اتجاهات

مقامات التديّن في الاســـــــلام

عبد العزيز كحيل/

التدين في الاسلام يختلف عن التدين في النحل الأخرى وخاصة في المسيحية، فهو ليس ادعاء ولا إرجاء، ليس مظهرا روحيا للعلاقة بالله أو بالغيب بل هو صلة واعية متفاعلة بالخالق سبحانه وتعالى وبخلقه، من خلال العبودية والعبادة هناك، ومن خلال حسن المعاملة ومكارم الأخلاق هنا.. التدين لا يقتصر على أداء العبادات المعروفة بل هو عمل للآخرة وللدنيا في تناغم بين حاجات الروح والجسد، وحاجات الفرد والمجتمع، ولديه حد أدنى من الأداء لا يحتمل التجاهل وإلا كان خروجا عن الإسلام أو قريبا من ذلك بحسب الحالات، ونتلمس هذا من خلال محطات نتوقف عندها سريعا.
المحطة الأولى: حتى نكون متحضرين
البداية بأمور بسيطة جدا نقدر عليها جميعا: أحسنِ الإصغاء لمن يكلمك خاصة من كان في حالة نفسية سيئة ويحتاج إلى جبر خاطره –ابتسمْ للطفل وتلطفْ معه ومرّر يدك الحانية على رأسه – عندما يرنّ هاتفك ردّ بلباقة وأدب، رحبْ بالمتصل: يا صديقي العزيز، يا أمي الحنون، يا زوجتي المحبوبة، يا أختي الكريمة… ولا تكن قاسيا ولا غليظا في ردّك – إذا جاءك زائر هشّ في وجهه وبشّ وأحسن الترحيب به – إذا شربت العصير أو القهوة خذ العلبة أو الكوب البلاستيكي معك حتي تصل إلى أقرب سلة – أذا دخلت المسجد فاشتغل بالصلاة والقراءة والذكر وليس بمراقبة من دخل ومن خرج وكيف يصلي ولا بالإمام لماذا أطال ولا بالساعة المعلقة على الجدار – في بيتك افتح الأبواب بهدوء وأغلقها بهدوء في جميع الأحوال – عندما تدخل منزلك في أي وقت أول ما تفعله ألق السلام بصوت يسمعه الموجودون هناك –استقبل يومك الجديد بالتسليم على ركاب الحافلة وزملاء العمل وبابتسامة عريضة وليس بعبوس الوجه والنرفزة – قل كلمة طيبة لزوجتك ولو تصنّعتَها حول الطعام الذي أعدتْه لك – لا تكرر الأحاديث النبوية عن الجار بل تفقده بالفعل وأحسن إليه – إذا عاتبت عاتب برفق تعلم الاعتذار بتواضع، اختلف مع غيرك بلباقة وتوافق معه بسرعة ومودة.
بمثل هذا نكون متحضرين وننال الثواب الكثير إن شاء الله… لأن هذه هي السنة النبوية حقا وهذا هو التدين الحق.
المحطة الثانية: متديّن لكن…
لا يُطلب من المتديّن أن يكون مثاليا ولا معصوما لكن هناك سلوكات تناقض أدنى درجات التديّن… ما نقول في المتدين الذي يتجه إلى القبلة ويدير ظهره لليتامى والأرامل والمحتاجين وهو قادر على مساعدتهم؟ والذي يسجد لله ويتكبر على عباده؟ والذي في الصف الأول في المسجد لكنه في الصف الأخير في خدمة المجتمع وبذل شيء من المال؟ والذي يتصدق يوما وهو قادر على أن يتصدق دوما؟ والذي طاف بالبيت الحرام وكرر الحج والعمرة لكنه لا يطوف على بيوت أقاربه الذين يطحنهم الجوع والمرض والحاجة؟ والذي يقوم الليل ويصوم النافلة ويدير تجارته بالغش والأيمان الكاذبة؟ والذي يتقاضى المرتب كاملا ويتهرب من العمل وقضاء حاجات الناس؟ والذي لا يفارق المصحف لكنه لا يرحم من بكى ولا يرقّ لمن اشتكى؟ والذي يعتني بمظهره «الإسلامي» لكن قلبه يغلي حقدا وبغضا وكرها للمسلمين، يرى أنهم أضل من اليهود والنصارى؟ والذي يعدّ نفسه من الفرقة الناجية وهو يصطف مع الظالمين ضد المظلومين، يلعن الضحية ويدعو للطاغية المتجبر بطول البقاء؟ والذي يرفع صوته بالإنكار على حليق اللحية لكنه ساكت عن قول كلمة الحق أمام حاكم جائر وهوقادر على ذلك؟ والتي تبكي عند سماع موعظة لكنها تضحك وهي خارج البيت بلباس النوم؟…أجل، لا يخلو فينا أحد من نقص أو ذنب لكن التناقض إذا بلغ هذه المستويات أحال التديّن إلى مجرد طقوس لا روح فيها ولا فائدة منها.
