التعليم والعلو في الرتب
يكتبه د. محمّد قماري/
تابعت طرفًا من الجدل الذي دار حول تصنيف نظم التعليم في العالم، وجاء التقرير ليضع الجزائر في المرتبة التاسعة والثمانين بعد المئة (189)، ولم أهتم بالاطلاع على مفردات المسطرة التي احتكمت إليها المؤسسة التي وضعت التقرير، ذلك أنني متيقن من خلال خبرات سابقة في مجالات التصنيفات الحديثة، أن هذه التصنيفات تغلب عليها الصبغة التقنيّة، ومعاييرها تدور حول آليات الحوكمة بمعناها الواسع، وآليات (الماركتينغ) الدولي عبر الشبكات الكبرى وأهمها شبكة الانترنت، ومعنى ذلك قياس مدى حضور النظم التربوية المحليّة واسهامها في الخريطة الدولية…
ولا بد أن نعترف، بأن أداء المؤسسات الجزائر ضعيف في هذا المضمار، سواء في مجال التعليم بكل أطواره أو في مجال الحركية الاقتصادية والاجتماعية، ولعل من المعايير المهمة في الترتيب رصد مدى حضور الوسائل الحديثة في التدريس ونقل المعلومات للمتلقين، ومدى ربط مؤسسات التعليم بشبكة الانترنت، وما هامش التدريس عن بعد ومرافقة الطلاب والتلاميذ خارج مؤسسات التعليم…
وهنا في الجزائر قضية أخرى ذات صلة بصراع الأجيال، فالجيل القديم بحكم تكوينه لا يؤمن بجدوى سيولة المعلومة وتدفقها، وفي أحسن الأحوال لا يراها من أولويات التعليم، وهو جيل ما يزال له حضوره في احتكار صنع القرار، وفي المقابل جيل جديد لا يملك الخبرة الكافية في ميدان التسيير، ويريد أن يطير بجناح واحد، جناح الايمان بالتقنيات الحديثة، وبين هؤلاء وأولئك تضيع فرص تراكم الخبرة والتكامل، وتتعمق نظرة الانكفاء على الذات (وكل قوم بما لديهم فرحون).
لقد شعر كثير من المتابعين بصدمة إذ وقفوا على تلك الرتبة، وذهبوا في تفسيرها كل مذهب، فمن قائل بالتحيز المفضوح، ومن قائل بأننا لم ننل إلا ما نستحق، وبينهما جاءت آراء وتفسيرات أخرى، ونسي الجميع أو غفل عن مراجعة مفردات مسطرة التحكيم، وهي الكفيلة بأن تكشف ما لنا وما علينا قبل إصدار الأحكام، وقديما ربط عنترة بن شداد علو الرتب بالمعنى الأخلاقي:
لا يَحمِلُ الحِقدَ مَن تَعلو بِهِ الرُتَبُ
وَلا يَنالُ العُلا مَن طَبعُهُ الغَضَبُ
وبعيدا عن الحقد الأعمى والغضب الأرعن، لابد أن نستفيد من تعديل عيوب صورتنا كما تبدو في مرآة غيرنا، وذلك بالدخول في منطق العصر، فنحن لا نعيش في جزيرة معزولة عن الدنيا، وما لم نبادر بتقديم صورتنا كما هي أو كما نريدها، فإن الآخرين يلتقطون صورتنا كما بدت لهم، ويسوقونها كما فهموها…
قبل ثلاثين سنة فقط، كان يكفي الحديث عن (الكم)، بمعنى عدد المتمدرسين في كل دولة، ومنه ترتيب الدول في مجال خدمات التعليم، وكان يكفي الحديث عن عدد الأطفال الذين يتلقون التلقيحات الأساسية، أو عدد وفيات الأطفال للحديث عن جودة الخدمات الصحيّة، ويكفي الحديث عن تجاوز الدخل بدولار واحد للفرد للقول بتجاوز خط الفقر…
لكن في الثلاثة عقود الأخيرة، جرت على العالم تطورات، خفضت دولا ورفعت أخرى، وتمَّ تعديل الكثير من معايير الرصد والقياس، و(من لا يتقدم يتأخر) كما يقول المثل، فلا يكفي الابقاء على رصيدك الحالي، فقطار العالم سريع ولا ينتظر، وعصر تدفق المعلومات ورصدها لم تعد تجدي معه الحكمة التي تقول: (من دخل بيته فهو آمن).
ولو ابتعدنا عن مسطرة ومعايير التصنيفات، وحاولنا أن نخلد إلى أنفسنا في لحظة صدق، وسألنا: هل نحن راضون عن منظمتنا التربوية ومخرجاتها؟ وما مدى جاهزية تلك المخرجات للتعامل مع الواقع الاستراتيجي والاقتصادي والثقافي الراهن؟
وقبل ذلك ما هي الآليات الكفيلة بالحد من الركض وراء (أدلجة) التعليم، إذ يسعى كثير من القادحين في المنظومة التربوية إلى إفراغ جرعات من الأدلجة، سيان في ذلك من يسعى إلى تغريبها وسلخها من انتمائها الوطني، أو من يسعى إلى جعلها محاضن (دروشة) باسم الأصالة والحفاظ على الهوية، أو حتى أولئك الذين يعملون على جعلها كالماء المطلق بلا لون ولا طعم ولا رائحة…
إن خيانة تعليم الأجيال وتشكيل عقول أجيال الغد، لا تقل في فداحتها عن خيانة أمن البلد الاستراتيجي، إن لم تتعداها في الفداحة، ذلك أن التسلل الناعم وفتح منافذ للاستعمار الجديد عبر العقول والعواطف، فعل (ناعم) ويتسلل دون ضجيج، ويرهن مستقبل التعليم في ظاهرة عددية، لا تعرف من تحديات الراهن والمستقبل شيئا…
إن صياغة نظم التعليم ليس شأنا يعهد به إلى أنصاف الكفاءات، بل هو خيار استراتيجي عليه يتوقف أمن البلاد بكل أبعاده ومفرداته، وهو ليس قضية تقنية يكتفى فيه بحشو معلومات ومعارف، إنها قضية تشكيل عقول تؤمن بماضي وحاضر ومستقبل البلاد، جذورها ممتدة في الأرض، وعودها قائم وفروعها في السماء.