مقاربات

جامعة قسنطينة (1969 ــ 1975)بمناسبة مرور نصف قرن على تأسيسها ظروف وتحديات من أجل النهوض بكلية الآداب في الجامعة الناشئة (4)

أ. د. محمد عيلان */

في العام الجامعي 1970/1969م بدأت جامعة قسنطينة تستقل بيداغوجيا، ويتخرج من كلياتها الثلاث حملة الشهادات، حيث تَخَرَّجت في هذه السنة من كلية الآداب والعلوم الإنسانية الدفعة الأولى من حملة شهادة الليسانس، ولم تتمكن الكلية من توظيف بعض من طلبة هذه الدفعة ليكونوا أساتذة معيدين بها، سواء في دائرة اللغة العربية أو دائرة التاريخ، وليس بها من الأساتذة الجزائريين سوى الدكتور العيد مسعود والأستاذ الصادق قوبع. وفي العام 1970/1971 م تخرجت الدفعة الثانية التي كنا من ضمن طلبتها (محمد عيلان) (والسيدة نسيمة مسلاتي) من قسم اللغة العربية بعد تخرجها ضمن الدفعة الثانية وزميلي (عبد العزيز فيلالي) من قسم التاريخ، فتعاقدت معنا الجامعة في سبتمبر 1971م لنشغل وظيفة معيد، وهذه الوظيفة تمارس بعقد إلى أن يحصل صاحبها على (دبلوم الدراسات المعمقة) في سنتين، ثم شهادة (الدكتوراه الدرجة الثالثة)، ويرتقي فيصبح أستاذا مساعدا مرسما يتهيأ لإنجاز (أطروحة دكتوراه الدولة) وفقا للنظام الجامعي الفرنسي الموروث آنذاك.
في سبتمبر سنة 1971م كانت ظاهرة الجزأرة على أشدها في تلك المرحلة، حيث عينتني الكلية رئيسا لقسم اللغة العربية خلفا للدكتور عمر الدسوقي، وعُين الزميل عبد العزيز فيلالي رئيسا لقسم التاريخ خلفا للدكتور نجيب ميخائيل في إطار جزأرة مسؤولية الأقسام. وكنا أول معيدين جزائريين بالكلية في بداية عمرها.
استلمنا القسمين باقتراح من العميد (الدكتور العيد مسعود) وموافقة مدير الجامعة (الدكتور عمر بن دالي) ثم الموافقة النهائية المترتب عليها الإجراء المالي من وزارة التعليم العالي بالجزائر العاصمة.
ومن الظروف التي واجهتنا في بداية تسلُّم مسؤولية القسم إلى جانب القيام بالتدريس المتمثل في إعطاء دروس تطبيقية على المادة النظرية التي يحاضر فيها أستاذ أو أستاذ محاضر، أو أستاذ مساعد.
1ـــــ انعدام مكتب لرئيس القسم؛ حيث كنا نحمل الوثائق البيداغوجية والقرارات المتعلقة بمتابعة برامج تكوين الطلبة؛ من جداول ووثائق مقررات التدريس بالمحفظة، بسبب ضيق المقر الذي تتواجد به مكاتب إدارة الجامعة، ومكاتب إدارة كليتي الآداب والحقوق، وقاعات المحاضرات بـالبناء التاريخي المعروف بـ: (المدرسة) في شارع العربي بن مهيدي (الطريق الجديدة). أما كلية الطب فقد كانت مكاتبها وقاعات التدريس بها بمستشفى ابن باديس بحي الأمير عبد القادر.
ومن الهياكل الجامعية بقسنطينة في سنوات الستينيات وأوائل السبعينيات، الحي الجامعي (نحاس نبيل) بالقرب من مبنى الإذاعة والتلفزيون الجهوي بقسنطينة بحي (السيلوك) آنذاك.. فقد كان مبنى واحدا من أربعة طوابق، الطابق الأسفل قسمان قسم منه للمطعم والمطبخ، والقسم االثاني لمبيت الطالبات والطوابق الثلاث العليا للطلاب، إلى جانب النادي المشترك في جناح من الطابق الأول.
