في رحاب الشريعة

هجران الغفلة السياسية بفقه الاعتبار واتباع القيم الإنسانية

الشيخ محمد مكركب أبران/

هذا المقال تكملة لما سبق من الدعوة إلى الاعتبار، وهجران الغفلة للنجاة من دسائس الكفار، ووعدنا القارئ ببيان السببين الثاني والثالث، من أسباب الغفلة السياسية. ولنعلم من البداية أن الخطيئات الكبيرة سببها انحرافات تظهر لغير المعتبرين أنها صغيرة، فإذا سرت في شوارع مدينة من المدن في العالم، ولاحظت كتابات على الجدران، بلا معنى ولا عنوان، ولربما فيها ما يسيء من خدش الحياء والعصيان، أو تلاحظ حفرا في الطريق كآثار الخراب، أو فضلات قمامات هنا وهناك مخلوطة بالحجر والتراب، وسيارات مركونة في الممنوع بلا نظام ولاصواب. فاعلم أن الخلل في المناهج التربوية، لِعِلَلٍ في المناهج السياسية.
فاعلم أخي المسلم حاكما كنت أم شابا مثقفا، أم أي واحد من عامة الشعب أن بلوغ قمة المجد في بناء الدولة قوامه الاستقامة الذاتية إيمانا وشريعة وأخلاقا، أي ان معالجة الأحداث يبدأ بالانضباط الذاتي، والاستقامة التامة، لذلك عندما نتحدث عن بعض السلوك والعادات، والمخالفات الأدبية لا يعني أننا نسينا أو أهملنا الاهتمام بالقضايا المصيرية الكبرى، والأحداث الخطيرة التي تحيطنا من كل جانب، كالشحناء والشنآن بين شعوبنا، بتوتراتها وتهديداتها، وما ينتج عن ذلك من الخطر الخطير، والشر المستطير، ولسنا غافلين عن تهديدات الكافرين، ومروق المارقين، والرجفات الداخلية والخارجية. ولكن هل تدبرتهم قول الله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ هل تدبرتم معنى قول الله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ إن الله يكون معنا وينصرنا ويعيننا في قتال الأعداء والمتمردين والخائنين، ويعيننا في الإصلاح وبناء نهضة اقتصادية، وقوة إدارية، وعسكرية، عندما نكون متقين. عندما نعمل بكل شعب الإيمان، التي أعلاها: لاإله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والذي يتعمد أو يتعود على عدم إماطة الأذى من الطريق، لايستطيع إماطة العجز عن نفسه، ولا إزالة العدو من طريق مجده. فمتى تستيقظ الشعوب المتخلفة المستعبدة من قبل أعدائها، ومتى تخرج من غفلتها؟
كنا ذكرنا أن السبب الأول من أسباب الغفلة هو رفض التعلم، ورفض النصيحة، ورفض الاعتبار بدراسة التاريخ. مما جعل الشباب والسياسيين يكررون نفس الخطيئات، والوقوع في دسائس شياطين الجن والإنس، منذ عصر الانحطاط.
السبب الثاني من أسباب تكرار الأخطاء والخطيئات، وعدم الاتعاظ بالعبر والآيات، وعدم الاستفادة من الأحداث التاريخية والذكريات. هو تكريس السلبيات، عن عمد. من قبل كثير من المنتمين للإسلام،. من ذلك: يكرسون سوء المناهج الدراسية، بمعنى يعلمون أن المناهج غير صالحة، وأن نتائج التعليم غير مجدية، ومع ذلك يصرون على ماكان، كما كان.!! ومن ذلك تكريس سوء تخطيط المدن، وتأتي الكوارث بسبب ذلك، والتبذير، والفساد. قال الله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ (الحج:46) وإن كان هذا العتاب والتنبيه المقصود به كفار مكة، ثم الكفار عامة، والمشركون والملحدون، ولكن في الآية عبره وتنبيه لكل الناس، والمؤمنون يجب أن يعتبروا بما حدث للأم السابقة في التاريخ. ﴿فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ﴾ وفي الحديث الشريف.[لاَ يُلْدَغُ المُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ] (البخاري:6133) وآلاف من المنتمين للإسلام لُدِغوا من جحر واحد مئات المرات ولم يعتبروا، يخالفون الآيات، ويُعرضون عن العبر والعظات، عنادا واستنكافا، ومن الأقوال الحسنة:{المؤمن كيس فطن}. فأين فطانة الذين لايزالون يثقون في الكافرين ويعادون إخوانهم المسلمين؟ أين العقول. هل درسوا تاريخ الغساسنة والمناذرة، وما فعل بهم الفرس والروم؟ قال الله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾
السبب الثالث من أسباب الغفلة: الإصرار عند كثير من المنتمين للإسلام، على عدم الالتزام بالنظام، والكثير الكثير منهم كأنهم أعداء للانضباط والاستقامة والامتثال، وفي بعض سلوكهم كأنهم أعداء لأنفسهم.
وخذ هذه الأمثلة. ورد في الحديث الشريف عن الوقاية من الوباء. عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، أنه سمعه يسأل أسامة بن زيد، ماذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطاعون؟ فقال أسامة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[الطَّاعُونُ رِجْسٌ أُرْسِلَ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَوْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ، فَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ، وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا، فِرَارًا مِنْهُ» قَالَ أَبُو النَّضْرِ: «لاَ يُخْرِجْكُمْ إِلَّا فِرَارًا مِنْهُ] (البخاري:3473. أخرجه مسلم في باب الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها رقم 2218)
هذا الحديث يخص حالة وقوع وباء الطاعون، وهو مرض عام يصيب الكثير من الناس في زمان واحد ومكان واحد.. أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه(رجس) أي: عذاب. أرسل على (طائفة) يعني جماعة. (فلا تقدموا عليه) لا تدخلوا الأرض التي انتشر فيها الطاعون. (فرارا منه) أي لأجل الفرار من الطاعون أما لو خرج لحاجة عرضت له فلا بأس فيه ولعل الحكمة في هذا الحديث عدم نقل المرض أو التعرض له عن طريق العدوى. ومن وسائل الوقاية: التباعد، والتَّلَثُّم (وضع الكمامة) واجتناب التلامس إلا عند الضرورة، وتلقي اللقاح، والنظافة، واستعمال السجادة الخاصة في الصلاة في المساجد، واجتناب استعمال دورات المياه لتجنب العدوى، وغير ذلك من الإجراءات الوقائية. فهل التزم الجميع؟؟؟ بل لقد لوحظ على بعض المخالفين لنظام الوقاية أنهم عندما لايحترمون التباعد، أو لايرتدون اللثام الواقي (الكمامة) يعتبرون ذلك السلوك، سلوك مخالفة النظام، كأنه بطولة.!!! وذلك بطولة في الفكر المقلوب {خالف تعرف}. ومثال آخر، عند بعض أصحاب السيارات يركنون سياراتهم في المكان المؤشر عليه (بعلامة ممنوع الوقوف) ولا يبالون بالأذى الذي يحدثونه للمارة بتضييق الطريق، ولا يعلمون أنهم يُسألون شرعا عن الغضب والقلق والنرفزة والحوادث التي تحدث بسبب تضيقهم الطريق، ألا إنهم سيسألون عنها. والنبي عليه الصلاة والسلام قال: [أَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ]. ومثال ثالث، ورابع وعاشر ومئات الأمثال. فمن النظام والإتقان والصورة الجمالية، أن السيارات تسير في الشارع بكل حرية وانسياب، والمارة يسيرون على الرصيف، والسلع التجارية تعرض داخل الدكاكين والأسواق وليس على الأرصفة، فالتاجر فيما خصص له، والماشي يسير على الرصيف، وللسيارة حريتها على الطريق المعبد لها، وكل يسير نحو غايته.
ولما كان الكثير يرفضون النظام والترتيب والإتقان والجمال. صاروا يضعون عن عمد حُدَبًا معرقلة، في طريق السيارات، كي لاتسير بحرية، وينزل المارة من رصيفهم المخصص لهم إلى طريق السيارات!! ويعرض التجار بضائعهم على الأرصفة. فتفقد السيارة حقها في الطريق، ويفقد الماشي حقه في الرصيف. ومن هذا السلوك الذي يعتبر عند بعضهم صغيرا وهامشيا ولا قيمة له، حتى إن بعضهم قد يقولون: كيف ننزل بمستوى النشر والكتابة والتأليف إلى هذ المستوى؟!! ولا يعتبرون ولا يذكرون، أو أنهم لا يعلمون بأن أصل الكليات جزئيات في المقاصد والضروريات، وأصل الكبائر صغائر في الخطيئات، وأصل الأمهات بنات، ومن تربي في واقع فوضوي، انصبغ فكره بالعادات السلبية، وصار لايفرق بين المنكر والمعروف، وهذا من أسباب التخلف.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com