حوار

الأديب والباحث الأكاديمي الدكتور محمد بشير بويجرة في حوار مع البصائر/ الأدب والتاريخ مبخوسا القيمة في الجزائر لتغلغل البعد المادي

حاورتـــه: فاطمــة طاهـــي/

 

جاء هذا في حوار جمع الناقد والأديب محمد بشير بويجرة مع جريدة البصائر، حيث حدثنا الباحث الأكاديمي عن مساره العلمي ومؤلفاته مشيرا إلى مقاربته في كتاب: “جدلية العبقرية والمعاصرة عند صاحب الإمارة؛ قراءة في مسار الأمير عبد القادر”، كما تحدث عن واقع الرواية التاريخية والإشكاليات التي تقابل من يتصدى لكتابتها، وعن العلاقة بين التاريخ والرواية وكيف يمكن للأديب أن يحافظ على الحقيقة التاريخية ويخدمها، كما تطرق الباحث للحديث عن المنهاج التربوي وعلاقته بالثقافة التاريخية في المجتمع الجزائري، وواقع الإعلام ودوره في تشكيل الهوية الوطنية للشباب الجزائري وتعزيزها، وأشار إلى عملية التأريخ للحركة الوطنية ولثورة التحرير، وما كتبه المؤرخون الأجانب في هذا الشأن، وعن دور جمعية العلماء المسلمين في الثورة التحريرية، ونقاط أخرى تصب في المسألة الثقافية الجزائرية.

بداية دكتور من هو محمد بشير بويجرة؟
-بشير بويجرة محمد من مواليد سنة 1948م، بعين الشرفة، ولاية معسكر، حفظت القرآن الكريم على يد والدي رحمه الله سنة 1954م، وفي أفريل 1956 وبعد التحاق الأب بنداء الجهاد ضد المستدمر، وبعد قتل عمي وابن عمي من طرف القوات الاستدمارية، وبعد تدمير مسكننا انتقلنا للسكن في مدينة “سيق” عند خالتي لمدة شهرين، ثم كلف أبي أحد الفدائيين (بقي اسمه لحد الآن مجهولا لدينا) بشراء قطعة أرض (100 مربع) في حي الزيتون الفوقاني الشعبي في مدينة وهران في شهر مايو 1956، ثم بنى لنا أحد الرجال (لم نعرف لحد الآن إسمه أيضا) كوخا من قصدير اتخذناه مأوى، حيث واصلت حفظي القرآن الكريم في الكتاتيب.
وفي سبتمبر 1956 التحقت بالمدرسة الابتدائية باللغة الفرنسية في حي البحيرة الصغيرة موازاة مع حفظي للقرآن الكريم حتى شهر جوان 1962 ثم تحصلت على الشهادة الابتدائية باللغة الفرنسية وكتقدير لحصولي على المرتبة الأولى في المدرسة قررت مديرية المدرسة إرسالي إلى “باريس” لقضاء العطلة الصيفية لكن أبي رحمه الله أبلغني رفضه ذلك بواسطة أحد الفدائيين الذي كان يدعى “الجن” ضمن الفرقة التي كان يقودها الفدائي “عتو”.
وفي شهر نوفمبر1962 وبعد الاستقلال، وبعد عودة والدي من الجهاد عدنا إلى عين الشرفة، وفي شهر فبراير 1965 أتممت حفظ القرآن الكريم عن الأب رحمه الله، وفي نفس سنة، سافرت إلى المملكة الليبية للدراسة في جامعة محمد بن علي السنوسي الإسلامية، حيث تحصلت فيها على الإعدادية، وفي سنة 1971 تحصلت على الثانوية العامة (البكالورية) ثم عدت إلى الجزائر سنة 1971، حيث التحقت بجامعة وهران التي تحصلت فيها على الليسانس سنة 1974 حيث تم توظيفي بجامعة وهران (معهد اللغات الأجنبية”، وفي سنة 1975 التحقت بصفوف الخدمة الوطنية في بالبليدة.
