مساهمات

واقـــع اللغــة العــربيــة فــي التقـــانــات الحــديـثـــة

د. حمزة بسو */

لم تعد قوّة اللُغات في حضورها واستمكانها من الألسِنة فحسب، فذاك شأن مضى، ولكن قوّتها في حضورها واستمكانها في التقانات الحديثة، فهذا هو مقياس القوّة، ومعيار التصنيف العالمي. والذي يهمّنا نحن، من تلك اللغات: اللغة العربية، التي واجهت تحديات كبرى في سبيل مواكبة مستجدات العصر؛ من تكنولوجيا، وذكاء اصطناعي، وتواصل آليّ…

هذا، وقد شككّ كثير من العرب وغيرهم في أهليّة اللغة العربية لتقحّم عالم التقانة الحديثة وتكنولوجيا المعلومات، فضلا عن مزاحمة اللغات المنتجة لها.. غير أنّ هذا الزعم تبدد مع مرور الوقت، وبدا واضحاً أنّه توجّهٌ غيرُ مُؤسَّسٍ على منظورٍ معرفيّ؛ حيث إنّ اللغة العربية باتت تفرض حضورها عبر التقانات الجديدة بثبات، وتتكيف مع المستجدات الحَوسَبيّة، والبَرمجيّة، والتقنيّة، والتواصليّة، والمعلوماتيّة، وظلّت مؤشرات التطور في ارتفاعٍ متسارعٍ نسبياً، خلال السنوات القليلة الماضية في مجال: الاستخدام العربي للإنترنت، والنشر الإلكتروني بالعربية، والمحتوى الرقمي، والإدارة الإلكترونية، ومواقع التواصل الاجتماعي… حتى استطاعت أن تحتل المرتبة الرابعة عالميا ضمن ترتيب أعلى عشر لغات في استخدام الإنترنيت (الويب) خلال السنوات الأخيرة، بينما احتلت اللغة الفرنسية المرتبة السابعة عالميا (وهي اللغة التي كان كثير من العرب، المغاربيين خصوصا، يعُدّونها لغة التقانة الحديثة بامتياز، ويعدونها اللغة الأجدى في استخدام الإنترنت) مما يؤشّر على أنّ اللغة العربية استطاعت أن تقطع أشواطا معتبَرة في التمكّن ضمن الشابكة، والبرمجيات النظامية والتطبيقية، ومواقع الويب، ومواقع التواصل الاجتماعي، والميديا…

غير أنّ هذا لا يعني البتة أنّ اللغة العربية بَلغت المنتهى في علاقتها بالتقانات الحديثة، لأنّ الخطوات الكبيرة التي قطعتها، هي في حقيقة الأمر خطوات صغيرة إذا ما قورنت باللغة الإنجليزية والصينية والإسبانية، ولذا فاللغة العربية في رهان مستمّر مع اللغات المتنافسة، أمام الانفجار المعرفي والتكنلوجي الذي يشهده العصر.

أولا: راهن اللغة العربية في التقانات الحديثة

إنّ ما يمكن التأكيد عليه ونحن نستقرئ واقع اللغة العربية في مجال التقانات الحديثة، هو أنّ رهان اللغة العربية في ولوج عالم التقانات، منذ سنوات قليلة مضت، قد تحقق، وصار استخدام التقانات الحديثة باللغة العربية متاحا في مختلف المجالات والأصعدة،  فَوُلُوجُ هذا العالم الجديد أو هذه الثورة المعلوماتية ليس حِكراً على شعبٍ دون آخر، وإنّما ذلك أمر متاح لكلّ الشعوب وبكلّ اللغات.

ولعلّ أحسن وسيلة يستظهر بها الباحث لمعرفة مدى انتشار اللغة أو انحصارها في مجال ما، هي وسيلة الإحصاء، ولذا فالوقوف على راهن اللغة العربية تقنيا يقتضي استقراءَ واقعِ حُضورِها في التقانات الحديثة بالبرهنة لا بالافتراض، وهو ما حملنا على الاستعانة ببعض الإحصاءات لكشف حقيقة ذلك الحضور، والوقوف على راهن اللغة العربية تقنيا.

