الكَلِمُ الطَّيِّبُ
د. عبد العزيز مرابط الزغويني/
أُشهد الله جلّ جلاله وتقدّست أسماؤه وعظمت صفاته أنّني أحبّ هذا الرّجل في الله حبّا جمّا، أشهد الله أنّني أوقّره، أحترمه، أكنّ له كل التّقدير، مع أنّني لا أدري من هو ولا من يكون، ولا أعرف أصله ولا فصله، وأعلم أيضا أنّه لا يعرفني، ولا يدري عنّي شيئا. فكيف لرجل نكرة مجهول أن يحظى بمثل هذه المكانة عندي؟ ما الذي تميّز به حتّى لا يكون كغيره من النّاس؟
الأمر في غاية البساطة، ولكنّه في الوقت ذاته في غاية العجب. إنّ الرّجل الذي أحدّثكم عنه ما كلّمته يوما، ولا تعاملت معه قطّ، إلّا أنّني أكنّ له هذه المشاعر كلّها، فكثيرا ما أراه يتردّد على مسجد حيّنا، وفي أحيان نادرة أخرى أقابله في بعض متاجر البلدة، عادته أنّ يديه في جيبه، وعينيه على موضع قدميه، في محيّاه مسحة مشرقة، كثير الصّمت، قليل الكلام، يمشي مشية متثاقلة، ولكن هذه الأوصاف كلها – مع مكانتها وعلوّ قدرها – ليست هي من أهّلته ليحظى عندي بما سبق أن بحت به، وإنّما القضيّة تتعلّق بشيء آخر من النّادر جدّا أن نراه أو نسمع به.
إنّ هذا الرجل تجري على لسانه حيث ما حلّ وارتحل عبارة عميقة المعنى، عظيمة الدّلالة، لها في القلوب وقع عظيم. لقد سمعته بأذنيّ يردّدها مرّات ومرّات، يقول: «إلهي ما أكرمك يا رب، إلهي ما أكرمك يارب». إنّه يردّدها بانكسار شديد، فإذا دخل المسجد دخل يردّدها، وإذا قام إلى الصلاة قام يردّدها، وإذا انصرف إلى بيته انصرف يردّدها، وإذا وقف مع النّاس وقف يردّدها، وإذا مضى إلى قضاء حاجة مضى يردّدها. إنه يقولها بصفة عفوية من غير تكلّف ولا تصنّع. فكلّما رأيته أو سمعته شعرت أن شيئا من الإيمان قد ربى في قلبي. كلّما رأيته أو سمعته إلّا وتملّكني قسط من الاطمئنان، وغشيتني غشية من السّكينة.
إنّها الكلمة الطّيّبة حين تجري على اللّسان وتستولي على الوجدان. إنّها الكلمة الطيّبة التي تفتح القلوب، وتكسب الأرواح، و«الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ» صدقة كما قال الصّادق المصدوق صلوات ربّي وسلامه عليه.
إنّها الكلمة الطّيّبة التي صرنا نتشوّق لسماعها، وقد كانت قبل اليوم تجري على ألسنة آبائنا وأجدادنا كما يجري النّفس من صدورهم، فيقولونها في كل موضع، وينثرونها كل حين.
فتّشوا في ذكرياتكم، وقلّبوا صفحات أيّامكم لتقفوا بأنفسكم على صدق ما أقول.
وإنّني مثلكم تماما، كلّما غصت في أعماق الماضي وقلّبت صفحاته وقفت على كلمات طيبات لا زالت معانيها تقرع قلبي وتداعب فؤادي إلى اليوم، ولن أنساها ما دامت روحي في جسدي، ورحم الله من أسمعني إيّاها، وجعلها في ميزان حسناته.
وصدق من قال: «الكلمة الطيبة ليست سهما ولكنّها تخترق القلب»، وعجبا لمن ينتقي ما يلبس بدنُه ولا ينتقي ما تنبسه شفتاه، «وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ»، والسلام.