المعقول واللامعقول في فكر «التنويريين» العرب


من ظن أن العقلانية واحدة فهو مخطئ. ومن أصرَّ على أنه مُحِقٌّ فليجِبنا: بأي العقلانيات علينا أن نأخذ: عقلانية الغرب أم عقلانية الشرق؟ عقلانية الإغريق أم عقلانية اللاتين أم عقلانية الفلسفة الغربية الحديثة؟ عقلانية ديكارت أم عقلانية هيجل أم عقلانية نيتشه أم عقلانية هابرماس؟
وإذ نقدِّرُ أن المصرَّ قد أذعن لدعوى تعدد العقلانيات، فلنمضِ في موضوع المعقول واللامعقول في فكر «التنويريين» العرب، من بعد ما كنا أشرنا في مقال سابق إلى كتاب المفكر المصري زكي نجيب محمود «المعقول واللامعقول في تراثنا العربي».
لقد حاكم مؤلف الكتاب التراث العربي بعقلانية غير عقلانيته، وهي العقلانية الغربية في مبدئها المشترك الذي هو الاستغناء عن الوحي مصدرا للمعرفة والحقيقة، والتعويل على العقل البشري وحده في طلب الحكمة والمعرفة. وأدى به هذا المنطلق إلى التفريق بين الحياة الإيمانية والحياة العقلية، وإلى اتخاذ مقولةٍ لهربرت ريد مرجعا في طريقة التعامل مع التراث على أساس ما يناسبنا من منافعه الدنيوية لا أصوله المعرفية: (إن الثقافة– ثقافة الأقدمين أو المعاصرين- هي طرائق عيش، فإذا كان عند أسلافنا طريقة تفيدنا في معاشنا الراهن، أخذناها وكان ذلك هو الجانب الذي نحييه من التراث؛ وأما ما لا ينفع نفعا عمليا تطبيقيا فهو الذي نتركه غير آسفين، وكذلك نقف الوقفة نفسها بالنسبة إلى ثقافة معاصرينا من أبناء أوربا وأمريكا). وهي خطوة لا تقود إلا إلى نبذ التراث الإسلامي كله؛ لأن طرائق العيش تتطور، وأكثر ما كان عليه أسلافنا منها لم يعد يناسب حياتنا اليوم. ولأن نفعية التراث عنده مرهونة بماديته، وهو يزعم أن تراثنا كان جوهره العلاقة بين الإنسان والله وليس بين الإنسان والإنسان، وذلك في قوله: (إن التراث كله بالنسبة إلى عصرنا قد فقد مكانته لأنه يدور أساسا على محور العلاقة بين الإنسان والله، على حين أن ما نلتمسه اليوم في لهفة مؤرقة هو محور تدور عليه العلاقة بين الإنسان والإنسان)؛ وهي النتيجة الحتمية لاستعارته مفهوم الغرب للتراث والمنفعة العملية؛ إذ طرائق العيش هي الجانب الأكثر تطورا في حياة البشرية، ولا معنى للرجوع إلى التراث لإحيائها.
من الأمانة أن نذكر أنه راجع موقفه هذا من التراث، وانتقد ما عليه الفكر العربي المعاصر من التبعية لعقلانية الغرب، فقال: (لقد كان لأسلافنا وجهة نظر فلسفية تميزوا بها، وأما نحن- في هذا العصر- فيبدو أن النقل عن التيارات الفلسفية في أوربا وأمريكا، قد شغلنا، حتى لم يعد أمامنا فراغ نفكر فيه لأنفسنا، وبطريقتنا الخاصة. وها أنذا أطرحه اليوم سؤالا: هل من سبيل إلى إنتاج فلسفي عربي أصيل؟)؛ ولكن ذلك لا يمحو واقعا ما نزال نشاهد مظاهر اختلاله إلى الآن: لقد تجاوز الفكر العربي المعاصر المعقول الذي حاول التزامه والمنافحة عنه، إلى اللامعقول الذي زعم أنه يقاومه ويحذّر منه. ولأن تفصيل ذلك يطول، فلنقتطع من كتاب برهان غليون، القيّم «اغتيال العقل»، هذه الكلمات شاهدا على تنوير عربي يدعي العقلانية وهو يغتال العقل. قال برهان:
«نشأت العقلانية الغربية من الشك في كل المسبقات والنظم الفكرية القائمة من أجل تأكيد حرية الإنسان، حرية الفرد والجماعة القومية، أما العقلانية العربية فجاءت لتثبت النظام القائم وتبرره، نظام الحداثة والتبعية، باسم التقدم تارة وباسم موضوعية التاريخ تارة أخرى ولكن دائما ضد حرية الإنسان. وهكذا تحولت هي ذاتها إلى نقل، إلى تقليد بمعنى الكلمة، تقليد للآخر لا تمسك بالتقاليد، وتدمير للبنى القائمة لا بناء لقيم جديدة، وتدعيم لدولة لا إحياء لمجتمع. لقد جاءت كنموذج لعقلانية، بل لعقلية خارجية ومجردة يتطلب تشغيلها إعادة تركيب الواقع المعاش على صورة النموذج الاجتماعي الأصلي الذي تم استقاؤها منه… لذلك لن تظهر العقلانية هنا كازدهار لمواقف وتوجهات أصلية نقدية وموضوعية، بقدر ما ظهرت «كاستيراد» لنظريات وأفكار وتصورات جاهزة، أي منزوعة من سياقها الاجتماعي. وبما هي كذلك تشكل عقلانية النقل نفيا لكل تفكير عقلاني وموضوعي.»
ربما لاح للقارئ أن برهان غليون يتخذ هو ذاته من العقلانية الغربية مرجعا؛ ولكن ما يهمنا في مقامنا هذا هو الشهادة على اغتيال العقل. إن «التنوير» العربي يغتال العقل من حيث يدّعي أنه يؤمن به ويذود عنه!