الاحتفــــاء بالْيَـــــوْم الْعَــــالَـمِــــيِّ لِلُّغَـــــةِ الْعَــــرَبـِـــيَّـــةِ : 18 ديسمبـــر/ -أضــــواء ومــلاحظــــــات-
د. محمد سيف الإسلام بـوفـلاقـة*/
تُشبّهُ اللُّغة بالرئة التي يتنفس بها الإنسان والفرد المعرفة والعلم؛ وهي مادة الفكر وأداته، وباجتماعهما تتشكل الثقافة، ومن المعلوم أن اللُّغة ظاهرة اجتماعية تعكس ما يُنجزه المجتمع، وبدونها لا يُمكن أن تكون هناك ثقافة بين البشر، وفي علم (الأنثروبولوجيا) تغدو اللُّغة مكوناً من مكونات الثقافة، واللُّغة تعدّ حدثاً تواصلياً تؤسّس النشاط الإنساني الاجتماعي، وتتوسّطه؛ حيث إن إجراء مقارنة لغوية بين لغتين أو لهجتين أو أكثر لمعرفة الأصول اللُّغوية والتّاريخية، وإدراك تطوّرها عبر الحقب المختلفة؛ يتطلب تعقب ذلك في مختلف مستويات اللُّغة وأنظمتها المختلفة؛ ذلك أن المكوّنات الأساسية للبنية اللّغوية كما يذهب نحو هذا التوجه (أنطوان مييي) ثلاثة: نظام صوتيّ، ونظام صرفيّ، ونحويّ، ومعجم، ويُشكل النطق مع النحو مجموعة من الأنظمة المغلقة، ويُعبر الأداء اللّغوي عن مستوى الفرد، ويكشف النّقاب عن اختلاف المستويات الثّقافية، والطبقات الاجتماعيّة، ودرجة الكفاءات العلميّة؛ ذلك أن اللّغة ظاهرة اجتماعيّة فوجودها يشترط وجود مجتمع، وتُعرف اللُّغة بأنها وسيلة من وسائل الاتصال البشري يستخدمها المرء للتعبير عن هواجسه، وأفكاره، ومشاعره، وكثيراً ما يُقارب أمر اللُّغة العربيّة من حيث إنّها لُغة القرآن الكريم فحسب؛ والحقيقة يجب أن ننظر إلى اللُّغة العربيّة على أنّها لغة تعلّم، وتعليم، وحضارة، وتواصل، وهذا الأمر لا يُقلل من شأنها، ومن أهمّيّة كونها لغة القرآن الكريم؛ فالشأن اللغويّ شأن حضاري له صلة وشيجة بالتثاقف، وحاجات التواصل، والتطوّر التاريخي، وإذا ما شكّ البعض بحيويّة اللغة العربيّة؛ فيرجع هذا الأمر إلى طرائق تعاملنا معها نحن أبناء اللسان العربيّ، إذ لا ريب في أن ما يجعل اللغة حيّة هو حيويّة الناطقين بها على الصعيد الحضاريّ، وليس فقط على مُستوى الثقافة المحلّيّة الضيقة؛ ولعل البرهان الأسطع، والدليل الأبرز على هذا الأمر هو أن اللغة العربيّة قد تخطّت الحُدود الجغرافيّة للناطقين بها عندما شعر العالم بأنّه بحاجة إليها بصفتها مصدر علم وفكر وفنون، ولقد بات من المسلم به أن اللغة مؤسسة تُحقق التأقلم، والتواصل، وتُعزز الذات الإنسانية، وتُحدد ملامح الهُـوية الثقافية؛ لذا يتوجب علينا أن نتساءل كيف يُمكن للغة العربية أن تنتفع من التقنيات الحديثة، وتُـواجه ما يطرحه عليها راهن الحضارة الإنسانية، ومستقبلها من تحديات، وكيف يتيسر لأبنائها مجاوزة المعضلات، والصعاب الكثيرة التي تمر بها حياة اللغة إبان تعاملها، وتفاعلها مع الوظائف التواصلية، وأثناء انفتاحها على اللغات العالمية، وينبغي التذكير في هذا الصدد بأن احتفال الأمة العربية، والعالم باللغة العربية من خلال اليوم الذي حددته اليونيسكو في (أكتوبر:2012م) عند انعقاد الدورة190 للمجلس التنفيذي (18 ديسمبر) من كل سنة يوماً عالمياً للغة العربية لم يأت بشكل اعتباطي؛ فهو احتفاء