المحطة الثالثة: عندما ينطق الشيطان على أفواه بعض الناس.
تارك للصلاة لا يصلي لله ركعة ويقول الإيمان في القلب، متبرجة تخرج متعطرة متبخترة تنشر الرذيلة بسفورها ومشيتها (كثيرات من هذا النوع يؤكدن أنهن يقمن الليل!!!) تقول الإيمان في القلب، مدمن للخمر والمخدرات والمهلوسات ومتاجر فيها يقسم أن قلبه أبيض…ما هذا؟ يعني القلب مؤمن والباقي لم تصله الفتوحات الإسلامية؟ إنه الشيطان ينطق على لسان هؤلاء ويزيّن لهم أعمالهم القبيحة حتى لا يتوبوا ولا يصلحوا حالهم، هدانا الله وإياهم…وبلغت الجرأة بالشيطان أن يقوّلهم أنهم رأوا الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام، وألبس هذا جبتَه، وأعطى هذا هدية، وأكد لهذا أنه من أصحاب الجنة !!!ويقوم من نومه ويحكيها بكل افتخار فإذا اعترض عليه معترض قال إن الشيطان لا يتشبه بسيد الخلق… وهي كلمة حق أراد بها شياطين الإنس والجن الباطل بعينه، فالحديث خاص بالصحابة لأنهم هم الذين يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم بملامحه وصورته، ولا يأتي الشيطان فيها -كما قال شيخ الاسلام ابن تيمية وغيره – أما غيرهم فيلبّس عليه الشيطان بسهولة، وقد أكد أحد هؤلاء مرة أنه رأى الرسول في المنام فلما سألته عن شكله قال طويل القامة أسود اللون!!! أرأيتم عبث الشيطان بالغافلين؟ استقمْ كما أمرت ولا حرج عليك ألا ترى النبي صلى الله عليه وسلم في منامك ولو مرة… استقم وستراه في الجنة… أما الآن فإن الشيطان هو الذي يقودك… انتبه: إن كان قلبك أبيض فيجب أن ينعكس ذلك على سلوكك لأن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل.
المحطة الرابعة: كلمة عتاب لأصدقائي المتدينين.
كنت أظن أن العوام وحدهم مصابون بجنون كرة القدم لكني رأيت على فيسبوك مثقفين وأساتذة كبارا ومتدينين و«مصلحين» يكتبون في العادة المنشورات الفكرية الراقية ويتكلمون في الدين والحضارة والرقي والإصلاح ويحملون هموم الأمة… رأيتهم بعد المباراة الأخيرة في قطر يصابون هم أيضا بهوَس غريب فقدوا معه أعصابهم، وانتقل اهتمامهم من الرؤوس إلى الأقدام، هاجوا وماجوا وكأننا أمام قيام الساعة أو قضية مصيرية كبرى أو تحدٍّ ضخم..ما هذا؟ يبدو من خلال مواقفهم أنهم مستعدون لجرّ الجزائر والعالم كله إلى حرب من أجل هدف في الشباك أو مباراة تخسرها… إذا كانت النخبة هكذا فلا نحتار من مستوى المجتمع… لعبة عادية تستقطب كل هذا الاهتمام؟ دعوكم من هذا الأفيون، ارفعوا المستوى، اللعب لعب والجدّ جدّ، اختاروا مع ماذا تصطفون… وأختم بكلمة الشيخ عبد القادر الجيلاني «لا تنفروا من خشونة كلامي، فوالله ما أدّبني إلاّ الخشونة في الحق».

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com