أما سكن الأساتذة فقد أعطت الدولة الأولوية في توزيع السكن لأساتذة الجامعة (دون تحديد الرتبة؛ من المعيد إلى الأستاذ)، ولذلك كنا سعداء بمنحنا السكن في بداية العمل بالجامعة بيسر وسهولة، حيث لا يتطلب ذلك أكثر من مراسلة يمضيها مدير الجامعة موجهة إلى مصالح (H.L.M) بقسنطينة بتسليم مسكن، مع ملف به شهادة عمل ووثائق للحالة المدنية، ثم التقدم لتوقيع عقد السكن.
2 ـــ استلمنا مسؤولية رئاسة القسم في شهر سبتمبر 1971 م، حيث بدأنا مباشرة العمل الإداري والبيداغوجي على مستوى الكلية، وعلى مستوى الوزارة من أجل التأسيس لمنظومة التعليم العالي الجديدة بمحتواها المعرفي ونظامها البيداغوجي، وشهاداتها وسنوات الدراسة، وطريقة الحصول على شهادة الليسانس بها، تمهيدا لإصدار القرارات الوزارية المنظمة للتكوين في التعليم العالي بالجزائر، وهو أمر لم يكن سهلا، حيث كان علينا أن نحضر الاجتماعات التي تعقد بالعاصمة، لإعادة النظر في البرامج بما يوافق الاتجاه الجديد للجزائر المستقلة، من حيث المحتوى الفكري والثقافي و الأدبي..
3 ـــ عدم وجود القدوة في تسيير شؤون الإدارة بالعربية.
4 ــ متاعب السفر التي كنا نتحملها لحضور اجتماعات مديرية التعليم العالي بالجزائر العاصمة، المتعلقة بإصلاح برامج التعليم العالي وتنظيمها لم تكن هيِّنة. وما يخفف من عناء هذه السفريات هو الشعار الذي يميز جيل المرحلة؛ التضحية في أداء الواجب الوطني، فالكلية أو الجامعة بقسنطينة تمنح تذكرة السفر بالطائرة للذهاب إلى الجزائر العاصمة والعودة؛ لحضور الاجتماعات متى ما كانت ميزانية الجامعة تسمح بالحصول عليها، وإلا أحيانا القطار الليلي: قسنطينة الجزائر قسنطينة، وما أدراك ما قطار الليل وموعد وصوله وعودته..
وفي جانب آخر فالجامعة لا توفر سيارة للذهاب إلى المطار، أو للاستقبال عند العودة ليلا، والأمر نفسه عندما نصل إلى الجزائر العاصمة صباحا، علينا تحمل مصاريف التنقل بسيارات الأجرة من (المطار) أو من (محطة القطار) إلى مبنى وزارة التعليم العالي، ومثله في المساء. ورغم ذلك كنا سعداء بمساهمتنا في تنمية هذه الاستراتيجيه الوطنية المستقلة في مجال التعليم العالي، التي كانت تؤسس لها الدولة ويقودها وزير التعليم العالي محمد الصديق بن يحي (آنذاك) الذي كنا نعقد معه الاجتماعات تلو الاجتماعات، نحن وزملاؤنا من وهران والجزائر العاصمة. وكان الاجتماع أحيانا يستغرق النهار وجزءً من الليل، وأحيانا يبدأ مع الليل لينتهي فجرا. وكان رحمه الله يطلع على أعمال اللجان المكوَّنة من عديد الأساتذة الجزائريين برتب وتخصصات مختلفة، يبدي رأيه ويقترح ويناقش، ويأخذ برأينا لأننا في الميدان، ونأخذ بتوجيهاته في المجالات المناسبة لمراحل التكوين؛ سواء أكان على مستوى الجذوع المشتركة أم التخصصات.
وأذكر أننا اجتمعنا مرة في قسنطينة بمقر محافظة حزب جبهة التحرير الوطني بـشارع بلوزداد (Jean ـــ Saint) بعد صلاة العشاء لتأخر الطائرة التي أقلَّت وزير التعليم العالي محمد الصديق بن يحي من الجزائر العاصمة، واستمر الاجتماع إلى أن كانت الساعة تشير إلى الخامسة صباحا، سأل السيد الوزير: ما ألذّ شيء في الصباح بقسنطينة؟ فلم ندرك مقصده، فقال: لنذهب إلى (عمي علاوة)، عندها عرفنا المراد. و(عمي علاوة) هذا رجل مسن، صاحب مطعم صغير بــالقرب من: (الرصيف) بدَرْبٍ متفرع من شارع (كازانوفا)، يطبخ (أكلة الحمص) في الصباح الباكر مع صلاة الفجر ويقدمها لزبائنه، على عادة بعض سكان مدن الشرق الجزائري، يحبذون فطور الصباح بهذه الأكلة بزيت الزيتون. وقد رويت قصص عن وصفته الناجحة في طبخ الحمص وتذوقه.
