الله والعلـــم والبــراهيـــن قراءة نقدية في آخر كتاب فرنسي يثبت وجود الله(2)
نذير طيار/
إن تأكيد فكرة ألوهية المسيح كان ضروريا جدا لتوطيد الوحدة في الامبراطورية الرومانية ولإقامة القاعدة الجديدة لسلطة الفاتيكان. من خلال المصادقة الرسمية على كون المسيح ابنا للرب، حوَّل قسطنطين المسيح إلى إله مترفع عن عالم البشر…كينونة تتمتع بسلطة لا يمكن تحديها أبدا. وهذا الأمر لم يعمل على وضع حد لتحديات الوثنيين للمسيحية فحسب، بل بسبب ذلك لن يتمكن أتباع المسيح من التحرر من الخطايا إلا بواسطة طريق مقدسة جديدة وهي الكنيسة الكاثوليكية الرومانية.[، ويقول أيضا: ]بما أن قسطنطين قد قام برفع منزلة المسيح بعد مضي حوالي أربعة قرون على موته، فقد كانت هناك الآلاف من الوثائق التي قد سجلت حياته على أنه إنسان فانٍ. عرف قسطنطين أنه لكي يتمكن من إعادة كتابة التاريخ ، كان بحاجة إلى ضربة جريئة. ومن هنا وُلٍدت أهم لحظة في التاريخ المسيحي. فقد أمر قسطنطين بكتاب مقدس جديد، وقام بتمويله. حذف الأناجيل التي تحدثت عن المسيح كإنسان،ٍ وزيَّن تلك التي أظهرت المسيح بصفات إلهية. وحُرمت الأناجيل الأولى، وتم جمعها وحرقها…وكان كل من يُفَضِّل الأناجيل الممنوعة على نسخة قسطنطين يُتهَم بالهرطقة، وكلمة هرطوقي تعود إلى تلك اللحظة التاريخية. وإن الكلمة معناها «اختيار» . لذا فإن الذين اختارواhaereticus اللاتينية هيرتيكوس التاريخ الأصلي للمسيح كانوا أول هراطقة العالم[. . إن الرواية التي نشرت قبل صدورها كفيلم بأكثر من عام، يرى كاتبها دان براون أن خلفيتها التاريخية صحيحة وليست مجرد خيال فني. وما يؤكد أن هذا الخيال الفني الذي ذهب بعيدا بصاحبه، لم ينطلق من فراغ، وجود رأي مهم جدا، بدأ يتفاعل في الساحة المسيحية العالمية في العقدين الأخيرين، إذ تغيَّرت كثير من النظرات إلى الإمبراطورية الرومانية، بعد ظهور مدرسة أنجلو-ساكسونية في التأريخ، ومن أحسن ممثليها بالولايات المتحدة ألان كاميرون Alan Cameroun وروبين لان فوكس Robin Lane Fox، وبفرنسا بيار شوفان Pierre Chuvin وكلود لوبلي Claude Lepelly. ويرى البروفيسور إيف موديران Yves Modéran، في دراسة له بعنوان: «اعتناق قسطنطين للمسيحية وتمسيح الإمبراطورية الرومانية» أن المؤلَّف البيِّن لهذه المدرسة…، يتمثل في كتاب لان فوكس «وثنيون ومسيحيون» Pagans and Christians، وقد ظهر سنة 1986، ويؤكد فيه أن المسيحيين كانوا يمثلون في نهاية القرن الثالث الميلادي أقلية (قوية فاعلة)، أمام وثنية نشيطة جدا عشية اعتناق قسطنطين للمسيحية؟؟. وهو طرح أثار ردود فعل كثيرة متشنجة بحكم نتائجه واستلزاماته. إذ يعني التسليم بأن تمسيح الجماهير والقوى الحية للإمبراطورية، هو ظاهرة لاحقة، لا يمكن فصلها عن اعتناق قسطنطين للمسيحية وعن تحويل المسيحية إلى دين للدولة. وهكذا يصبح اعتناق قسطنطين للمسيحية سببا لتمسيح الإمبراطورية (بالإغراء والإكراه) وليس العكس. ويقدِّر لان فوكس نسبة المسيحيين في سنة 312م بـ 4 إلى 5% فقط من مجموع سكان الإمبراطورية، وهو ما يجعل منهم أقلية صغيرة. ومن الكتب العلمية المهمة جدا في تاريخ المسيحية، كتاب «المسيحية نشأتها وتطورها» لمؤلفه شارل جنيبير أستاذ المسيحية ورئيس قسم تاريخ الأديان، بجامعة باريس، ترجمه إلى العربية، شيخ الأزهر د.عبد الحليم محمود. وقد بين المؤلف أن المسيحية بدأت الانفصال عن عقيدة التوحيد، منذ أن دخلها القديس بولص، الذي ترجم كلمة «عبد الله» التي كان المسيح عليه السلام يرددها كثيرا، بـ «طفل الله» التي أنتجت «ابن الله»، لكن الله لا يلد ولا يولد، والابن مولود مخلوق في كل الأحوال لا يمكنه أن يصير هو الآخر إلها.
