جامعة قسنطينة (1969 ــ 1975)بمناسبة مرور نصف قرن على تأسيسها التعاون الأجنبي في مـــراحل التعليـــم المختلفــــة بالجزائر (3)

أ. د. محمد عيلان */
خلال مرحلة الاستعمار لم تسع فرنسا لتعليم وتكوين الجزائريين في مجالات العلم والمعرفة، بل تركتهم يعانون الفقر والعوز والأمية، واقتصر التكوين الذي أعدته بالجزائر على ابناء الكولون، وبعض الجزائريين الذين كانت تأمل منهم خدمة مصالحها، لكن الجزائريين على قلتهم بمجرد اندلاع ثورة التحرير غادروا ثانوياتها وجَامِعَتَها والتحقوا بالثورة من أجل استقلال الجزائر وحرية شعبها كغيرها من شعوب العالم المستقلة، وتمكينا لروح الأمة الجزائرية.
وعند استقلال الجزائر وخروج فرنسا. واجهت الجزائر نقصا في الإطار التعليمي في مراحل التعليم بفروعه، فلجأت الدولة الجزائرية إلى التعاون الأجنبي من مختلف البلدان الشقيقة والصديقة، باللغات المعتمدة في التخصصات المختلفة، خاصة التدريس باللغة العربية والفرنسية، وكانت هذه الظاهرة لها تأثيرها الاجتماعي والثقافي والاقتصادي؛ بسبب صعوبة المراقبة للعملية التعليمية في بدايتها في المراحل الإعدادية والثانوية، أما المرحلة الابتدائية فقد كان خريجو المدرسة الباديسية في بداية الاستقلال قد تكفلوا بجزء كبير منها، من حيث الإطار التعليمي والبرامج التي كانت تستلهم المدرسة الباديسية، قبل التحول الذي عرفته فيما بعد نحو البرامج المتأثرة بأنظمة المدرسة في الدول الاشتراكية.
وبالنسبة للتعليم الجامعي فإن المكونين الأجانب كان الكثير منهم يمارس التدريس برتبته أستاذ مساعد، للحاجة إلى هذا النوع من المدرسين في بداية إصلاح التعليم الجامعي في مرحلة الليسانس، رغم محدودية خبرتهم، ودراسة البعض منهم في جامعات لها نظامها البيداغوجي الذي يختلف في بنيته التنظيمية وطرائق التدريس به عما نحن بصدده.
المؤتمر الأدبي الملغى:
من آثار التعاون الأجنبي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة قسنطينة سنة 1972/1971 محاولة عقد مؤتمر للأدب الجزائري، تزعمت عقده مجموعة من الأساتذة الأجانب المتعاونين في الجامعة، (بالتعاون مع المركز الثقافي الفرنسي بقسنطينة حسب ما علمت) ومنهم الدكتورة الفلسطينية (عايدة بامية) أستاذة بدائرة اللغة العربية بالكلية.
أما المحتوى العام لهذا المؤتمر فهو الأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية في إفريقيا والمراد (االكولونيالي)، وكلمة (إفريقيا) هو الاسم الذي أطلقه الرومان على الجزائر ثم الأوروبيون في القرن التاسع عشر، بعيدا عما أورده المؤرخ اليوناني هيرودوت والمؤرخ والعالم المغاربي ابن خلدون.
وسألقي نظرة مختصرة جدا على تيارين لأدباء (الكولون/المعمرين) في الجزائر اللذين كان المؤتمر معنيا بتناول آثارهم في المؤتمر (دون تصريح المنظمين بذلك كتابة)، وهما تياران عنصريان من أخطر التيارات الأدبية الكولونيالية في الجزائر قبل الاستقلال:
1 ــ تيار «الجزائريون Les Algériens» الذي تأسس ونشط في الجزائر بين الحربين العالميتين.
وأبرز كتاب هذا التيار وأكثرهم عنصرية وكراهية للجزائريين الكاتب لويس برتران (Louis Bertrand)، صاحب نظرية (الانتماء اللاتيني للجزائر)، إذ كان يرى بأن فرنسا باحتلالها للجزائر لم تفعل سوى استرداد حقها المسلوب، لأن الإمبراطورية الفرنسية هي الوريث الشرعي للإمبراطورية الرومانية كما يزعم.. ويعتبر الوجود العربي والتركي في الجزائر ظاهرة عرضية، لم تؤثر على حقيقة الشخصية الجزائرية التي بقيت رومانية. ويرى بأن البحر الأبيض المتوسط بحر لاتيني، يفصل بين فرنسا والجزائر؛ كما يفصل نهر السين بين شقي مدينة باريس. وكان هذا التيار يرى بأن الأدب الكولونيالي (La littérature coloniale) في إفريقيا (الجزائر) يتميز بكونه يشيد بالبطل الحضاري (المعمر الفرنسي) وتجلت هذه الكتابات أكثر ما تجلت في الأعمال السردية.. ويذكرني هذا بمقولة فكتور هيغو عندما علم أن فرنسا استولت على الجزائر قال: (الآن انتصرت الحضارة على البربرية).
