لا حَــوْلَ وَلا قُـــوَّةَ إِلا باللَّهِ …. مِنْ كَنْزِ الْجَنَّـــةِ
د. يوسف جمعة سلامة*/
أخرج الإمام الترمذي في سُنَنِـهِ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه- قَالَ: (قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَكْثِرْ مِنْ قَوْلِ: لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ، فَإِنَّهَا مِنْ كَنْزِ الْجَنَّةِ).
هذا الحديث حديثٌ صحيحٌ أخرجه الإمام الترمذي في سُنَنِـهِ في كتاب الدَّعوات، باب فضل لا حول ولا قُوَّة إلا بالله.
إِنَّ الجَنَّة أُمنية كلّ مسلم، ولكي يُحَقِّق الإنسان أُمنيته يجب عليه أن يسير على الطريق المُوصلة إلى الجَنَّة، حتى يصل إليها بسلام إن شاء الله، فالجَنَّة فيها مَا لاَ عَيْنٌ رأت، ولا أُذُنٌ سمعت، ولا خطرَ على قلب بشر، وَثَمَنُ الجَنَّة غالٍ ونفيس كما جاء في الحديث الشريف: (أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ، أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ)، ومِمَّا لا شكَّ فيه أنَّ كلّ إنسان في هذه الحياة الدنيا يحبُّ السعادة ويرجو تحقيقها، ويعمل مَا وَسِعَهُ الجُهد لبلوغها، لكنْ منهم مَنْ يقف عند حدود الرَّجاء فقط، ويريد أن يكون سعيداً دون أن يقوم بواجبه، ودون أن يبذل جُهده، وعند قراءتنا للقرآن الكريم نجد أنّ الله سبحانه وتعالى يُرشدنا إلى طريق الفوز بالجَنَّة، فيقول سبحانه وتعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)، يقول صاحب كتاب صفوة التفاسير: «وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ» أي وأَمَّا مَنْ خاف عظمة ربه وجلاله، وخاف مقامه بين يديْ ربّه يوم الحساب، لعلمه ويقينه بالمبدأ والمعاد «وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى» أي وزجر نفسه عن المعاصي والمحارم، وكفَّها عن الشهوات التي تُودي بها إلى المعاطب «فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى» أي فإنّ منزله ومصيره هي الجَنَّة دار النّعيم، ليس له منزل غيرها).
فضل (لا حول ولا قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ)
*عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ- رضي الله عنه- قَالَ: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَنْ قَالَ -يَعْنِي إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ-: بِسْمِ اللَّهِ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ، يُقَالُ لَهُ : كُفِيتَ وَوُقِيتَ وَتَنَحَّى عَنْهُ الشَّيْطَانُ).
* وعَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ أَبَاهُ دَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَخْدُمُهُ، فَأَتَى عَلَيَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَدْ صَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ، قَالَ: فَضَرَبَنِي بِرِجْلِهِ وَقَالَ: أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ؟، قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ).
* وعَنْ أبي أَيُّوب الأَنْصَارِيّ: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ مَرَّ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ: مَنْ مَعَكَ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا مُحَمَّدٌ، فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: مُرْ أُمَّتَكَ فَلْيُكْثِرُوا مِنْ غِرَاسِ الْجَنَّةِ، فَإِنَّ تُرْبَتَهَا طَيِّبَةٌ، وَأَرْضَهَا وَاسِعَةٌ، قَالَ: وَمَا غِرَاسُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ).
وعند دراستنا لهذه الأحاديث النّبويّة الشّريفة نجدُ أَنّ لهذه الكلمة العظيمة (لا حَوْلَ ولا قُوَّة إلاَّ بالله) فضلٌ عظيمٌ وأجرٌ كبيرٌ، وما أعظمَ أنْ تظلَّ ألسنتنا رطبة بها، فهي كنزٌ من كنوز الجنة.
كنز مِنْ كنوز الجنة
عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: (لَمَّا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَيْبَرَ ـــ أَوْ قَالَ: لَمَّا تَوَجَّهَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ـــ أَشْرَفَ النَّاسُ عَلَى وَادٍ فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بالتَّكْبِيرِ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، إِنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلا غَائِبًا، إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا وَهُوَ مَعَكُمْ»، وَأَنَا خَلْفَ دَابَّةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَسَمِعَنِي وَأَنَا أَقُولُ: لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا باللَّهِ، فَقَالَ لِي: «يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ»، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «أَلا أَدُلُّكَ عَلَى كَلِمَةٍ مِنْ كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ؟» قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَدَاكَ أَبي وَأُمِّي، قَالَ: «لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ»).