ثامنا: الكتاب تجميع شمولي لمتفرقات، لهذا غاب المستوى التحليلي الذي يضيف شيئا جديدا يمكن اعتباره بصمة للمؤلفين، على مستوى المنهج الاستدلالي أو العلمي، ولا يمكن مقارنته مثلا بكتاب: «لماذا لا يدحض العلم وجود الله؟» لأمير أكزيل، أو كتاب «الإسلام والإنفجار العظيم ودروين/الأسئلة المزعجة» لنضال قسوم أو كتاب «التوراة والإنجيل والقرآن» أو كتاب «أصل الإنسان بين العلم والكتب السماوية» لموريس بوكاي. ما يثير الانتباه أن أفكار موريس بوكاي حاضرة بقوة في هذا الكتاب الصادر حديثا، بعد تطبيقها على التوراة والإنجيل لا القرآن. في غياب الشجاعة الفكرية للرد على آراء بوكاي بخصوص استدلالاته على مناقضة بعض آيات الإنجيل للعلم الحديث. ومثالا على ذلك أقول: يوجد في القرآن من الإشارات العلمية الدقيقة ما يفوق إشارات التوراة والإنجيل. فعلى سبيل المثال، ذكر الكاتبان أن الشعب اليهودي غير المتطور حضاريا هو الوحيد الذي كان يرى في الشمس والقمر قبل 3000 سنة كتلتين مضيئتين فحسب، وسط شعوب العالم التي كانت تقدسهما أو تعبدهما، ونقرأ في الإنجيل: «إن الله خلق النورين الأعظمين الشمس والقمر». في حين استعمل القرآن في وصفه للشمس مفردة «السراج»، وهو وصف دقيق لما يحدث داخل الشمس، وفق ما يقول به العلم الحديث، عبر توظيف وسيلة إيضاح من الواقع اليومي للعربي في تلك الفترة هي السراج. في حين يوصف القمر بالنور فقط، على أساس أن ضوءه غير ذاتي، بل هو انعكاس لضوء الشمس. فالشمس مضيئة والقمر منير، وفق ما تؤكده اللغة العربية في التفريق بين المضيءوالمنير، مع إيماننا بانعدام المترادفات في اللغات. ما أردت قوله أن بعض الاستدلالات الدينية-الكونية على وجود الله، انطلاقا من الكتب السماوية، تنطبق بشكل أكثر دقة على القرآن الكريم، كما أثبت ذلك الطبيب الفرنسي موريس بوكاي. ولست من الذين يقولون بتناقض حديث التوراة أو الإنجيل عن الشمس والقمر مع العلم الحديث، فقد يكون خطابا عاما يوافق عقول السامعين في تلك الأزمان البعيدة. وأنا من الذين يؤمنون بوجود إشارات علمية في الكتب السماوية، لا نظريات علمية، كما يبالغ في ذلك بعض المتطرفين في بحوث الإعجاز العلمي.
في وجوب الثقة بالعلم، والإيمان بحدوده
تاسعا: يسقط الكتاب في حفرة الإيمان بالعلم مجيبا عن كل الأسئلة. هل بإمكان الإنسان أن يمتلك يقينيات نهائية بشأن الحكمة الإلهية من بعض الحوادث العظيمة التي يشهدها هذا الكون؟
الجواب باختصار: لا. والسبب كما يقول أمير أكزيل: لأن تفكيرنا البشري يقع داخل علبة الكون لا خارجها. وفي غياب نظرة كلية خارجية، لا يمكننا فهم كثير من الألغاز المتعلقة بالبدايات والنهايات. وهذه الإحاطة بالكون المخلوق لا يمكن أن تملكها إلا إرادة عليا وحكمة عليا، وهما صفتان من صفات الله الخالق.