له أبعاده، وخلفياته، ودلالاته العميقة، ومعانيه المتعددة، ولا ريب في أنه يؤكد المكانة العالمية التي تحظى بها اللغة العربية، وبناءً عليه فكل مؤسسة ثقافية،أو هيئة علمية معنية بالاحتفاء بهذا اليوم الذي يُذكر بالاعتزاز باللغة العربية،و يُنبه إلى ضرورة التمسك بها، واستعمالها، ونشرها على أوسع نطاق، كما يدفعنا هذا اليوم إلى التفكير في التحديات، والمآزق، والمعضلات التي تحيط بلغتنا العربية، ويجعلنا نكثف الجهود للمحافظة على سمو مكانة اللغة العربية في مواجهة الهجمات الرامية للنيل منها، والتي يجب مواجهتها بالعمل على تطويرها، والحفاظ عليها لاحتواء علوم العصر، والتقنيات الحديثة، فسؤال اللغة العربية ليس أمراً مرصوداً في أساس التاريخ، وما يفرضه من مقتضيات، بل ينبري اليوم ليشكل قضية مركزية تستحق الدراسة، والبحث، والتأمل، لذلك تحث الجامعة العربية في كثير من توصياتها على الاهتمام باللغة العربية في المدارس، والجامعات، ووسائل الإعلام، وفي الشارع، والبيت، وتوصي بالتأكيد على الخصوصية الثقافية، وتعميق الاعتزاز بالهوية العربية، وفي طليعتها اللغة العربية الفريدة من نوعها، نظراً لقدرتها على استيعاب العلوم الحديثة، وتلبية أغراض الاتصال في الحياة دون جعلها حكراً على أغراض محددة، فضلاً عن دعم الجهود المبذولة، والهادفة لاستخدام التقنيات الحديثة.
ومما لا يشوبه أدنى شك أن التطوُّع اللغويّ من شأنه أن يُقدم خدمات جليلة للغتنا العربية، وهو بمفهومه البسيط ينهض على«مُبادرات وجهود فردية وجماعية مُتقنة؛ تُسهم في تقديم خدمة ملائمة للغة العربية، ومُعالجة تحدياتها واستغلال فُرصها؛ دون توقع منفعة مادية».
ويذهب الباحث الدكتور(عبد الله البريدي) لدى تحليله لهذا المفهوم إلى أنه (التطوُّع اللغوي) يتأسس على وجود إرادة إصلاحية لدى الإنسان تُجاه لغته القومية والدينية والحضارية؛ الأمر الذي يجعله يؤمن، وبشكل طوعي بضرورة التضحية، والبذل والعطاء من أجل النهوض بمعالجة المشاكل، ومُواجهة التحديات اللّغوية، والعمل على استغلال شتى الفُرص المُتاحة، كم أنه (التطوُّع اللغوي)؛ يتجلى من خلال مهارات وخبرات مُتراكمة؛ مما يسمح للمُتطوع بتقديم أعمال وجهود مُفيدة، وبناءة تُسهم في خدمة اللُّغة العربية، وهو ينهض بشكل رئيس على أساسي الفكر (المُبادرات)، والعمل (الجهود)، كما يقوم على المبادرة؛ مما يعني تجاوز منطق ردود الأفعال ،وهذا يتطلب إعلاء التفكير الخلاّق، والحرص على الابتكار من خلال طرح الرؤى الجديدة، والأفكار والمشاريع التي لا تستجيب فقط إلى حاجة، أو مشكلة، أو تحدٍ معين؛ بل إنها تستغل فرصة ومورداً ومهارة على المستوى الفردي والجماعي، والمحلي والوطني والقومي والدولي، والخدمات التي يُقدمها التطوع اللغوي يجب أن تكون ملائمة، وهذا يعني مراعاة الأطر المرجعية الحاكمة في اللّغة العربية ذاتها، وفي العمل التطوعي؛ الذي يُمكن أن يكون فردياً، كما يُمكن أن يكون جماعياً أيضاً، وذلك من حيث التخطيط والاستشراف والتنظيم والتوجيه والتنفيذ والتطبيق والرقابة والتقييم، ويكاد يقع الإجماع لدى توصيف الأعمال التطوعية على أنها يجب