اللغة العربية؛ الرابعة عالميا من حيث الانتشار على الإنترنت

استطاعت اللغة العربية أن تظفر بالمرتبة الرابعة عالميا، بعد أن كانت خارج نطاق العشر لغات الأكثر انتشارا على النت، وذلك بعد أن فرضت حضورها في محركات البحث الكبرى مثل:  Google وYahoo وغيرهما، مما يسر الوصول إلى المستندات العربية المخزنة في الشابكة، ومن ثمّ الإقبال المتزايد عليها من قبل مستخدمي العربية، كما تمكّنت من الظفر بدعم المواقع العالمية الكبرى كاليوتيوب You tub  وفور شارد وغيرها، فضلا عن مواقع التواصل الاجتماعي كالفيسبوك Facebook وتويتر Twitter وإنستجرام Instagram ولينكد إنLinkedin  وغيرها. وكلّ أولئك كان سببا في تزايد عدد مستخدمي العربية على الشابكة، ولعل الإحصاءات الآتية أن تقرّب صورة تزايد انتشار اللغة العربية على النت: (وفق إحصاءات الموقع المتخصص في إحصاء مستخدمي الإنترنت في العالم  (Internet World Stats) )

ففي سنة 2007 احتلت اللغة العربية المرتبة العاشرة عالميا من حيث استخدام الإنترنت (بمقدار مليوني قدره 28) بعد لغة كل من إنجلترا والصين واليابان وإسبانيا وألمانيا وفرنسا والبرتغال وكوريا وإيطاليا، وفق ما هو موضح في البيان الإحصائي الآتي:

وفي سنة 2010 تضاعف عدد مستخدمي الإنترنت من العرب، لتحتل بذلك اللغة العربية المرتبة السابعة عالميا (بمقدار مليوني قدره 65.4)، متقدمة على اللغة الفرنسية التي تقهقرت مع اللغتين الروسية، والكوريّة.

وبعد سنتين من ذلك؛ أي بحلول سنة 2013، قفزت اللغة العربية إلى المرتبة الرابعة عالميا (بمقدار مليوني قدره 135.6؛ وهي نسبة نمو كبيرة جدا) مخلّفة وراءها اللغة البرتغالية واليابانية والروسية والألمانية والفرنسية والماليزية على التوالي.

وتبقى اللغة العربية محافظة على المرتبة الرابعة عالميا سنة 2017، ولكن بمقدار مليوني قدره 219، وهو مقدار يحمل في طياته كثيرا من الدلالات؛ حيث إنّ هذا المقدار يشكّل ما نسبته حوالي 50% من السكان العرب، ومن ثم يدلّ على أن نصف العرب يتحكمون في استخدام الإنترنت والتقانات الحديثة، وهو مؤشر على الانتقال التدريجي للمجتمعات العربية إلى مجتمع المعرفة.

فنلاحظ إذن أنّ اللغة العربية استطاعت أن تتفوق على اللغة الفرنسية منذ سنة 2010 تقريبا، “وهذا يعني أنّ العربية في وقتنا الحالي تعيش الازدهار والنماء، والفرنسية تنهار وباستمرار، والمغاربة يتمسكون بها، أمّا الفرنسيّون فهُم يتّجهون الآن عَلانية إلى اللغة العَالمية العِلميّة وهي الإنكليزية، وللأسف نحن ما نزال نتشبّث بالفرنسية رغم شهادات الاحتضار التي يُسجّلها أهلها” مثلما أشار إلى ذلك صالح بلعيد.

غير أنّه من الضروري أن نضع في الحسبان نسبة استخدام الإنترنت من قبل سكان كل من اللغة العربية والفرنسية، حتى لا نغتّر في شيء من الزُهُوّ والخَالِ، والتّشَامُخِ والتَعالِ، لأنّ العِبرة ليست بالمرتبة إذا ما نظرنا إلى نسبة المستخدِمين بالقياس إلى عدد سكان لغة ما، لأنّه لو كان ذلك كذلك لكنّا نحن العربَ أحسنَ حالاً، تقنياً وتطوراً، من اليابان وألمانيا وفرنسا… ولكن الواقع غير ذلك طبعا.

إنّ العرب استطاعوا أن يحققوا أكبر نسبة نمو في استخدام الإنترنت في الوقت الحالي، مقارنة بالدول العشر الأولى عالمياً في استخدام النت، والمُشارِ إليها أعلاه في البيان الإحصائي، غير أنّ الفرنسيين يحتلون المرتبة الأولى من حيث اختراقهم للإنترنت، وذلك بنسبة 93.3% من عدد سكان هذه اللغة، في حين تشكّل نسبة اختراق العرب للإنترنت بالقياس إلى عدد سكانهم 50.3 فقط، ما يعني أنّ البون شاسعٌ بين العربية والفرنسية من هذه الزاوية.