ففي سنة 2013 قال العقل الفيزيائي الكبير ستيفن هاوكينغ قبل وفاته: «إن الانفجار العظيم ليس بحاجة إلى الله لكي يحصل «وكان يقصد أن الانفجار العظيم هو نتيجة قوانين الفيزياء فقط. ولكن ستيفن هاوكينغ لم يجب عن سؤال: من أين أتت قوانين الفيزياء هذه. وهل يمكن للثوابت الفيزيائية أن تكون نتيجة مصادفة عجيبة!!!! مع ملاحظة أن تغييرا طفيفا في واحد منها، يلغي أي فرصة لوجود هذا الكون أصلا.
من الدوائر العلمية المحببة للملحدين: ميكانيكا الكوانتا، أي ميكانيكا الالكترون والبروتون…والجسيمات الصغيرة جدا. فهم يقولون: إن خلق الكون تم دون حاجة إلى الله. ولكن عدم الملحدين هنا هو سحابة كوانتية موجودة سلفا وفق قوانين تحكمها. من أين جاءت هذه السحابة؟ ومن وضع القوانين التي تحكمها؟.
يرى كثير من العقلاء المؤمنين أن هذا الطرح غير عقلاني بالمرة، فالجسيمات الكوانتية،وجدت نفسها مترابطة ثم منفصلة بآلاف الكيلومترات، تتفاعل في تزامن،وبالطريقة نفسها، وهذا يعني انعدام أي تبادل للمعلومات فيما بينها!!!!.
ويمكن الرجوع إلى نظرية الشواش (أو الفوضى) chaos theory لفهم الموضوع أكثر. فرفرفة جناحي فراشة في البرازيل قد تنتج عاصفة في أفريقيا، وليس بإمكاننا التنبؤ بذلك سلفا. لأن هناك متغيرات عديدة، وتَغَيُّرٌ بسيطٌ في واحد منها، يغير النتيجة تماما. الشواش ليس ظاهرة عشوائية، ولا يوجد شيء عشوائي في هذا الكون. ويتميز الشواش بظهور حوادث قصوى غير متنبأ بها علميا تغير الأحداث جذريا، مثل الكويكب الذي قضى على الديناصورات، قبل بعث وخلق الإنسان بملايين السنين. هذه الأحداث العشوائية غير المتنبأ بها، ليست بالضرورة كذلك عند حكمة أعلى بكثير من حكمتنا البشرية.
اليهود عرق مقدس !!!
عاشرا: في الكتاب رؤية عنصرية واضحة، في تمييز عرقي مفضوح للعنصر اليهودي، تاريخا وعبقرية وإنتاجا علميا، يعكس حجم الدعاية الصهيونية المهيمنة على العقول في الغرب. رؤية لا تقول بها دراسات جينية ولا نظريات بيولوجية تطبيقية. ينطلق الكاتبان من فرضية أن مصير الشعب اليهودي لا يمكن تفسيره بسلسلة من المصادفات أي بمعزل عن قوة عليا سماوية. فشعب فقير وجاهل حامل لحقائق كبرى يجهلها باقي العالم، ومن هنا فهو شوكة في حلق الماديين حسب الكاتبين، اللَّذين يضيفان: «الشعب اليهودي هو الشعب الوحيد، من العصور القديمة، الذي حافظ على بلد واحد ولغة واحدة ودين واحد. مثلما كان في بداياته. هو الشعب الوحيد الذي نجا رغم تهجيره ونفيه وإبادته مرات عديدة. هو الشعب الوحيد الذي عاد إلى أرضه بعد 18 قرنا من نفيه عنها. هو الشعب الذي خرج منه الكتاب السماوي الأكثر مبيعا في العالم. هو الشعب الوحيد الذي لعب في تاريخ الأفكار والعلوم دورا غير متناسب مع حجمه الديمغرافي. هو الشعب الوحيد الذي تعرض لعنصرية معكوسة، أي لاعتقاد أعدائه بأنه متفوق جدا. هو الشعب الوحيد الذي يعتقد نصفه أنه شعب الله المختار ومهد مخلِّص العالم، ويملك في الوقت نفسه تكنولوجبا عالمية عالية جدا. هو الدولة الوحيدة التي حققت انتصارات عسكرية خارقة تذكرنا ببعض حلقات الكتاب المقدس».