أن لا تكون مُعرضة للتوقف، أو الانقطاع، والتذبذب، ويظل العمل التطوعي غير محصور في مؤسسات خاصة؛ بل إنه يتبدى بشكل جلي في كثير من المؤسسات الرسمية، وقد بات من المسلم به أن اللغة مؤسسة تحقق التأقلم، والتواصل، وتعزز الذات الإنسانية، وتحدد ملامح الهوية الثقافية، لذا يتوجب علينا أن نتساءل كيف يُمكن للغة العربية أن تنتفع من التقنيات الحديثة، وتواجه ما يطرحه عليها راهن الحضارة الإنسانية، ومستقبلها من تحديات، وكيف يتيسر لأبنائها مجاوزة المعضلات، والصعاب الكثيرة التي تمر بها حياة اللغة إبان تعاملها، وتفاعلها مع الوظائف التواصلية، وأثناء انفتاحها على اللغات العالمية؛ إن هناك جملة من التحديات المطروحة، والتساؤلات العلمية، والمعرفية المشروعة التي يجب إثارتها، خدمة للغتنا العربية التي تتسم بقدرتها على استيعاب العلوم الحديثة، وتلبية أغراض الاتصال في الحياة، دون جعلها حكراً على أغراض محددة، وهو ما يُحتم على الدارسين ضرورة مناقشة هذا الموضوع، والنهوض بدعم الجهود المبذولة، والهادفة لاستخدام التقنيات الحديثة بالأبحاث، والدراسات المتتالية، والعميقة، ولقد بدأت الدول العربية تمضي قدماً في توسيع نطاق الاتصالات بالشابكة(الانترنت)، ولا يختلف اثنان في المكانة المرموقة التي تحظى بها اللغة العربية بين لغات العالم، فهي تحتل مكانة مشرقة بين مختلف اللغات العالمية، يتحدث بها أكثر من: 422 مليون نسمة، وهي من بين اللغات الأكثر استخداماً في الشابكة (الانترنت)، وهي اللغة المقدسة للأمة الإسلامية الموزعة في شتى الكور، والأصقاع، فهي اللغة الأم لسائر سكان العالم العربي، واللغة الثانية في مختلف أقطار العالم الإسلامي، وتشير كثير من الدراسات إلى أنها ثالث لغات العالم من حيث اتساع نطاق انتشارها، وتوسع مساحة المناطق الموجودة بها،وهي إحدى اللغات الست المعتمدة بشكل رسمي في كتابة وثائق الأمم المتحدة، وقد اعترفت منظمة الأمم المتحدة باللغة العربية كلغة عالمية، ولغة تخاطب، في أروقتها منذ: 18 كانون الأول (ديسمبر) 1973م، وعدتها لغة رسمية للجمعية العامة، وهيئتها، وقررت منظمة اليونسكو الاحتفال باللغة العربية في 18 كانون الأول (ديسمبر) من كل عام، بمشاركة الدول العربية والإسلامية .. واللغة العربية من أكثر اللغات انتشارا في العالم، فهي، وبالرغم من الأخطار المحدقة بالأمة العربية، والإسلامية، فإنها تمتلك ثوابت البقاء، والديمومة، بشهادة المنصفين من العرب، والعجم، ولأن فيها مكامن القوة التي لا نجدها في اللغات الأخرى، إذ تتميز بقدرتها الفائقة على التعريب، واستيعاب الألفاظ من اللغات الأخرى بشروط دقيقة، وحسب الدراسات العلمية الحديثة، فإن جميع اللغات في العالم لم تستمر، ولن تستمر أكثر من أربعة قرون، وتنقرض، وهذا هو الحد الأقصى للغات، ولكن المتتبع للمسيرة البشرية عبر التاريخ يتأكد له بلا شك، أن اللغة العربية وحدها، عاشت الآن زهاء تسعة عشر قرنا، وستستمر في الحياة ما بقي القرآن الكريم جامعا لها، ومحافظا عليه، وهي أقدم اللغات التي مازالت تتمتع بخصائصها، من ألفاظ، وتراكيب، وصرف ونحو، وأدب وخيال، مع قدرة