ليتفكروا

عوائق النهضة: غياب الوعي المنهجي

د. بدران بن الحسن */

في فصل من كتابه (شروط النهضة) يحمل عنوان «مِنَ التَّكْدِيسِ إِلَى الْبِنَاء» لاحظ مالك بن نبي مشكلة تمثل عائقا يعيق جهود الإصلاح والسعي لتحقيق نهضة حضارية لأمتنا، وتسبب في ضياع ميزانيات كبيرة من الوقت والإمكانات والجهود. هذا العائق يمكن أن نطلق عليه «غياب الوعي المنهجي».
فبالرغم من اعتباره أن هناك جهودا موفقة من أجل النهضة قد بذلت طيلة العقود الماضية، فإن هناك خطرا يتهددها، وهو أن أغلب الجهود يغيب عنها الوعي بالمنهج، وتفتقد المنهج في السعي لتحقيق أهدافها؛ سواء في ذلك الجهود العملية أو المعالجات النظرية. يقول مالك بن نبي: «من الممكن أن نفحص الآن سجلات هذه الحقبة، ففيها كثير من الوثائق والدراسات، ومقالات الصحف، والمؤتمرات التي تتصل بموضوع النهضة. هذه الدراسات تعالج الاستعمار والجهل هنا، والفقر والبؤس هناك، وانعدام التنظيم، واختلال الاقتصاد أو السياسة في مناسبة أخرى ولكن ليس فيها تحليل منهجي للمرض، أعني دراسة مرضية للمجتمع الإسلامي، بحيث لا تدع مجالاً للظن حول المرض الذي يتألم منه منذ قرون» (شروط النهضة، ص40).
إن ما ذكره مالك بن نبي منذ سبعين سنة، مثّل ولا يزال أحد العوائق الكبرى لجهود نهضتنا الحضارية. فلا تزال العشوائية في العمل هي التي تحكم كثيرا من أفكارنا ومشاريعنا. وما زلنا لا نخضع فعلا أفكارنا وأعمالنا لصرامة المنهج حتى نتفادى التيه والانتكاس، ومازال الكثير منا يخلط خلطا كبيرا بين صدق النية وبين صواب الأداء. فبالرغم من وجود النية الصادقة لتحقيق النهضة من قبل كثير من أبناء أمتنا، فإن النية الصادقة لوحدها غير كافية، وليست هي الشرط الوحيد.
إن ما نشهده من صحوة عامة ومن اهتمام أبناء الأمة وبناتها بقضايا النهضة الحضارية والسعي للخروج من التخلف والهامشية، لأمر محمود، ومشهود. ولكن الناظر في محصلة تلك الصحوة وذلك السعي، يجده أقل بكثير من الجهود المبذولة نظريا وعمليا. لأن هناك قانونا مهما يغيب عن أعمالنا، وهو قانون «إعمال المنهج» بصرامة، والسعي البصير وفق قواعد واضحة وسنن محكمة لتنفيذ سعينا لتحقيق نهضة حضارية لأمتنا.
وقد نبه مالك بن نبي أيضا لهذه المشكلة في كتابه (وجهة العالم الإسلامي) عندما لاحظ أن النهضة انطلقت «ولكن دون توجيه منهجي، فتحررت قوى كانت من قبل خامدة، بيد أنها لم تتخذ مجالاً أو تتسلم دوراً، لقد ثار العالم الإسلامي الحديث، لكن ثورته كانت في ظرف مغلق؛ في قنينة دعِيّ في الكيمياء، لا يدري قانوناً لتفاعل المادة في عمليته (وجهة العالم الإسلامي، ص 85).
ولعل الوضع المتعلق بغياب الوعي المنهجي نجد آثاره في خطابنا الديني، وفي نشاطنا وفكرنا السياسي، وفي مجالات الاقتصاد والثقافة، وهي أمر في مجال التربية والتعليم، وفي غيرها من أوجه النشاط المختلفة في مجتمعاتنا، التي من المفترض أنها تسعى لتحقيق نهضة حضارية. ولهذا مازال النقد الذي وجهه بن نبي صحيحا في كثير من أحوالنا الفردية والجماعية، والشعبية والرسمية، حيث يرى بن نبي أن المسلمين اليوم «في هذا الميدان أو في غيره من الميادين لم ينقبوا عن وسائل لنهضتهم، بل اكتفوا بحاجات قلدوا فيها غيرهم، وأشكال جوفاء إلا من الهواء، بينما ليست حاجتنا أن نجمع العناصر لنكوّن منها تلفيقاً، وإنما أن نوجد بواسطة منهج يقوم على التحليل، العناصر الأساسية التي تسهم في خلق (تركيب) حضاري» (وجهة العالم الإسلامي، ص 97).
فهذا العمل العشوائي في شتى الميادين، وهذا التقليد للمنتج الوافد علينا مع موجات الحداثة وما بعد الحداثة، وما بعدهما، أصابنا بالتيه والاضطراب، وجعلنا نعيش ردود أفعال سلبا أو إيجابا، وأفقدنا ذاتنا، لأننا لم ننطلق في معالجة مشكلاتنا من منطلق منهجي، ولم نبن مؤسساتنا وسياساتنا ومشاريعنا على معرفة واسعة بسنن التغيير الاجتماعي. وهو العنصر المفتقد في كثير من محاولاتنا النهضوية، بحيث نجهل حتى خصوصيات المرحلة التاريخية التي تمر بها أمتنا. لذا تجد البعض منّا يلجأ إلى الماضي البعيد لاستعارة حلول جاهزة، أوجدها أصحابها لمواجهة تحدياتهم الخاصة المختلفة زمانيا عنّا، وتجد البعض الآخر يلجأ إلى الضفة المجاورة لاستيراد حلول جاهزة أيضا، أوجدها أصحابها لمواجهة تحديات خاصة بمرحلتهم التاريخية المختلفة عنّا.
وإن غياب الوعي المنهجي، الذي ينطلق من تشخيص دقيق لأي حالة من الحالات التي نوجهها في سعينا لتحقيق النهضة، وعدم سلوك طريق العلم بمختلف فروعه في معالجتها، وتغليب العاطفة الجياشة، والمزاجية، والذاتية، والعشوائية، و«الاستئنافية» التي تعزل الجهود عن سياقاتها وظروفها وطبائع العمران والاجتماع، يمثل عائقا كبيرا لنجاح جهود أمتنا، ويستنزف طاقاتها، ويصيب كثيرا من أبنائها باليأس لتكرر فشل التجارب، حتى يصل الأمر بالناس إلى اعتقاد أن لا طريق للخروج من التخلف وتحقيق ما نصبو إليه، ويؤدي ذلك إلى نوع من فقدان المعنى، والعبثية في أداء الأعمال، وحتى الشك في الذات وفي مرجعيتنا الإسلامية، وفي قدرة أمتنا على النهوض مرة أخرى.
ولهذا على الأجيال الجديدة من أمتنا أن لا تركن إلى العمل العشوائي، وتتحجج بصدقها وإخلاصها، بينما تتجاهل أن من البناء المنهجي للفكر والعمل مقدمة ضرورية لنجاح سعينا في تحقيق النهضة. و«الخطأ المنهجي خير من الصواب الفوضوي» كما يقول مالك بن نبي.
مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية/ جامعة قطر

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com