ويمكن لكل صاحب عقل، أن يرد على هذا المنطق العجيب في الاستدلال بالرجوع إلى كتاب البروفيسور الفيلسوف المسلم روجي غارودي: «الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية»، وهو رد تفصيلي على كل هذه الادعاءات الباطلة. فاليهود الصهاينة لم يعودوا إلى «الأرض الموعودة» كما يدعون بل اغتصبوها اغتصابا من أهلها بعد أن قتلوهم وذبحوهم وشردوهم ودمروا مساكنهم وصادروا ممتلكاتهم. واليهود ليسوا الشعب الوحيد الذي امتلك حقائق علمية في مرحلة تاريخية معينة انطلاقا من كتاب سماوي، يشترك معهم في هذا كل الشعوب التي استقبلت كتابا سماويا. كما أن من يقرأ القرآن سيفهم جيدا الأسباب الموضوعية والذاتية، والسنن الحضارية، التي صنعت مآسيهم عبر العصور. وليس الشعب اليهودي الوحيد الذي يعتقد أنه شعب الله المختار. وليست اللغة العبرية الوحيدة التي بعثت من رمادها. أما عن دور الأقلية اليهودية في إنتاج الأفكار والعلوم، فقد حصل في القرن العشرين فقط لأسباب موضوعية مرتبطة بالبيئة أكثر منها ذاتية. لهذا لا ينتج يهود اليمن والمغرب ومصر والعراق والجزائر وإثيوبيا علما متميزا مثل يهود ألمانيا والنمسا وفرنسا وأمريكا؟ وترجع الدراسات الاجتماعية سبب تفوق اليهود الأوروبيين والأمريكيين في مجال العلوم في فترات ما إلى عامل جوهري هو التعليم والتعلم (لا الاضطهاد) اللذين تفوق أهميتهما عندهم جميع الطقوس الدينية، كما أن أطفال الأقليات يتعرضون لضغوط كبيرة من أهاليهم في أمور التعليم، كالصينيين والمسلمين في أمريكا مثلا. وللتأكد من هذه الحقيقة العلمية الاجتماعية، ابحثوا عن عدد اليهود الفائزين أو الجامعات الإسرائيلية الحاضرة في ميدالية فيلدس للرياضيات، المكافئة لجائزة نوبل؟ ولا يمكن الحديث عن التطور التكنولوجي والعسكري الإسرائيلي بمعزل عن الدعم الغربي الواضح، فإسرائيل كانت وستظل جماعة وظيفية زرعها الغرب في جسم الأمة الإسلامية لتحقيق مصالحه، على حد تعبير البروفيسور عبد الوهاب المسيري. والأمر نفسه بخصوص الانتصارات العسكرية الإسرائيلية في حروبها ضدالعرب، لم تنتصر إسرائيل لقوتها، بل لغياب جندي مقاوم فعلا، وأنظمة عربية مقاومة حقيقة، والدليل اندحار إسرائيل في الجنوب اللبناني وفلسطين تحت ضربات المقاومة الباسلة وصمودها، في إطار معادلة توازن الرعب. أما عن العنصرية المعكوسة ضد اليهود فيمكن التساؤل هل تبيح للصهاينة عنصريتهم ضد الفلسطينيين على اختلاف أديانهم. وماذا عن إبادة الهنود الحمر واستعباد السود الذين قامت عليهما الحضارة الأمريكية؟.
الخلاصة: الكتاب في جزئه الأول، مهم جدا من حيث تجميعه لأدلة علمية فيزيائية وبيولوجية على وجود الله، تسقط كثيرا من خرافات الملحدين والعلمويين، لكنه في جزئه الثاني وقع في دعوة فاضحة تبشيرية وتقديس مرضي للعرق اليهودي، بما يفضح كتلة صهيونية-مسيحية فرنسية مهيمنة على الإعلام والثقافة تشكلت منذ عقود.