عجيبة في التعبير عن مدارك العلوم المختلفة، وإذا أراد الباحث أن ينظر الآن في مسار حياة اللغة العربية، فإنه يُلفي أن حركتها عبر التاريخ لم تشذ عن قوانين التطور التي تحتكم إليها الألسنة البشرية، وإنما خصوصيتها تكمن في أنها تطورت حتى بلغت وضعيتها الراهنة بامتثالها إلى مجموعة من السمات، والخصائص الأساسية، وهي في المنظور اللساني الشرط الذي أمّن للعربية بقاءها على نحو وسط بين الحياة، والاستمرار من جانب، والتطور، والتجدد من ناحية ثانية، ويُمكن جمع هذه الخصائص في عدة معطيات، من بينها: الارتباط، والتعلق بالنص، ذلك أن للنصوص قيمة مرجعية، ومركزية في تاريخ اللغات، وتحولات الشعوب من محطة إلى أخرى، فإذا اختلف الناس حول أمر من المنطوق، أو المكتوب، عادوا إلى النصوص المكتوبة للفصل فيما اختلفوا فيه، والثاني هو التطور الداخلي، حيث إن ارتباط اللغة العربية بالنص، والتطور الداخلي للغة هما عاملان يضمهما في العربية أمر يكتسي درجة عالية من الأهمية، وهو ما يسميه بعض العلماء باحتوائية الدين، واللغة، فالترابط بين اللغة العربية، والدين الإسلامي يؤول إلى أن المسلم يتعامل مع القرآن الكريم باعتباره نصاً متعالياً على الخصوصية العربية.
إن اللغة العربية تتميز بتاريخها العريق، وتراثها الزاخر، وتوصف بأنها أغنى لغات العالم، وقد ظلت على مر العصور والأزمنة لغة العلم، والفكر، والحضارة الإنسانية، وهي واحدة من أشهر اللغات السامية، دخلت مختلف مجالات الحياة الإنسانية، والعلمية، والثقافية، والحضارية، وقد عرفت تطورات، وتحولات كبيرة، وازدهرت منذ القدم نتيجة اهتمام العلماء، ومحاولاتهم المستمرة في معالجتها، ومعرفة أسرارها، وتوظيفها، واستخدامها في مختلف العلوم، فأساس بقاء اللغة الاستخدام، والاستعمال المتواصل، والتنمية، وقد لعبت دوراً مهماً في سلسلة التطور الحضاري، وقدمت عن طريق أبنائها المخلصين إضافات مضيئة، ومعلومات أصيلة أدت إلى تقدم العلوم في شتى مناحي الحياة البشرية، كيف لا وهي لغة شريفة مقدسة، لغة القرآن الكريم الذي أُنزل على أنبل بني البشر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وتتميز اللغة العربية بأنها غنية بمفرداتها، وتراكيبها، وجمال أساليبها، وأصالتها، وعراقتها، بل وقدسيتها، فهي ماضينا، وحاضرنا، ومستقبلنا المشرق، وهويتنا، وأصالتنا التي تساعد على وحدتنا، واستمرارنا، ووعاء يجمع شملنا في هذا العصر. وقد شهد لها بالتفوق، والعالمية ثلة من الخبراء الغربيين المنصفين، حيث يُصرح الباحث اللغوي الفرنسي جون بيروفست، الذي يعمل أستاذاً لتاريخ اللغة الفرنسية بجامعة سيرجي بونتواز في دراسة جديدة صدرت هذه السنة: (2018م)، عن منشورات «بوان»، بعنوان: «أجدادنا العرب» بأن اللغة الفرنسية عامرة بالكلمات، والمصطلحات ذات الأصول العربية، فهناك نحو:500كلمة يستخدمها الفرنسيون في حياتهم اليومية، دون معرفة أصولها العربية، فالرحلات، وعمليات التبادل التجاري أسهمت بشكل كبير في إثراء القاموس اللغوي الفرنسي، وهو ينصح الفرنسيين بتعلم اللغة العربية، لما لها من رصيد كبير في قلب القاموس اللغوي الفرنسي.