لكن هؤلاء تناسوا ما قاله البطل الأمازيغي (مسينيسا) في حروبه مع الرومان (إفريقيا للإفريقيين) ومقاومة الدوناتيين الأمازيغ لأتباع الكنيسة الرومانية بإفريقيا بزعامة القديس (دونات) بـ (بغاي) في الأوراس.
إننا نشهد في عالمنا اليوم محاولات كثيرة لجمع البلدان المتوسطية التي تطل على البحر الأبيض المتوسط تحت مسميات ترمز إلى رومانيةِ أو لاتينيةِ سكان البحر الأبيض المتوسط، وأبسط ما يدل على ذلك (الأرقام الرومانية) التي اعتاد المنظمون كتابتها على لوحات الإعلانات للدلالة على المتوسطية الرومانية أو اللاتينية.
2 ــ تيار «مدرسة الجزائرُ Ecole de l’Algérie» الذي نشأ وزاحم تيار (الجزائريون Les Algériens) وفرض هيمنته على الساحة الأدبية حتى نهاية الخمسينيات. وإذا كان التيار الأول يجد مرجعيته في التاريخ الروماني/اللاتيني، فإن هذا التيار تتجلى مرجعيته في النموذج اليوناني، ويبرز فيه أحد الأدباء الكولونياليين صاحب جائزة نوبل؛ الكاتب (البير كامي Albert Camus) باعتباره أحد كتاب الشرق الجزائري، حيث ولد في (دائرة الذرعان)، ولاية (الطارف) حاليا، وهو الذي قال عند استلام جائزة نوبل عام 1958 قولته الشهيرة الدالة على العنصرية الكولونيالية: «سأدافع عن أمي قبل أن أدافع عن العدالة» والأم (فرنسا). كان ذلك في خضم عنف الثورة الجزائرية من أجل الاستقلال. (المرجع: الدكتور الطيب بودربالة، مجلة اللغة العربية وآدابها، جامعة الوادي).
لكن هذه الأحلام والاتجاهات قاومها الكتاب والشعراء ابناء الجزائر الثائرة، ودافعوا عن الجزائر وشعبها في مواجهة الكتابات الإيديولوجية العنصرية. وبلغة المستعمر (اللغة الفرنسية) دافعوا عن قضية الجزائر العادلة وفضحوا الاستعمار أمام العالم، وكسبوا تضامن شعوب عديدة محبة للحرية والسلام مع الجزائر، من خلال الأدب الجزائري الناشئ، باللغتين الفرنسية والعربية، بإشادتهم بالبطل الإيجابي الثائر (الشعب الجزائري).
وأشير هنا إلى أنه يجب أن نفرق بين مرحلتين في الأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية:
أ ــ مرحلة جيل ما قبل الاستقلال وهو المعني بالذكر هنا.
ب ــ مرحلة جيل ما بعد الاستقلال التي لها توجهاتها الفكرية.
أما مرحلة جيل ما قبل الاستقلال فهي مرحلة الثورة على الأدب الكولونيالي إذ بدأت مع التأسيس للوعي الثوري، وظهور التيارات الفكرية والثورية، ونشوء الصحافة، ومع فرض التجنيد الإجباري سنة 1912م على الجزائريين للدفاع عن فرنسا، واحتفالها بمرور قرن على احتلالها للجزائر. من هنا نشأ الأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية وظهر مبدعوه أبطالا إلى جانب شعبهم.
فالأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسة في مرحلته النضالية (قبل الاستقلال) كان ضرورة اقتضتها الظروف التاريخية لمواجهة الأدب الكولونيالي، الذي استفحل أمره على يد المعمرين وأبنائهم خلال نهاية القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين، وخاصة بعد الحربين العالميتين معتقدين بأن الجزائر التي أنجبت (مسينيسا) و(يوغرطا) و (الأمير عبد القادر) وغيرهم قد استسلمت وأزيلت معالمها الأمازيغية العربية وفقا لنظرية الكولونيالي (لويس برتران) المذكورة آنفا.
وأما عباقرة هذا (الأدب المقاوم) فإننا نجد: مولود فرعون في رائعته (ابن الفقير) وصاحب مقولة: (أكتب باللغة الفرنسية لكي أقول للفرنسيين بأني لست فرنسيا)، ومحمد ديب خاصة ثلاثيته الشهيرة (الدار الكبيرة ، الحريق، النول) (والتي لنا دراسة عنها أنجزتُها في سنة 1973 م ونشرت بالمملكة الأردنية)، وكاتب ياسين في رائعته (نجمة)، ومولود معمري في رائعته (الربوة المنسية) نشرت عام 1952م، ثم رائعته الأخرى (الأفيون والعصا)، ومالك حداد في (سأهبك غزالة» نشرت عام: 1959م و«التلميذ والدرس» عام: 1960م، ورصيف الأزهار لا يجيب، والشقاء في خطر) وغيرهم ممن كتب بلغة المستعمر دفاعا عن الجزائر.