في شهر أوت من سنة 1977 عدت إلى وظيفتي السابقة (متصرفا إداريا متعاقدا) مكلفا بالشهادات والجذوع المشركة في “المركز الموحد للتسجيلات” في جامعة وهران، وفي شهر مارس من سنة 1982 تحصلت على دبلوم الدراسات المعمقة (D.E.A)، وفي سنة 1982 انتقلت إلى معهد اللغة العربية وآدابها في شهر سبتمبر سنة 1982 عينت رئيس دائرة الأدب حتى سنة 1985 وهي السنة التي تحصلت فيها على الماجستير ثم عينت، بعد ذلك مباشرة، نائبا لمدير المعهد مكلفا بالبيداغوجية، ثم في سنة 1986 أصبحت نائبا لمدير للمعهد مكلفا بالدراسات العليا والبحث العلمي حتى سنة 1987.
في سنة 1987 انتدبت إلى جامعة عين شمس في جمهورية مصر العربية التي تحصلت فيها على دكتوراه دولة في شهر فبراير سنة 1991، وقد نظم لي سعادة السفير “محمد الميلي” سفير الجزائر في القاهرة حفل استقبال بهذه المناسبة في سفارة القاهرة حضره الأساتذة المناقشون والأستاذ الدكتور إبراهيم عبد الرحمن المشرف الرئيسي على رسالة الدكتوراه مع الأستاذ الدكتور مصطفى الشورى المشرف المساعد.
وفي سنة 1991 عدت إلى منصب الأستاذية في جامعة وهران ثم عينت مديرا لمعهد اللغة العربية وآدابها بجامعة وهران في 1998، وبعد عام عينت عميدا لكلية الآداب واللغات والفنون في جامعة وهران، حيث كنت أول عميد للكلية بعد الإصلاحات الهيكلية التي أدخلتها وزارة التعليم العالي والبحث العلمي على المؤسسات الإدارية والبيداغوجية.
وفي شهر مايو من سنة 2002 رشحني حزب جبهة التحرير الوطني نائبا في المجلس الشعبي الوطني، حيث أصبحت نائبا فيه حتى سنة 2007.
حدثنا دكتور عن أعمالكم التأليفية؟
-من مؤلفاتي: “الشخصية في الرواية الجزائرية”، “بنية الزمن في الخطاب الروائي الجزائري”، “بنية الزمن في الخطاب الروائي الجزائري”، “الأمير عبد القادر رائد الشعر العربي الحديث”، “الأنا والآخر، ورهانات الهوية في المنظومة الأدبية الجزائرية”، “محنة التأويل، زخم المرجع وفتنة الوقع، قراءة في أوديسا الصحراء “تلك المحبة”، “جدلية العبقرية والمعاصرة عند صاحب الإمارة، قراءة في مسار الأمير عبد القادر”، “مجمع الزاد في ما طفح به المقراض الحاد”، “التاريخ، الرواية؛فضاء الرشح و غواية الإنشاء”، “عتبات الحداثة في شعرية الأمير”، “جينيالوجيا الأدبية الجزائرية”، “نزغ السامري”.
كما شاركت في العديد من البرامج الإذاعية والتلفزيونية، ولي العديد من المقالات المنشورة في مختلف الجرائد والمجلات بالإضافة إلى العديد من الدراسات والمشاركات في ملتقيات ومنتديات علمية وطنية وعربية ودولية.
وماذا عن مساركم العلمي؟
-أستاذ جامعي بجامعة وهران، أشرفت على العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه، مستشار علمي لدى مديرية الثقافة لولاية وهران منذ سنة 2012، وعضو اتحاد الأكاديمين والعلماء العرب التابع لجامعة الدول العربية الكائن مقره في عمان بالأردن من فبراير سنة 2021، وعضو محكم لمجلته العلمية التي يتشكل حكامها من كل الدول العربية وفي جميع الاختصاصات المعرفية والعلمية، وعضو بالعديد من المنظمات والهيئات العلمية والفكرية والأدبية.
“جدلية العبقرية والمعاصرة عند صاحب الإمارة؛ قراءة في مسار الأمير عبد القادر” هو عنوان لإحدى مؤلفاتكم، حدثنا عن مقاربتكم وعن أهم ما تناولته في هذا الإصدار؟
-بداية اعتذر لأني وجدت بعض الأخطاء الأسلوبية في الكتاب ترجع إلى حالة الطباعة عندنا. ثم، بعد اطلاعي الشامل على الأغلبية الساحقة من تراثنا فوجدت بأن مثل هذه الشخصيات تمتلك عبقرية خاصة ومتميزة في حقل معين من حقول المعرفة وفي سبل الحياة وفي الشأن العام وطنيا وإقليميا وعالميا.