عالمية اللغة العربية ودورها، ومكانتها:
أعلن المفكر الإسباني (كاميلو خوسيه ثيلا) الحائز على جائزة نوبل في الأدب سنة: 1989م، أن «أغلب اللغات ستنسحب من ساحات التعامل الكوني، وستتقلص في أحجام محلية ضيقة (أي دارجة)، ولم يبق من اللغات البشرية إلا أربع لغات قادرة على الحضور العالمي، وعلى التداول الإنساني هي: الإنجليزية، والإسبانية، والعربية، والصينية»، فاللغة الانجليزية هي لغة التجارة، والاقتصاد، واللغة الاسبانية لغة المساحة الواسعة (أمريكا الوسطى، والجنونية، بالإضافة إلى قسم من أوروبا تتحدث بالغة الاسبانية)، والعربية (وهي لغة الثقافة، والحضارة العالمية)، واللغة الصينية وهي (لغة العدد الأكبر). وتزخر لغات الشعوب الإسلامية، والغربية بآلاف الكلمات العربية، وخاصة في مجال المصطلحات الدينية والحضارية، وقد رصد الدكتور محمود نور الدين في كتابه: «معجم الألفاظ العربية في اللغة الفارسية»، آلاف الكلمات العربية في اللغة الفارسية، ورصد الدكتور سمير عبد الحميد في كتابه: «معجم الألفاظ العربية في اللغة الأردية» ما يزيد عن اثني عشر ألف لفظ عربي داخل اللغة الأردية، وكان تأثير اللغة العربية في اللغة التركية واضحا، ليس في المصطـلحات الإسلامية فحسب، بل في كثير من الألفــاظ، والمصطلحات الثقافية، والسـياسية والاقتصادية والاجتماعية»، والدليل على ذلك اختيار الشعب التركي للحروف العربية أداة للتعبير الكتابي بعد إسلامه، واستمراره على ذلك ردحا من الزمن في عهود لاحقة، وامتد تأثير اللغة العربية في لغات الشعوب الإسلامية كافة، في مشارق الأرض، ومغاربها، إذ تغلغلت في الهند، والصين، وباكستان، وبنغلاديش، وماليزيا، وأندونيسيا، وأفغانستان، وفي كثير من دول إفريقيا مثل: النيجر، ومالي، والسينغال، ونيجيريا، وغيرها.وفي دراسة قيمة قام الباحث بها عبد الرزاق القوصي، بعنوان: «عالمية الأبجدية العربي» وجد أن (164 لغة) في العالم كتبت بالحرف العربي، ومن هذه اللغات: الأردية، والفارسية، ولغة البشتو، والجيلانية، والبرهومية، والبلوشية والدارية، والسندية، والبنجابية، والبلقية، والأدربيجانية، والواخية، وغيرها،كما أثرت في اللغات الأوربية كالإنجليزية، والفرنسية، والألمانية، والبرتغالية، وخاصة اللغة الإسبانية التي أثرت فيها تأثيرا كبيرا، فقد ذكر بعض الباحثين أن المفردات العربية التي دخلت في اللغة الإسبانية تقدر بحوالي أربعين بالمائة من محتويات المعجم الإسباني.