وباللغة العربية: الشيخ عبد الحميد بن باديس في كفاحه التنويري، ومن مقولاته الشهيرة:
(شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب .. من قال حاد عن أصله أو قال مات فقد كذب).
ومعه كوكبة من الشعراء والأدباء الشيخ البشير الإبراهيمي، الشيخ العربي التبسي، الشاعر محمد العيد آل خليفة، الشاعر مفدي زكريا، رضا حوحو، محمد الشبوكي، صالح خرفي، مالك بن النبي، عبد المالك مرتاض، عبد الله ركيبي، عبد الله شريط. الشيخ الطيب عيلان. كان لهم ولغيرهم ممن لم أذكرهم دور في إبطال النظرية الاستعمارية (الرومانية/اللاتينية)، ومساندة الشعب في ثورته وإيصال صوته المنادي بالحرية إلى العالم الحر. وبسبب هذه المقاومة الأدبية أَعْدَمَ الاستعمار منهم من أعدم وسَجَنَ منهم من سجن.
علينا أن نحترم ونقدِّر أولئك الأدباء الذين واجهوا (الأدب الكولونيالي العنصري)، وأبطلوا مقولاته ونظرياته، وأسسوا لـ (أدب المقاومة في الجزائر) الذي استمر حتى استقلال الجزائر. علينا أن نحترمهم ونَدْرس ونُدَرِّس ما كتبوه في لغتيه الفرنسية والعربية، فهما يكملان بعضهما ويصنعان ملحمة الجزائر، ويبرزان دور البطل الإيجابي (الشعب الجزائري).
لكن هذا المؤتمر الذي أنا بصدد الحديث عنه كنا من رافضيه وسعينا لعدم انعقاده، ولم يكتب له النجاح لأسباب (سمعتها تتداول بين المنظمين لأننا لم نستشر في عقده بالكلية). ونظرا إلى أنه قد واجه رفضا فقد نسي الناس حدث اقتراحه. وهذه الأسباب:
أ ـ إن الجامعة غير مستعدة ماديا لتغطية تكاليف انعقاده. وليست لها تقاليد عقد الملتقيات الدولية.
ب ــ أغلب محاوره تتعلق بالأدب الكولونيالي فيما وراء البحار، وخاصة في المغرب العربي.
ج ــــ من أسباب الرفض عدم الإشارة إلى تناول الأدب الجزائري المكتوب بالعربية وبعض من شخصياته الأدبية.
د ــــ الاحتجاج الذي أبداه بعض المثقفين من ابناء المدينة؛ الذين كانوا يرون أن الأولى أن يتناول هذا الملتقى الحركة الباديسية ودورها التنويري، أو الثورة التحريرية في الأدب الجزائري المكتوب باللغتين العربية والفرنسية. وبعضهم كان يرى أن استقلالنا لم يمض من عمره عشر سنوات حتى نعقد مؤتمرا نحتفي فيه بأدباء الكولون أو الأدب الفرنسي فيما وراء البحار. وحسب علمي (دون تأكيد) أن محاولة عقده عُرِضَت على الجامعة في الجزائر العاصمة ورُفِضَت، ولست أدري إن كان قد عرض على جامعة وهران. لكن ما أرجوه ممن له دراية بهذا الملتقى أن يصحح لي أو يضيف ما نسيته.
قسنطينة: أنغام وأضواء Constantine: Sons et Lumières.
ومما تردد في الأوساط الجامعية بقسنطينة في تلك الفترة دون أن يتحقق، هو أن أحد الأساتذة الفرنسيين اسمه لويس دوبرمار(Louis Deprémare) وهو قس بإحدى الجمعيات المسيحية، وأستاذ فلسفة بإحدى الثانويات بمدينة قسنطينة وكان مدرسا متعاونا بالكلية في سنة 1968/1967، يسعى إلى الاحتفال بمدينة قسنطينة في مهرجان يطلق عليه: (قسنطينة أنغام وأضواء Constantine: Sons et Lumières)، يحكي تاريخ المدينة منذ ظهورها على مسرح التاريخ وخاصة في المرحلة الرومانية والمرحلة الفرنسية.. وهو الآخر لم يفلح في تحقيق أمنيته؛ لأن الجامعة لم تتبن مثل هذا النشاط؛ لشبهة الخروج به عن التاريخ الحقيقي إلى تمجيد التاريخ الروماني واللاتيني والكولونيالي في الجزائر.
الحلقة القادمة: ظروف وتحديات من أجل النهوض بكلية الآداب في الجامعة الناشئة:
ـكلية الآداب جامعة باجي مختارــ عنابة.
Ailafolk@hotmail.com