وبما أن سؤالك حول الإصدار المذكور آنفا، فإني وجدت نفسي في مواجهة مجموعة من الأسئلة أهمها: لماذا أصرت فرنسا على أن تصف أمتنا الجزائرية وتراثنا الجزائري العربي الإسلامي بالتخلف العقائدي والفكري والحضاري؟ وكيف يمكن لشاب عمره 23 سنة من البادية والريف الجزائريين أن يشكل هذا الفارق بين أفراده وأقرانه على عهده وأن يكذب ادعاءات فرنسا؟ وكيف تمكن بهذا الفارق أن يبني جيشا من شيوخ وشباب هذه البوادي والأرياف ليحارب به جيوش العدو المحتل تحت إمرة قادة متخرجين من “سانسير” وجنرالات على عهد “نابليون بونابرت”؟ كيف تمكن هذا الشاب، بعد القبض عليه وإدخاله سجن أمبواز وتحت حراسة مشددة من أجهزة المخابرات الفرنسية أن يخلق شخصية أخرى جديدة ربما تختلف عن شخصية المحارب لكنها تبقى على المقصد بوسائل وإمكانيات أخرى متمثلة في الفكر والجدل والنقاش والإنسانية حتى فرض على العدو أن يرحله إلى الشام ليبعده عن فرنسا خوفا من قلب الصورة المشينة التي رسمها له أثناء المقاومة؟، إلى غير ذلك من الأسئلة التي تؤدي الإجابة عنها بالضرورة وبمنهجية أن هذا الشاب إما أنه عبقري إبن بيئة عبقرية ـ الجزائر ـ وإما أن هناك قوة غيبية تسانده.
وبما أن الأمير إنسان جزائري بدوي عادي لم تكن له قوة، لا مادية ولا غيبية، تسانده من أجل تحقيق ذلك، وقد فعل فإني وجدته يتسم بالعبقرية التي تماشي روح العصر الذي عاش فيه، بل وتتجاوزه في كثير من القضايا والمضامين والتجليات.
ولإبراز ذلك اقترحت: مدخلا بعنوان: العبقرية والمعاصرة؛ مصادر المكنة بين المرجع والوهب والاكتساب. فصل أول: البدء الاختبار أو بوادر تشكل المكنة. وصدرته بقول شارل هنري تشرشل “إن عبد القادر كان قد رفض العالم ولكنه سيظهر من أكبر ممثليه، لقد كان يكره المعارك ومع ذلك فإنه حالا سيلمع كأعظم ما يكون في جبهة القتال” ثم فصل ثاني: التجريب الباني..أو هاجس المعاينة، وصدرته بقول “قدور محمصاجي”: إن حس الملاحظة لديه… وذكاءه الذي أصبح أشد حدة لديه جعلاه يكتشف الفروق الكائنة بين الطبقات الاجتماعية والإخلال الدائم الذي كان عليه أبناء الفقراء، هذا الواقع جزء منه يسائل المظلومين ونفسه يتملكها الحزن الشديد. وبدأ ينمو في نفسه شعور مجهول وغامض بالثورة، وفصل ثالث: أولى عتبات المجد في ما ظنه الآخر مأساوية المآل: وصدرته بقول “عمار بلخوجة”: إن الحملة الأولى التي قادها هذا القائد عبد القادر نالت إعجاب جميع العسكريين الذين كانت لهم فكرة عن الحرب. وتوجب عليهم جميعا ورغم أنوفهم أن ينحنوا أمام عبقريته، وفصل رابع: الإنجاز العبقري بين القداسة والإبداع و صدرته بقول “برينو إتيان”: “لا يكفي السؤال عن أصل الرجل، بل بالعكس، يجب تقصي حياته وتصرفاته وشجاعته ومزاياه لمعرفة من هو وما محتده، وفصل خامس: نورانية الانجلاء أو بداية المكاشفة، وصدرته بقول “شارل هنري تشرشل”: إن عربيا قد وضع درعه الواقي فوق كرامة أوربا الجريحة، وأن حفيد النبي قد وقى وحمى قرينة المسيح، فصل سادس: حوصلة التمكين واكتمال المكاشفة، وصدرته بقول “الأمير عبد القادر” لـ “شارل هنري تشرشل”: أعطني الوقت، أنتظر زمن النهضة والتجديد، نعم سأستخدم تقنياتكم، لكن سأطعم الغرب بالروح التي تنقصه، إنكم في عالم بدون روح، وفصل سابع: إحالات المكنة و حواشي الوهب، وصدرته بقول “الجنرال يوسف إلى الأمير عبد القادر”: لو أن احد ضباطنا قام بالعمل الخارق الذي قمت به لأرسل إليه الأمبراطور وسام الشرف، وفصلا ثامنا: هذا البرزخ من تلك المجاهدة..المآل رضيا مرضيا، وصدرته بقول تعالى: “لا جرم أن ما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار. فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد”
ولعل المتمعن في كل هذه الفصول والفقرات التي تشملها يتفطن إلى المقصد من عنوان المدونة ومن بغيتي من تأليفها، ولو تمعن في أكثر من ذلك لضاقت المساحة.