إننا كثيراً ما نسمع في عصرنا الراهن أن لغتنا العربية غير قادرة على استيعاب الثقافات المعاصرة، وقاصرة عن مواكبة التطورات التقنية، والتكنولوجية في عصر الانفجار العلمي،فكيف أن العربية التي ظلت لغة الحضارة، والتكنولوجيا طوال القرون الوُسطى تعجز عن استيعاب الثقافات في هذا العصر، ولماذا لم نجد أحداً من العلماء العرب القُدامى يشتكي من عجز اللغة العربية، فصدر العربية فسيح يتسع كل يوم لمصطلحات العلم، ومقتضيات الحضارة، فقد أثبتت اللغة العربية على مرّ العصور، وبما لا يقبل الشكّ أنها قادرة على استيعاب ألفاظ الحضارة، والمصطلحات العلمية والفنية«لقد كانت آخر العهد الأموي، وفي أوائل العصر العباسي وجها لوجه مع العلوم الإغريقية، والأدب الفارسي، والحكمة الهندية فما لبث العلماء برعاية الخلفاء، والوزراء، وكلّ غيور على دينه، ولغته أن نقلوا هذه الثقافات إلى العربية، وأثروا بها تراثهم اللغوي، والفكري، وجعلوا من حركتهم مثلاً يُحتذى، ومن آثارهم الإبداعية أساساً للنهضة الغربية التي نُباهى بها اليوم. ولم تعترض سبيلهم العربية بل كانت خير عون لهم بما أوتيت من مرونة، ومن ثراء يُضرب به المثل». إن جميع القرائن تؤكد على أن النهوض بلغتنا العربية في هذا العصر الذي عرفت فيه بعض التراجع هو أمر ممكن، و«انتشار اللغة العربية ليست مهمة صعبة إذا توافر لانتشارها الجهد اللازم، واللائق خاصة أن هناك العديد من الدول الإسلامية من الدول غير الناطقة بالعربية في كل من إفريقيا وآسيا إضافة إلى دول الاتحاد السوفييتي السابقة، والمناطق الإسلامية في الصين وتركيا ودول البلقان المسلمة مثل البوسنة وألبانيا وكوسوفو، والعديد من دول أوروبا وأمريكا حيث تنتشر الجاليات الإسلامية، فسوف يُقبل كل هؤلاء على تعلم اللغة العربية كونها لغة القرآن الكريم، والدين الإسلامي الذي يحرصون على الالتزام به، ويفضلون أن يعرفوه عن اللغة الأصلية، بالإضافة إلى رغبتهم في فهم القرآن الكريم، والسيرة، والحديث النبوي، وكل ما يتعلق بالفقه الإسلامي. وهذا الرابط الأساسي بين الدين الإسلامي، واللغة العربية يجعل من نشرها في العالم أمراً ميسراً، ويؤسس كياناً لغوياً تتبعه مصالح اقتصادية، وقوة سياسية تتحول بها الدول العربية إلى كيان عالمي يأخذ مكانته بين الأمم، والتكتلات الكبرى في العالم اليوم».
