لا توجد عندنا فلسفة جزائرية!/ د. علي حليتيم
إن الحيّز الممنوح لهذا المقال لا يدع لي كثيراً من الأسطر لأقول فيها إنني لا أقصد بـ”لا” الإطلاق الزمكاني والشمول في النفي، فلا ريب أنه يوجد هنا وهناك جزائريون مبدعون وفلاسفة يكذّب حالهم هذا التوصيف، لكن الخط الوظيفي العام لهذه الفلسفة يقول إننا لا نملك فلسفة جزائرية تؤدي الدور المطلوب من الفلسفة وتجعلنا نفخر بها أمام الآخرين فلا قيمة للشيء إلا بالمقارنة بما عند أولئك الآخرين وذلك لعدة أسباب بعضها مرتبط بالتاريخ وأخرى بالمجتمع وثالثة بالأيديولوجيا ورابعة بالسياسة وهكذا، لكن مربط الجمل في كل هذه العوامل هو الموقف الخصومي مع الدين الذي اتخذته الفلسفة حين قررت في موقف إيديولوجي لا علاقة له بالتفلسف أنها هي التنوير وأن الدين هو الظلامية مكررة بذلك، في غير سياقها، صراعات أوروبا مع الكنيسة التي كانت تحرم العلم والنظر وتتحالف مع الإقطاع والملكية حتى غدت هي، أي الفلسفة الجزائرية، نفسها طائفة دينية لها أتباعها وتتخذ من الفلسفة الغربية نصوصا ومتونا تكتب عليها الحواشي والشروح في مقابل المتن الديني الذي ترفضه بالجملة لأنه مرجع ” للنخبة المتاجرة بالدِّين، الوارثة لفكر العصور الوسطى وثقافة عصر الانحطاط “، كما يقول الدكتور عمر بوساحة رئيس الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية.
ولذلك فإن المؤسسة الفلسفية في الجزائر تحرص من منطلق تخندقها الإيديولوجي ورؤاها الخصومية على استبعاد المكون الإسلامي من المشهد الفلسفي كتابة ومشاركة ومحاورة ومرجعية.
لقد عجز فلاسفة الجزائر في التأسيس لحوار عقلاني مع الإسلام فاستبدلوه بالخصومية، ومع السياسة فعوّضوه بالولاء، ومع المجتمع ففضلوا عليه التعالي والنرجسية وهو الحوار الذي كان يمكن أن يكون انطلاقة لنهضة فلسفية حقيقية في بلادنا تقوم على الإبداع لا على النقل وتؤسس لعقلانية حوارية جديدة كما يقول الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن.
السبب الثاني لضعف الفلسفة في الجزائر أن المشتغلين بها هم فقط خرجوا الفلسفة مما يجعلها ممارسة طقوسية شبه رسمية بحكم بعد هـؤلاء الخريجين عن ميدان العلوم التي هي الأدوات الحقيقية للفلسفة المعاصرة كالفيزياء ( النظرية والكمية خاصة ) والبيولوجيا وعلم النفس وغيرها يضاف إليه قلة درايتهم للّغات العالمية والقليلون الذين يجيدون لغة أجنبية إنما يعرفون الفرنسية فيدرسون الفلسفة الألمانية عن طريق الفرنسية والفلسفة الأمريكية عن طريق الفرنسية كذلك ولذلك قلت الترجمة في بلادنا وغدا خرّيجو الفلسفة عندنا نماذج متشابهة لأنها تخرج من قالب واحد منعزل عن العالم وهو يظن أنه مفتوح، مقيد الفكر وهو يحسب أنه متحرر، متكرر الإنتاج وهو يظن التجديد وهذه ليست فلسفة.
يكفي حوار واحد مع أساتذة الجامعات الجزائرية، على رفعة مقامهم وجلالة أقدارهم، لتدرك أن لا علاقة للفلسفة الجزائرية لا بالواقع ولا بالعلوم ولا بالمجتمع الجزائري وهمومه وتوجهاته ورؤاه!
هل ستصر الفلسفة الجزائرية على العداء والخصومة والقطيعة والنخبوية والتعالي دون أن تحاول، وهي منبر الفكر والمحاولة العاشقة للإشكاليات والسؤالات، أن تكسر القوالب القديمة وتخرج من المظلومية لتطالب نفسها بقليل من السيولة وكثير من المراجعة للماضي والنأي عن السيرورية وراء الفلسفة الغربية التي لها طبقاتها التاريخية و الاجتماعية الخاصة فضلا عن كونها هي كذلك ماضٍ لا راهنية فيه.
هل يمكن للفلسفة أن تنمو إلا في ظل تعدد الرؤي والمشارب وهل يقبل من الفيلسوف الجزائري أن يتبرم بالآخر القريب في حين أنه أسس مشروعه كله على فتح نوافذ، هي مفتوحة ابتداء، مع الفلسفة الغربية دون ذكاء ولا تمحيص.
على أننا لا نلوم الفلسفة وحدها في أسباب ضعفها ووهنها فهي بنت مجتمعها وحين يكون المجتمع ضعيفاً فإن كل شئ يكون فيه ضعيفا: العلم والاقتصاد والثقافة والتدين والرياضة والفن وكل شيء.
آن للفلسفة الجزائرية أن تنتقل من الثنائية المدمرة إلى الثنائية البانية الخلاقة ومن الخلاف إلى الاختلاف وأن تتخلى، ولو نسبيا، عن المرجعية الفلسفية الغربية كمرادف للعقل والحقيقة وأن تكف عن منطق القوة وتجييش المثقفين إلى فلسفة الحوار الذي لا غاية منه إلا المعارف والآفاق الواسعة.
إن الغرب لن ينظر إلى الإنتاج الفلسفي الجزائري ذي المرجعية الغربية في سياقات ما بعد الكولونيالية إلا بنظرة الاحتقار والتهميش التي تختفي خلف الكلمات الدبلوماسية المجاملة وإن الفلسفة الجزائرية لن تبعث إلا في ظل تصالحها مع مجتمعها واشتغالها على ما يهمه من إشكاليات كوحدته الوطنية وتفكيك منظومة ما بعد الاستعمار والتغريب والصهيونية.