دكتور لماذا تظهر أحيانا بعض التجاوزات التي تستهدف ذاكرتنا الشعبية وتحاول الإساءة والتشكيك بالرموز الوطنية؟
-طبعا هي دوافع ومبتغيات تغذيها انجرافات كثيرة جدا من الحقد والبغضاء لأعداء الأمس واليوم. و مما يؤسف له حقا أننا نجد كثيرا من الفاعلين لذلك يحملون صفة الجنسية الجزائرية ورقا وليس روحا وعقيدة. وقد كتب الكثير في هذا الشأن حتى أصبحت المسالة بادية للعيان وصريحة في كل وقت وحين. لكن الأكيد أن الجزائر ليست هؤلاء، بل هي في عمق السواد الأعظم من هذه الأمة العظيمة التي دائما تسجل تاريخها بأحرف من ذهب قبل الفتح الإسلامي ومعه وقبله وحتى الآن.
كيف يمكن للأديب إقحام شخصيات متخيلة ويحافظ في نفس الوقت على الحقيقة التاريخية؟
-أجد هذا السؤال إشكاليا، بمعنى؛ أنه معقد بدءا ونهاية وسيظل كذلك، ولكن الحقيقة أجدها في ضرورة الفصل في مسألتي الإبداع الأدبي والكتابة التاريخية، وذلك على اعتبار أن النص الأدبي جذره ومرتكزاته خيالية توهمية نابعة من عمق إحساسات وعواطف الأديب ورؤاه لما يعيش ولما يقرأ، بينما النص الأدبي في جوهره هو تدوين لما وقع ولما حدث ولمن الذي أوقع وأحدث؟.
ومن هنا ليس مطلوبا منا أن نطالب الأديب أن يقول الحقيقة التاريخية ولكننا نطالبه بالحقيقة الفنية الجمالية التي نختلف حولها بصفتنا بشرا حسب كل ذوق ووفق كل انتماء وإحساس والتزام. كما نأنف أن يعمد المؤرخ إلى سرد وقائعه ورسم شخصياته بوسم عاطفي حمالة لغته لشعب ولغايات تأويلية بالقدر الذي يبعده عن الحقيقة التاريخية، والتي أتصورها حتى هي يصعب القبض عليها كاملة وتامة كما وقعت فعلا.
الرواية التاريخية، أو التوثيق التاريخي، كيف يمكن للأديب أن يخدم التاريخ؟
-أتصور بأن الأديب أصلا يقدم مادته الأدبية وفق صيغ وأساليب مبهرة وجمالية تسلب عقل القارئ وذوقه وتدفعه إلى التمتع بقراءة النص من أوله إلى آخره حتى يجد نفسه يطرح السؤال التالي: هذا جميل، كيف استطاع أن يقول هذا؟.
ووفق هذه الخاصية للنص الأدبي نجده يقدم الوجه الآخر المسكوت عنه في النص التاريخي، طبعا هذا المسكوت عنه قد يكون إيجابيا لصالح الأمة والوطن أو قد يكون عكس ذلك وفق التقنية الذوقية لآختيار الأديب لشخصيات نصه ولأسلوب بنائها وكذلك اساليب الخطاب والحوار والمنولوج والارتدادات ـ التي يمنحها لهذه الشخصيات.
ووفق هذه الزاوية يمكن أن يخدم الأديب التاريخ إذا قدم صورا ممكنة للبهجة وللمسرات ولخطاب تحمله الشخصيات متخم بالأمل وبالفخر وبالاعتزاز وبالإيمان بالقضايا الجوهرية للأمة، وقد وجدت ذلك كثيرا في روايتنا الجزائرية.