إن المسألة اللغوية تتبوأ أرفع المنازل، وأخطرها بين سائر المؤسسات البشرية، وقد ارتبطت اللغة دائماً بالمقدس، وتبدو اللغة العربية ذات وضعية استثنائية من حيث البقاء، والديمومة، وتواصل استعمالها على نحو تصاعدي، ففي كل مرة يتضاعف عدد المقبلين على تعلم اللغة العربية، وهذا الأمر في حد ذاته يتطلب إنجاز دراسة مستقلة، تكشف النقاب عن الأسباب الخفية من منظور علمي وصفي، وليس انطلاقاً من خلفية معيارية قائمة على الانتصار للسان العربي، فلقد تضافرت في هذه اللغة المقدسة عدة أوضاع إبستمولوجية أكسبتها خصوصية بين الألسنة البشرية، ويُمكن حصر ملامح هذه الخصوصية في ثلاثة معطيات تكتسي أهمية بالغة، فالأمر الأول له صلة بوضع اللغة العربية داخل المشهد اللغوي الكوني،في حين أن الثاني تاريخي دياكروني، ويتعلق باستثنائية اللغة العربية من حيث تعميرها بين غيرها من اللغات، حيث يقدر الدارسون عدد اللغات في عالم اليوم بين:5000 و6000 لغة، وتشير بعض الإحصاءات المقدمة من قبل المنظمات الدولية إلى أن لغة تموت، وينقرض استعمالها كلّ حوالي14 يوماً،أي أن25 لغة تندثر كل سنة، وينبه بعض العلماء إلى أن حوالي 600 لغة أخذت طريقها التدريجي نحو الاندثار، مما يؤدي إلى انقراض حوالي نصف اللغات المتداولة اليوم.
ويُقارن المستشرق المجري عبد الكريم جرمانوس بين العربية واللاتينية من حيث الحياة، والفاعلية، فيقول: «إنَّ في الإسلامِ سندًا هامًّا للغة العربية أبقى على روعتِها وخلودها، فلم تنل منها الأجيال المتعاقبة، على نقيضِ ما حدث للغاتِ القديمة المماثلة كاللاتينية؛ حيث انزوت تمامًا بين جدرانِ المعابد.. فالألماني المعاصر مثلاً لا يستطيع أن يفهمَ كلمةً واحدةً من اللهجةِ التي كان يتحدث بها أجدادُه منذ ألف سنة، بينما العربُ المحدثون يستطيعون فهمَ آداب لغتِهم التي كتبت في الجاهليةِ قبل الإسلام».
كما يُصرح هنتنجتون في كتابه: «صراع الحضارات» بأن القول بعالمية اللغة الإنجليزية ما هو إلا وهم كبير.. وتابع يقول: إن اللغة الغريبة على 92% من البشر في العالم لا يمكن أن تكون عالمية، بينما ارتفعت نسبة المتحدثين باللغة العربية ارتفاعًا مطردا، فقد وضع هنتنغتون اللغة العربية في رأس جدول يبين نسبة المتكلمين باللغات الرئيسة في العالم، حيث كان عدد المتكلمين بها في ارتفاع مطرد، ففي عام 1958م كانت النسبة 2،7%، وفي عام 1970م ارتفعت النسبة إلى 2،9%، وفي عام 1980م ارتفعت النسبة إلى 3،3%، وفي عام 1992م 3،5%، وهي نسب تتحدث عن نفسها بشكل واضح، وفي المقابل: يبدو الانخفاض واضحًا في نسبة المتكلمين بالإنجليزية في السنوات نفسها، فقد بلغت سنة 1958م9،8%، وفي سنة 1970م انخفضت إلى 9،1%، كما انخفضت عام 1980م إلى 7،7%، وأخيرًا فقد انحدرت عام 1992م إلى 7،6%، وعلى الرغم من قدم هذه الإحصاءات نسبيًّا، إلا أنها ذات دلالات واضحة، وإشارات إيجابية، ومبشرة، فها هو أرنست رينان المفكر الفرنسي المعروف بحقده، وكراهيته، والذي لم يكن من أنصار الفكر العربي الإسلامي يومًا ما، يرى أن من أغرب ما وقع في تاريخ البشر، وصعب حل سره.. انتشار اللغة العربية، حيث بدأت فجأة في غاية الكمال، سلسة أي سلاسة، غنية أي غنىً، كاملة