قال الإمام النووي – رحمه الله – في شرحه للحديث السَّابق: (قوله -صلّى الله عليه وسلّم-: «لا حول ولا قوَّة إلاّّ بالله كنز من كنوز الجنة» قال العلماء: سَبَبُ ذلك أنَّها كلمة استسلام وتفويض إلى الله تعالى، واعتراف بالإذعان له، وأنّه لا صانع غيره، ولا رَادَّ لأمره، وأَنَّ العبد لا يملك شيئاً من الأمر، ومعنى الكنز هنا: أَنّه ثواب مُدَّخر في الجَنَّة، وهو ثواب نفيس، كما أنّ الكنز أنفس أموالكم، قال أهل اللغة: «الحول» الحركة والحيلة، أي: لا حركة ولا استطاعة ولا حيلة إلاّ بمشيئة الله تعالى، وقيل: معناه لا حول في دفع شَرٍّ، ولا قوّة في تحصيل خير إلاّ بالله، وقيل: لا حول عن معصية الله إلاَّ بعصمته، ولا قوّة على طاعته إلاَّ بمعونته، وحُكِيَ هذا عن ابن مسعود -رضي الله عنه-، وكلّه مُتقارب، قال أهل اللغة: وَيُعَبَّرُ عن هذه الكلمة بالحوقلة والحولقة، وبالأوّل جزم الأزهريّ والجمهور، وبالثاني جزم الجوهريّ).
آمُرُكَ وإيّاها أن تستكْثِرا من قول لا حول ولا قُوَّةَ إِلا باللَّهِ
ذكر الإمام القرطبي في تفسيره لقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ}.
(وقال أكثر المفسرين فيما ذكر الثَّعلبي: إِنّها نزلت في عَوْف بن مالك الأَشْجَعِيّ. روى الكَلْبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: جاء عَوْف بن مالك الأشجعيّ إلى النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- فقال: يا رسول الله، إِنّ ابني أَسَرَهُ العدوّ وجَزِعَت الأمّ. وعن جابر بن عبد الله: نزلت في عَوْف بن مالك الأشجعي أَسَرَ المشركون ابناً له يُسَمَّى سالماً، فأتىَ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- وَشَكَا إليه الفَاقة وقال: إِنّ العدوّ أَسَرَ ابني وجَزِعت الأمّ، فما تأمرني؟ فقال -عليه الصّلاة والسّلام-: «اتَّقِ الله واصبر، وآمرك وإيّاها أن تستكثِرا من قول لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا باللَّهِ». فعاد إلى بيته وقال لامرأته: إِنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- أمرني وإيّاكِ أن نستكثر من قول لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ. فقالت: نِعْمَ ما أمرنا به. فجعلا يقولان، فَغفَل العَدُوّ عن ابنه، فساق غنمهم وجاء بها إلى أبيه، وهي أربعة آلاف شاة. فنزلت الآية، وجعل النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- تلك الأغنام له. في رواية: أنّه جاء وقد أصاب إِبلاً من العدوّ وكان فقيراَ. قال الكلبي: أصاب خمسين بعيراً. وفي رواية: فأفلتَ ابنه من الأسْر وركبَ ناقة للقوم، وَمَرّ في طريقه بسَرْح لهم فاستاقه. وقال مقاتل: أصاب غَنَماً ومتاعاً فسأل النبي -صلّى الله عليه وسلّم-: أَيَحِلُّ لي أن آكل مِمّا أتى به ابني؟ قال: «نعم». ونزلت: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ}.
الأخ القارئ الكريم:
إِنَّ المسلم يعمل جاهداً من أجلِ أن يعيش حياة كريمة في الدنيا، ومن المعلوم أنَّ أعمار الأمة كما بَيَّن – عليه الصّلاة والسّلام – بين الستين والسبعين والقليل من يتجاوز، ومِنْ نِعَمِ الله على ابن آدم البيت الواسع، لذلك فإِنّ المسلم يحرص على أن يكون له بيتٌ واسع جميل يشعرُ فيه بالرَّاحة والاطمئنان والسّعادة، ومع ذلك فهذا البيت مُعَرَّضٌ في هذه الحياة للتّلف والحرق والتّشقّق والتّصدع، فكم من بيوت هُدِمت وسقطت لأسباب متعددة، وفي النهاية فإِنَّ أصحاب البيوت راحلون إلى الآخرة وسيتركون بيوتهم وأهليهم، وقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى بأنَّ الجَنَّة في الآخرة هي مأوى المؤمنين، وأنها مراتب ودرجات تتناسب مع مستوى الإيمان والخَشْية والعمل الصالح الذي قدّمه مُسْتَحِقُّها في الحياة الدنيا ، فما أوسع دار المُتَّقين وما أطيب ريحها!!، إِنّ عرضها كعرض السموات والأرض، وإِنّ ريحها لَيُوجَدُ من مسيرة مائة عام، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}، وقول رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم-: (إِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ مائَة عَام).
اللَّهم إنّا نسألك الجَنَّة ونعيمها، وما يُقَرِّب إليها مِنْ قول أو عمل وصلّى الله على سيّدنا محمد T وعلى آله وأصحابه أجمعين.
* خطيب المسـجد الأقصى المبـارك
وزير الأوقاف والشئون الدينية السابق
www.yousefsalama.com