ما هي الإشكاليات التي من الممكن أن تقابل من يتصدى لكتابة رواية تاريخية؟
-أعتقد أن مثل هذا السؤال تجدر الإجابة عليه أفضل من كتاب هذا النوع من الأدب، لكني بصفتي ناقدا متخصصا أرى بأن أخطر إشكال يصادفه كاتب هذا النوع من الأدب هو كيف يوفق ما بين المبتغى الجمالي لنصه وبين الالتزام بالمرجع التاريخي الذي يكتب في إطاره، وبخاصة حين يكون كاتبا متمرسا وموهوبا وقارئا كثيرا للمرجعيات التاريخية التي يستوحي منه تأسيسه الفني والصياغي والأسلوبي لروايته. وقد صادفت أن أحد الروائيين الجزائريين حين كتب رواية بعنوان: “الرحيل إلى أروى” أرفقها بمجموعة كبيرة جدا من المصادر التاريخية التي قرأها قبل أن يكتب روايته.
حدثنا عن العلاقة بين التاريخ و الرواية، و هل يمكن للرواية أن تكون مصدرا للتاريخ، و هل يمكن للتاريخ أن يكون مرجعا للرواية و منهلا تستقي منه موضوعاتها؟
-طبعا أن تكون الرواية مصدرا للتاريخ ـ في موضوعات التاريخ الحق ـ فهذا مستبعد، لأن التاريخ يستند إلى مرجعيات حقيقية وقعت من طرف شخصيات طبيعية لها سماتها وخصائصها الإنسانية الحقة.
في حين يجب على الرواية التاريخية أن تستفيد إيحاء أو استنساخا من التاريخ الحق مع تبني عملية التغيير والتحوير وفق ما يراه الروائي لصالح روايته بغية إثراء زاوية معينة أو إبداء وجهة نظر الروائي بفن وبرمز وعلى استحياء وبدون تصريح.
هناك من الروايات التاريخية التي تكتب بأسلوب أدبي تعتمد على التوثيق حينا وعلى التوثيق والتشويق حينا آخر، و أخرى تعتمد على الخيال التاريخي؟
-التوثيق مسألة مهمة جدا في الرواية التاريخية، لكن التوثيق يجب أن لا يكون صدى قويا وبارزا للمتلقي حتى لا يتحول ذوقه عن الانغماس في انجرافات المتعة السردية وفنياتها إلى التلقين والتعليم الجاف.
أما التشويق فهو معمار النص الروائي حتى أنه يشكل مخه وهويته، ومن أجل ذلك فإن الروائي يجب أن يكون ذكيا في خلق عجينة عجيبة بين التوثيق وبين التشويق صياغيا وعجائبيا إما في الأحداث أو في الشخصيات أو في التأثيث الكلي للنص.
العمل الأدبي هو الذي يصنع تاريخه، هل يجب امتلاك ثقافة تاريخية ليتمكن الروائي من التحكم في فصول روايته وأحداثها؟ و ما رأيك في ما يكتبه الشباب اليوم؟
-إن العمل الأدبي الناجح والمتميز يبقى على الدوام سيد الصيغ البيانية، وهو دائما في سجال مع الشعر وبخاصة في ايامنا الأخيرة، و لهذا يفترض في الأديب أن يكون متملكا لموهبة فنية منذ الصغر ثم الاستمرار في صقلها وتقوية معمارها، وذلك بالطبع يتطلب القراءة كثيرا لأجمل النصوص وأرقى الصيغ وأنبل الأساليب التعبيرية حتى تتمكن تلك الملكة من فلذات عمقه ومهجه. وحين نقول القراءة فإننا نقصد التمكن من الاطلاع على مكامن المعرفة القوية المكتنزة في مدونات من سبقوه، تلك المدونات قد تكون تاريخية كما قد تكون تسرد تجارب شماريخ وفطاحل الفن الذي يعتزم الكتابة فيه.
ما أهمية أن يكون لدى الكاتب مشروع معين يسعى ويعمل على تحقيقه؟
-طبعا، ذلك محبب لدى كل إنسان مبدع ومجدد ويريد أن يبني مشروعه في كل الحقول والاختصاصات والأديب أولى بذلك، وعليه فإنه بمجرد أن يجد الأديب في نفسه الرغبة نحو التوجه إلى الحقل الأدبي وفي جنس أدبي محدد منه؛ شعرا، رواية، قصة قصيرة، نقدا، فإنه ملزم بوضع ورقة طريق يريد أن يسلكها ليحقق مراده ومقصده، لأن العملية ليست سهلة أبدا، فهو قد يتعرض للفشل وللإخفاق كما قد يصيب النجاح والتفوق من أول وهلة عبقريته وذكائه وتكوينه في هذا الحقل.