وقال رحمه الله: (لا تنتظروا من الوزير أن يدفع؛ فأنا لا أملك في جيبي سنتيما)، فتكفل أحد مسؤولي الحزب الذي كان بالمحافظة بدفع ثمن فطور الجميع.
كان رحمه الله يشجعنا بقوله: (علينا الإخلاص في العمل لتنشئة جيل الثورة الجديد، الذي ستزدهر به الجزائر، وتخرج من التخلف وآثار الاستعمار).
5 ـــ من الظروف المحرجة التي كانت تواجهنا؛ تحمل متاعب المبيت في الجزائر العاصمة أحيانا؛ لأن ما يقدم لنا عوضا عن السفر مما يعرف بمصاريف التكليف بالمهمة لا يكفي ليوم واحد مع التنقل أحيانا، فما بالك بالإقامة في الفندق ليلة واحدة؛ فكنا نذهب للمبيت عند زملائنا في الأحياء الجامعية، ولم يكن يسمح لنا بالدخول من الباب الرئيسي؛ لأننا غرباء عن الحي الجامعي، فنضطر للدخول من أبواب أخرى غير محروسة.
أذكر مرة أننا سافرنا خلال السنة الجامعية 1972/ 1973م إلى الجزائر العاصمة بدعوة من مديرية التعليم العالي لعرض نتائج تطبيق برامج إصلاح التعليم العالي في تحويله من نظام الشهادات بثلاث سنوات في مرحلة الليسانس إلى نظام سنوي بأربع سنوات في النظام الجديد الذي نعمل على ترسيخه، وبعد انتهاء الاجتماع حوالي الساعة السادسة مساء كانت الطائرة قد غادرت إلى قسنطينة، فلم نستطع الذهاب إلى الفندق لعدم توفر ثمن المبيت به، فذهبت وزميلي (الأستاذ عبد العزيز فيلالي) إلى الحي الجامعي بالمدرسة العليا للأساتذة بالقبة؛ للمبيت في غرفة زميلينا عبد الله بوخلخال، والمرحوم عبد المجيد طالب، وكان الوقت ليلا والمدرسة أغلقت أبوابها، فذهبنا إلى ثغرة في شباك الحي الجامعي من الخلف، وكان علينا أن نزحف من خلال تلك الثغرة إلى الداخل لنجد عبد الله بوخلخال وعبد المجيد طالب رحمه الله في انتظارنا، فندخل متخفيين، وفي الصباح نخرج من الباب الرئيسي لأن حراس المبنى بالليل غادروا.
وكان راتب المعيد في الجزائر آنذاك زهيدا، ولا يُسْتَلَم في آخر أول شهر من التوظيف، بل كانت التعقيدات الإدارية تأخذ سنة، وقد تصل إلى سنة ونصف لينتظم الراتب، لأننا كنا نعيش وقتها (مركزية التسيير الإداري) في بداية تأسيس الهياكل الإدارية للدولة الجزائرية؛ إذ كل قضايا الجزائر الإدارية والمالية تتم بالجزائر العاصمة من طريق المراسلة بين الإدارات.
وكان الحل الأمثل من مديرية المالية بوزارة التعليم العالي هو السماح للجامعة بالتعاون مع المراقب المالي بقسنطينة بأن تمنح 80% من الراتب شهريا للأستاذ الموظف الذي لم يُسَوَّ ملفه الإداري، بسبب تأخره في إدارة الوظيف العمومي، والمراقب المالي، والإدراج في الميزانية السنوية أو الميزانية الإضافية لوزارة التعليم العالي في آخر السنة وهلم جرا.. ولا داعي لذكر مدى حضور هذا الراتب لتغطية نفقات عائلية وشخصية، ولكننا رغم ذلك تحملنا.