لم يدخل عليها أي تعديل مهم، فليس لها طفولة، ولا شيخوخة، ظهرت في أول أمرها تامة، مستحكمة، ولم يمض على فتح الأندلس أكثر من خمسين سنة، حتى اضطر رجال الكنيسة أن يترجموا صلواتهم للعربية، ليفهمها النصارى، وإذا ما قارنا بين اللغة العربية، واللغات الأخرى، سنجد أن الأبحاث العلمية تؤكد تفوق اللغة العربية، وتغلغلها في كل اللغات العالمية. وينبه الباحث عبد المجيد شوقي البكري في دراسة موسومة ب: (أم اللغات وعلم الاشتقاق والمقابلات)إلى أنه قام بإجراء مقابلات واضحة مدة ما يزيد عن عشرين سنة، وقد وفق إلى وجود 1650 كلمة قرآنية في 22 لغة من لغات العالم الحية. والحقيقة التي لا يُمكن إنكارها أن اللغة العربية أفادت من الظروف، والتطورات الحديثة، والمعاصرة، فغدت مكتسبة لكثير من المرونة، والاتساع، والجمال، ولو أننا تأملنا الصحف العربية الصادرة في أوائل القرن العشرين، والصحف الصادرة اليوم لتعجبنا من غرابة الأسلوب في الصحف التليدة، ومن مرونة اللغة المعاصرة، وقدرتها الفائقة على التعبير عن الأحداث، والمشاعر، والأفكار المختلفة، فاللغة العربية تتصف بالمرونة، وبالرسوخ اللغوي، والعلمي، والتاريخي، وهذا ما يؤهلها للبقاء، وعدم الانقراض فيما هو آت، فالمرونة اللغوية هي التي أكسبتها مواكبة علوم العصر، وتطوير الدراسات اللغوية التطبيقية، وغيرها بها، واستيعابها ما يتجدد، ويستحدث من مصطلحات، ومعارف بحسب حاجة النشاط البشري المستخدم بها. ولم تعجز اللغة العربية عن العلوم الحديثة، إذ وضعت بالعربية معاجم كثيرة علمية دقيقة للعلوم الحديثة، نذكر من بينها:
-قاموس طبي عربي للدكتور محمود رشدي البقلي، صدر في باريس سنة: 1869م.
-معجم علمي يشتمل على أربعين ألف مصطلح طبي، من إنجاز الدكتور محمد شرف الطبي سنة: 1926م.
-المعجم العربي في العلوم الطبية، والطبيعية للدكتور محمد شرف، صدر سنة: 1929م.
-معجم الفيزياء للدكتور جميل الخاني، ملحق بكتاب: القطوف الينيعة في علم الطبيعة، صدر سنة:1931م.
-معجم الألفاظ والمصطلحات الفنية في فن الجراثيم ، للدكتور أحمد حمدي الخياط، صدر بدمشق سنة: 1934م.
-معجم في أمراض الجملة العصبية، للدكتور حسني سبح، صدر بدمشق، سنة: 1936م.
– معجم في أمراض جهاز التنفس، للدكتور حسني سبح، صدر سنة:1937م.
-معجم الألفاظ الزراعية للأمير مصطفى الشهابي، صدر سنة:1934م.
ناهيك عما وضعته عدة مجامع لغوية عربية، فاللغة العربية هي أكثر اللغات اتساعاً، وما زالت في اتساع إلى اليوم، لأن مطالب الحياة تضطرنا إلى اشتقاق ألفاظ جديدة، ونحت أخرى من ثوب العربية الفضفاض، فاللغة العربية حفظت التراث الإنساني من الاندثار، وقادت العالم حضارياً، وأدبياً، وعلمياً، وفلسفياً طوال تسعة قرون، ولذلك فأهمية، وقدرة اللغة العربية على استيعاب المختصرات، والمصطلحات العلمية لا يُمكن إنكارها بالنظر إلى ما هو موجود في تراثنا التليد من ترميز، واختصار يُمكن الإفادة منه، والاقتداء به، وهناك إمكانيات هائلة في اللغة العربية تُساهم في نقل المصطلحات، وتوليدها تمنحها طاقة واسعة، ونفساً رحباً لاقتحام مختلف ميادين، ومجالات التقنيات الحديثة.
للموضوع مصادر
* كلية الآداب، جامعة عـنّـابـة، الجزائر