حدثنا عن المنهاج التربوي وعلاقته بالثقافة التاريخية في المجتمع الجزائري؟
-مع الأسف الشديد نجد أن التاريخ والأدب بصفة عامة مبخوس سومهما في الجزائر سواء من طرف المؤسسات الرسمية أو لدى المجتمع الجزائري نفسه، وذلك بسبب تغلغل البعد المادي البحت في حياتنا اليومية.
ونجد ذلك مؤثرا على مناهجنا التربوية حين نجد مادتي التاريخ والأدب غير مهتم بهما وغير محروص على إيلائهما الأهمية المطلوبة في منظومتنا التربوية على الرغم من كثرة الشعارات التي تدعو إلى الاهتمام بالإنسان الجزائري وبتكوينه، فلست أدري كيف يمكن تكوين هذا الإنسان المنشود وهو لا يفقه شيئا عن تاريخ بلاده وآدابها وعلمائها.
مع الإشارة إلى أن الغرب ما وصل إلى ما وصل إليه إلا بفضل تكوين الوطني المدافع عن هويته بكل الوسائل، قديما كان بالاستشراق وبالحروب والآن بالميكانيك وبالإلكترونيك وبالاقتصاد، والملاحظ في قنواتهم الإعلامية سيجدهم يحرصون على تقديم تاريخهم وآدابهم ويناقشون محتوياتهما مع مختصين في علم الاجتماع وعلم النفس بكل تجزئاته وتمفصلاته.
كيف ترى إقبال الطلبة على كل ما يمكن أن يمت بصلة إلى المنظومة القيمية وثوابت المجتمع الذي ينتمون إليه؟
-أعتقد أنه لا يجب أن نطلب من الطالب أن يخرج عما تعرض له من تكوين منذ الابتدائي حتى الجامعة، و عليه فإن حاله الآن لا تبشر بالخير في مجال ثوابت الأمة وقيمها، ولعل ذلك ما نجده واضحا في ما يسمى بهجرة الأدمغة التي نجد فيها جزائريين عباقرة يعيشون في الخارج ويساهمون في التقدم العلمي في الأوطان التي يعيشون فيها بشكل جيد ولكنهم لا يقدمون شيئا للجزائر، والسبب في ذلك يعود إلى ما ذكرت، فهو لا يتنصل من جزائريته ولكنه يفتخر بها دائما، لكن الإجابة عن السؤال الجوهري الآتي يظل قائما: بماذا يفيد الجزائر التي درسته بالمجان حتى تخرج من الجامعة بموقفه هذا؟.
كيف ترى مشروع بناء مواطن المستقبل بشخصية مشبعة بالقيم والثوابت الوطنية تعكس الهوية الوطنية له؟
-بدء، أقر بأن المسألة الآن باتت صعبة التحكم فيها نظرا للغزو العالمي للإلكترونيات المغرية حتى للكبار فما بالك بالأطفال والشباب.
لكني رغم ذلك، أعتقد أن الإجابة على هذا السؤال يجب أن في إطار مشروع سياسي كبير تشارك فيه كل النخب الوطنية في كل الاختصاصات بآرائها وبرؤاها ليتم وضع صيغ بيداغوجية ملزمة لكل المؤسسات العلمية بجميع رتبها.
أما عن رأيي المتواضع في هذا الموضوع فأراه يتمحور حول وضع تنسيق محكم ما بين المؤسسات التربوية والعلمية وبين الآباء من أجل وضع اليد بقوة على تشكيل وبناء شخصية الطفل ثم الطالب في كل المراحل.
أما النقطة الحساسة في هذه المسألة فأجدها متمثلة في وضع التلميذ في المدرسة الابتدائية داخل عامل الوطنية المتمثل في التاريخ وفي الأدب وفي التراث بواسطة أساتذة أكفاء في علوم التربية والتوجيه، مع إقحام الوسائل الإعلامية الحديثة مثل السينما والتلفزيون والإذاعة بتصوير أفلام ومسلسلات عن شخصيات من تراثنا الحبيب وما أكثرهم في كل الحقول والأزمنة، وذلك لما نعرف من نجاعتها في إغراء وفي تحبيب الموضوع للطفل وحتى للكبار. وذلك ما نعرفه عن السينما الأمريكية التي صنعت البطل الأمريكي الذي لا يقهر.
