخل الكتاب لحفظ القرآن الكريم، وعندما بلغ السادسة تحول إلى المدرسة الفرنسية دون أن ينقطع عن حفظ القرآن الكريم، ثم واصل الدراسة بثانوية تيزي وزو ثم بثانوية المقراني في ابن عكنون بالعاصمة.
بدأ نشاطه السياسي مبكرا بانضمامه إلى صفوف حزب الشعب الجزائري منذ أن كان طالبا في التعليم الثانوي ثم أصبح عضوا للجنة المركزية لحركة انتصار الحريات الديمقراطية، وعند إنشاء المنظمة الخاصة كان من أبرز عناصرها وصار ثاني رئيس لها بعد وفاة محمد بلوزداد.
بعد مؤتمر الصومام في 20 أوت 1956، عيّن عضوا في المجلس الوطني للثورة الجزائرية. وفي22 أكتوبر 1956 اختطفت السلطات الاستعمارية الفرنسية الطائرة التي كانت متوجهة من العاصمة المغربية الرباط إلى تونس على متنها الزعماء الخمس: حسين آيت احمد، وأحمد بن بلة، ومحمد خيضر، ومحمد بوضياف، والكاتب الصحفي مصطفى الأشرف .ورغم تواجده بالسجن فإنه عيّن وزيرا للدولة في التشكيلات الثلاث للحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية. أطلق سراحه مع زملائه بعد وقف إطلاق النار في عام 1962.
واستقال من المجلس الوطني بعد خلافه مع سياسة الرئيس أحمد بن بلة وأسس أول حزب معارض في الجزائر المستقلة هو حزب جبهة القوى الاشتراكية في سبتمبر 1963م ثم حمل السلاح حتى أوقف عام 1964م وحكم عليه بالإعدام، ثم صدر عفو عنه ووضع في سجن لامبيز، هرب من سجن الحراش ومن الجزائر في 1 ماي 1966م، ليعيش في منفاه الاختياري بسويسرا، ولم يعد إلا في شهر ديسمبر 1989م مع الانفتاح الديمقراطي الذي أعقب أحداث أكتوبر 1988م. ثم عام عاد 1992م إلى سويسرا بعد اغتيال الرئيس محمد بوضياف في 29 جوان 1992. كان من المعارضين لإيقاف المسار الانتخابي في جانفي 1992م، وفي عام 1995 كان من الممضين على عقد روما مع ممثلي ست تنظيمات سياسية أخرى للخروج من الأزمة التي عصفت بالجزائر بعد إيقاف المسار الانتخابي واندلاع دوامة العنف المسلح. وفي 5 فيفري1999م، قدم ترشحه للانتخابات الرئاسية غير أنه انسحب منها رفقة المرشحين الآخرين منددين بما سموه التزوير، وقد انتهت تلك الانتخابات بفوز المرشح عبد العزيز بوتفليقة.
احتفظ حسين آيت أحمد بشعبية كبيرة تجلت في الجموع الغفيرة عند تشييع جثمانه في 31 ديسمبر 2016 في مسقط رأسه قرية آيت أحمد التي أوصى أن يدفن بها إلى جوار آبائه.