أما ما كان مقلقا؛ فعندما تتأخر الاجتماعات بالوزارة ونلتحق بالمطار ونجد الطائرة قد غادرت، فيترتب علينا المبيت بالمطار؛ ننام على الكراسي، ثم علينا أن نسجل غدا صباحا في قائمة الانتظار للسفر إلى قسنطينة، وقد نوفق فنجد مكانا في أول طائرة مغادرة، وقد ننتظر أحيانا اليوم كله، وما ذلك إلا لأن الطائرات التي تقوم بالرحلات الداخلية كانت من نوع (كونفير Convair) أو (D.C.4).. عدد مقاعدهما محدود، وهذا ما يحدث لزملائنا في الأقسام الأخرى بجامعة وهران، فقد اعتدنا عليه، وأصبحنا مهيئين نفسيا لتكراره. وكان المسؤولون في الوزارة يسمحون لنا بالمغادرة للحاق بالطائرة ويواصلون الاجتماع، إلا أننا كنا نرفض ذلك؛ لأننا سنمارس مسؤولية يشوبها الخطأ؛ بسبب انعدام المعلومات البيداغوجية المتفق عليها وطنيا.
6 ـ إلى جانب مسؤولية القسم الإدارية والبيداغوجية كنا نقوم بالتدريس للطلبة، ومسجلين لمواصلة الدراسات العليا بالجامعة المركزية بالجزائر العاصمة.
في السنة الجامعية 1972/1973 بدأ عدد الطلبة يزداد والتخصصات التي فتحت كانت في حاجة إلى هياكل، وكانت الجامعة الجديدة التي انتقلنا إليها خارج المدينة بمنطقة (عين الباي)، لم تكن مهيأة للتدريس بالصورة التي كنا نأملها، فقد كانت الجامعة ورشة بناء؛ حيث الأتربة وحديد الخرسانة، وبقايا الإسمنت وخشب البناء، وغيرها من وسائل البناء في كل مكان من محيط الجامعة.
وأذكر مرة أننا كنا في فصل الشتاء؛ رأيت أستاذي المصري الدكتور عبد الواحد وافي أستاذ فقه اللغة العربية يرتجف داخل قاعة الدرس، ولم يكن متعودا على شدة البرد، فنزعت (برنوسي) وألبسته إياه حتى يكمل الدرس.
ويذكِّرني هذا بما حدث لي لاحقا بجامعة عنابة في عام 1981 عندما انتقلت للتدريس بها، وكنت رئيسا لقسم الدراسات العليا بمعهد اللغات والآداب حيث تعاقدت الجامعة مع زملاء أساتذة زائرين من الجامعة التونسية، وحدث أن أحد الأساتذة أحضر معه زوجته وابنة له صغيرة فمرضت البنت وطلب الأستاذ أن يتغيب عن محاضرات ذلك اليوم فطلبت منه أن أتكفل بكل ما يلزم لنقل ابنته للطبيب وشراء الأدوية والعودة بها مع أمها إلى الفندق وكان ذلك في بداية تأسيس قسم الدراسات العليا بالمعهد، وحرصا على تخرج الدفعة التي كنا نعول عليها لتعوض النقص في التأطير بمرحلة الليسانس وهم الآن أساتذة بقسم اللغة العربية بدرجة أستاذ بعنابة وتبسة وسوق أهراس وسكيكدة وقالمة وغيرها من ولايات الوطن.. في خدمة العلم والمعرفة.
وفي تلك الفترة لم تكن المواصلات متوفرة، ما عدا للطلبة المقيمين بالحي الجامعي (نحاس نبيل). فليس للجامعة سيارات يمكن أن تنقل الأساتذة والمسؤولين البداغوجيين إلى المبنى الجديد بـ (عين الباي)، كما كان شائعا لدى المؤسسات الوطنية في نقل موظفيها، وما هو موجود غير كاف لسد النقل الجامعي اليومي، لذلك كنا نَتَنَقَّل في غالب الأحوال في الحافلات البلدية مع الطلبة وسكان بعض الأحياء؛ أمثال سكان: (حي باردو) و(حي جنان الزيتون) و (حي الموظفين) وغيرها مما قرب من الأحياء السكنية.
وفي هذه السنة ازدادت المهمة واستقال العميد الدكتور العيد مسعود وعين بدله الدكتور ابراهيم فخار، الذي عين نائبا له الزميل الدكتور رجم بدار برتبة نائب عميد، وبدأت الأقسام تتعدد والتخصصات تتنوع بحسب توفر الأساتذة.
الحلقة القادمة: نتائج إصلاح التعليم العالي

ـكلية الآداب جامعة باجي مختارــ عنابة.
Ailafolk@hotmail.com

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com