ولعلّ البيان الإحصائي الآتي كفيل ببيان ذلك، وكفيل بالكشف عن تفاصيل أكثر  تخصّ ترتيب اللغات على الإنترنت من حيث نسبة مستخدمي النت، ونسبة نمو مستخدميها، ونسبة اختراقها بالقياس إلى سكان كل لغة، وعدد سكان كلّ لغة.

 

فنلاحظ، إذن، أنّ الإنجليزية تحتل المرتبة الأولى عالميا من حيث نسبة مستخدِمي الإنترنت، وأنّ اللغة العربية تحتل المرتبة الأولى عالميا من حيث نسبة نمو مستخدمي الإنترنت ما بين سنتي (2000- 2018)، وأنّ المتكلّمين بالفرنسية يحتلون المرتبة الأولى عالميا من حيث نسبة اختراقهم للإنترنت بالقياس إلى عددهم.

ثانيا: رهان اللغة العربية في التقانات الحديثة

إن الجهود المبذولة من طرف المجتمعات العربية في ترقية اللغة العربية تقنيا، تنم عن وعيهم بضرورة الانخراط في عالم التقانة والتكنولوجيا بلغتهم العربية، غير أن هذا المشروع مازال في بدايته، والجهود المبذولة على قيمتها مازالت قاصرة في ظل غياب استراتيجية شمولية غير مشتتة، والخطوات المقطوعة في مجتمعاتنا في هذا المجال كبيرة بالنسبة إلينا، غير أنّها صغيرة جدا مقارنة بالدُول المتقدمّة المنتجة للتقانة.

ولذا فهناك تحديات كبيرة تنتظر اللغة العربية في مجال التقانة؛ منها مثلا:

– تطوير البرمجيات النظامية والبرمجيات التطبيقية بانتظام واستمرار.

– العمل على اصطناع المختصرات الاصطلاحية تماشيا ومتطلبات التقنية.

– صناعة المصطلح العلمي والتقني بما يناسب طبيعة اللغة العربية الاشتقاقية، واستثمار الذخيرة اللغوية التي تملكها ولا يملك غيرُها مثلَها، وهذا تحدٍ كبير جدّا، ويتطلب تكاتف الجهود من طرف المتخصصين لغويا وأدبيا، والمتخصصين علميا وتقنيا. ولذا، لابدّ من توحيد الجهود والعمل الجماعي، في شكل فرق بحث.

– تعميم تعريب التخصصات الجامعية، فكثير من التخصصات الجامعية تُدرّس باللغة الأجنبية، وفي هذا خدمة للغة الأجنبية على حساب اللغة العربية، لأنّ البحث يتم باللغة الأجنبية والأطروحات باللغة ذاتها، والنشر الإلكتروني يكون بها كذلك، ولو استثمرت هذه الجهود باللغة العربية لنما المحتوى الرقمي، واتجهت اللغة العربية إلى اصطناع المصطلح العلمي والتقني.

– ضرورة تعميق الدول العربية للتعامل الإلكتروني، وهو ما يسمح بالانتقال إلى الإدارة الإلكترونية ومن ثم مجتمع المعرفة. فالمجتمعات العربية ما زالت بعيدة عن بلوغ هذا المرام.

إنّ استقراء راهن اللغة العربية في التقانات الحديثة، يقتضي رؤية موضوعية تقف على تجليات الكائن، وتتطلع إلى تصورات الممكن. وعموما فإنّ اللغة العربية استطاعت تجاوز عديد العراقيل التقنية، وباتت تفرض وجودها فرضا في مجال التقانات الحديثة، وأصبح العالم يقيم للغة العربية وزناً في مجال التقانات الحديثة. ومع هذا فالطريق مازال بعيدا، والمدى مازال طويلا، غير أنّ ذلك لا يبدو مستحيلا إذا ما تكاتف الجهود على المستوى العربي، والوطني، والجمعوي، وعلى مستوى مراكز البحث، والفرق البحثية، فالوحدة تفضي دائما وأبدا إلى تحقيق المبتغى. وما ذلك على المخلصين ببعيد.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com