ما هي الخطة المنهجية لمعرفة التاريخ النقي لصناعة حاضر خال من الأخطاء ولبناء مستقبل زاهر؟
-مثل ما قلت، تتمثل المسألة في إخراج التاريخ من سجنه ومن أروقة المكتبات وجعله مادة دسمة للإعلام المعاصر بكل تخصصاته، فلماذا مثلا لا نقدم أفلاما أو مسلسلات عن كثير من شخصياتنا الوطنية ما قبل الفتح الإسلامي وما بعده، مثل ما فعل الإيطاليون في تقديم تاريخهم الوطني بشخصية «هرقل» و«يوليوس قيصر» وغيرها من الشخصيات، ومثل ما فعله الإمريكيون في أفلام «الويستارن» التي صنعت تاريخا عجيبا للرجل الأوروبي الذي غزا أمريكا، وغير ذلك من الدول التي قدمت تاريخها سينمائيا. وأنا أذكر في هذا المجال أنه في إحدى السنوات عرضت التلفزة الوطنية فيلما عن «الشنفرة» بعد الحلقة الثالثة بدأت أرى الأطفال في أحياء يحملون سيوفا من الخشب ويصيحون «أنا الشنفرة».
هل علينا اليوم إعادة النظر بشكل كبير في المنهاج التربوي و للكتاب المدرسي؟
-باختصار شديد أقول: نعم ويجب أن يوكل الأمر إلى أهله، أي إلى أساتذة متقاعدين ومشهود لهم بالتفاني في مهمتهم التربوية النبيلة بشرط تطبيق ما يرونه وما يقترحونه بحذافره وفق رزنامة قانونية ملزمة.
ما هو تقييمكم لعملية التأريخ للحركة الوطنية و لثورة التحرير؟ و ما ذا عما كتبه الأجانب الذين أرخوا لجوانب مختلفة من تاريخ الجزائر؟
-شكرا لقد أثرت نقطة مهمة، حيث وجدت وأنا لست مؤرخا بل أديب ويهمني التاريخ أيضا بحب وبهيام لأني أجدهما وجهين لعملة واحدة هي «وطني الجزائر العزيزة» أن نسبة عالية جدا من تاريخنا كتبه «الآخر»، قبل الفتح الإسلامي كتبه القرطاجيون والرومان، وبعد الفتح كتبه إخواننا العرب والمسلمون، وفي ما بعد 1500 ميلادية كتبه الإسبان والعثمانيون وبعد 1830 كتبه الفرنسيون، كما وجدت أننا بدأنا نكتب تاريخنا على يد المرحومين الميلي و«توفيق المدني» و د.ابو القاسم سعد الله ود.العربي عقون» وغيرهم وصولا عند المؤرخين الشباب الذين تخرجوا في الجامعات الجزائرية بعد استرداد السيادة الوطنية.
ورغم كل ذلك لاحظت طغيان هذا «الآخر» على كتاب تاريخنا لأنه لا يمكن لمؤرخ جزائري ولو كان حديثا أن يستغني تهميشا وإحالات عما كتبه هذا «الآخر» في كل العصور والأزمنة، وذلك ما يجعلنا نقرأ تاريخنا بأقلام وبعيون وبإرادة «الآخر» وتلك مسألة أجدها تشكل تحديا خطيرا في وجه مؤرخينا وتاريخنا الوطني.
أما حول ما بدأت أقرأه في المدة الأخيرة من مذكرات وكتابات عن ثورة التحرير من طرف الثوار والمجاهدين فأعتقد فيه الخير الكثير لتاريخنا، ولا بأس إن وجدنا بعض الشنآن بين كتابات الإخوة، وذلك بسبب صعوبة التواصل وسهولة سيول المعلومات في ما بينهم أثناء الثورة، لأن الجزائر قارة حفظها الله ورعاها زيادة على التحكم القوي لأجهزة المخابرات والقوات العسكرية للعدو.
حدثنا عن جمعية العلماء المسلمين في الثورة التحريرية، و ما رأيكم في الادعاءات التي قيلت «إن الجمعية لم تشارك في ثورة التحرير»؟.
-أجد ما ادعاه المدعون مردودا عليهم تاريخيا، وذلك لما نعرف من هذه الجمعية كانت الدرع الواقي للتنصير برفعها راية الدفاع عن الإسلام وعن العروبة والعرين المبهر لتكوين أشبال الثورة تكوينا علميا وتثقيفيا حتى كانت تشكل الند القوي للمحتل في الحقل التعليمي وذلك لما نعلم من أن كل مفكرينا وأدبائنا كانوا قد تتلمذوا في معهد الشيخ عبد الحميد بن باديس أو في جامع الزيتونة أو في الأزهر تحت رعاية هذه الجمعية، كما يشهد التاريخ أنها سارعت إلى بناء مدارس ومعاهد في كثير من المناطق لتضاد بها المدارس الفرنسية التي كان يبنيها المحتل.
كما لا احد منا ينكر ما كانت تكتبه جرائدها مثل الشهاب والبصائر من موضوعات ردا على تغول المحتل ضد هويتنا الوطنية العربية الإسلامي، كما لا يخفى على أحد أن هذه الجمعية كان ينتمي إليها ثلة من الوطنيين الأحرار الذين كانوا يجاهدون بالدعوة وبالقلم مثل «الشيخ البشير الإبراهيمي» والأديب الرائع الفذ الشهيد «احمد رضا حوحو» الذي كان أمينها العام حتى سارع العدو الفرنسي إلى قتله ستة أشهر فقط بعد عودته من ارض الحجاز نظرا للخطورة التي يشكلها على هذا العدو.
الأفلام الوثائقية و الإعلام لهما دور كبير في حفظ الذاكرة الوطنية، كيف تقيم هذا الأداء؟
-أرى أن العصب الضعيف في حالنا هو ضعف الإعلام بصفة عامة، ليس في المكون البشري ولكن في جانبه التسييري والاستراتيجي، وبخاصة الإعلام الخاص الذي أجده يجري وراء البهرجة والشهرة ومجريات الحال الاقتصادية دون إيلاء أهمية كبير لكل ما هو جذر في هويتنا الوطنية، طبعا أقول ذلك استثناء لبعض الاستثناءات المحتشمة هنا وهناك، و بخاصة القنوات التلفزيونية التي نجدها تسارع إما إلى كرة القدم وإلى الشهرة التي تأتي من خارج الجزائر، بينما أجد أنه من الواجب خلق الشهرة داخل الوطن وتوزيعها على الخارج، أقول ذلك لأني أعرف أن وطننا الحبيب زاخر بأمجاد وببطولات قل مثلها في العالم، و ذلك ما يجعلني أتساءل: لماذا لا نضع أفلاما أو مسلسلات حول أبطالنا قبل الفتح الإسلامي مثل ماسينيسا ويوغورطة وسيفاكس ولم لا نضع فيلما عن طارق بن زياد وعلى عقبة بن نافع وعلى الأمير عبد القادر، وأقول ذلك وأتمناه لأننا نملك طاقات هائلة سينمائيا وفنيا وجماليا، فقط ما فرحت له واستبشرت به خيرا أنني في المدد الوجيزة التالية شاهدت أفلاما تصب في هذا المسعى مثل فيلم «العقيد لطفي».
ما هو المطلوب اليوم من الأكاديميين والباحثين في تاريخ الجزائر؟
-باختصار شديد أقول: بأن الباحثين والأكاديميين الجزائريين قد أدوا ما عليهم وما زالوا يؤدون مشكورين، وذلك لأننا نجد ألاف الأعمال الأكاديمية؛ تاريخا وأدبا اشتغل عليها هؤلاء لكنها بقيت مكدسة طعاما للفئران وللصراصير عوض أن تطبع وتوزع كتبا تباع وطنيا وفي الخارج لنجلب بها عملة صعبة للوطن، كما أجد هناك نصوصا أدبية رائعة لشباب في الحقول الأدبية؛ رواية وقصة قصيرة وشعرا يمكن استغلالها وإخراجها سينمائيا أو تلفزيونيا أو إذاعيا. كما أجد في وطني العزيز إعلاميين شبابا رائعين أداء وتوفيقا ووجاهة حتى باتت تتخطفهم وسائل الإعلام العربية والعالمية في جميع حقول المعرفة.
ماذا تقول دكتور في كلمتك الختامية؟
-وأخيرا من عجب ذلك أننا نملك كل شيء؛ مالا وكفاءات وفضاءات ساحرة وجميلة جدا تصلح لأن ينتج عنها أروع الأفلام والمسلسلات لكننا مع الأسف عاجزون عن إعطاء أي شيء مع الأسف…

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com