الحـــق الـمر

العالم الجزائري

يكتبه د. محمّد قماري/

يوم الجمعة الماضي، تلقيت دعوة كريمة لحضور حفل تتويج مرشحين لنيل وسام (العالم الجزائري)، وتعمدت الجهة المنظمة أن تطبع على شارات دخول المدعوين عبارة «نعم، للجزائر علماؤها…»، وهي عبارة لافتة للنظر، ونعم في اللّغة العربية إما أن تكون حرف إعلام أو حرف جواب، فإن كانت الأولى فهي جواب لسؤال استفهامي، وإن لم يظهر السؤال مكتوبا قبل جوابه، فهو مضمر في السياق، وقد يكون ذلك السؤال على شاكلة أفي الجزائر علماء؟ وقد تأتي (نعم) حرف توكيد بسبب وقوعها في أول الكلام….
وأيَا ما كان مقصد الجهد المنظمة من إثبات تلك العبارة، سواء أجاءت رد إعلام عن سؤال مشككين أم جاءت توكيدا لمعنى أريد له التغييب، فالعبارة موفقة، ذلك أن المشككين والمرجفين موجودون بيننا، ويعملون في السر والعلانية من أجل غرس مركبات الدونية واحتقار الذات، ويصدحون بالعدميّة، فالجزائر لا شيء فيها يبهج أو يرضي، ومن أراد من أبنائها أن يكون له ذكر فليشرق أو يغرب…
وللأسف أن هذه الظاهرة ليست جديدة، فلقد وجدنا أثرا من هذا المعنى في بعض كتابات علماء جزائريين في القديم، فهناك ضيق ونفور قد يصل درجة الحساسيّة من وجود رؤوس و(أبطال) في المجتمع، وتنسحب الظاهرة على كل ضروب النشاطات العلميّة والثقافيّة والسياسيّة والإعلامية، وهي ظاهرة لها أسبابها العديدة، غير أن السعي في سبيل علاجها والحد منها ضرورة حضارية وأخلاقية وقومية.
والمبادرة يقوم عليها منذ سنوات معهد المناهج مع مؤسسة وسام العالم الجزائري، وهو يهدف من ورائها بعثها (رسما للقدوات الخيّرة، وبعثا للفعل في عروق الأمة… فترصّعت ذاكرة هذه التظاهرة بأعلام أفذاذ تم اختيارهم حسب معايير علمية وأخلاقية دقيقة)، كما جاء في كلمة التقديم المثبتة على موقع المعهد على الشابكة (الانترنت).
وذهب الوسام في هذه الدورة إلى (والد وما ولد)، أما الوالد فهو الدكتور نصر الدين سعيدوني، وأما الولد فهو نجله الدكتور معاوية سعيدوني، وأعتقد أن هذا الاختيار قد حالفه التوفيق على أكثر من مستوى، فالدكتور سعيدوني يعتبر ثاني اثنين من علماء تاريخ الجزائر بعد الدكتور ابو القاسم سعد الله، صفة تتأكد لكل من يطلع على جهود الرجل في التنقيب وتمحيص الوثائق التاريخية لاسيما تلك المتعلقة بالتاريخ العثماني في الجزائر.
وضمن منظور تلك المدرسة في مقاربة التاريخ (مدرسة سعد الله ــــــ سعيدوني)، يطالعنا المنهاج الموضوعي، إذ تركن كتابة التاريخ وتقصي حقائقه على أساس الوثيقة والمقابلة، والابتعاد عن الذاتيّة والحزبية والطائفية، كما تنأى عن مسالك التفسير بأثر رجعي لحوادث الزمان، بمعنى اتخاذ التاريخ مطية لإقرار واقع ماثل أو تحقيق أغراض سياسية آنية، مع القدرة على تجاوز مدارس الاستشراق في تدوين تاريخنا، وما حملته من سموم بعضها قاتل.
لقد نال الأستاذ سعد الله، رحمه الله، وسام العالم الجزائري قبل سنوات، وما توشيح الأستاذ سعيدوني به في هذه الدورة إلا تأكيد على ذلك الرابط الروحي والفكري والأخلاقي بين الشخصيتين، لقد كان سعد الله يردد في حياته ما أوصاه به والده: (احذر أن تكون طالبا أو مطلوبا)، بمعنى أن تترفع على الركض وراء ما في يد صاحب السلطة، كما تتجنب منازعة أهل السلطة سلطتهم…
وهذه الوصية التي تلقاها سعد الله من والده، تصلح أن تكون ميثاق شرف الإنسان العالم، وتتأكد عندما يكون العالم مؤرخا، فالسلطة (أي سلطة)، تحب أن تستحوذ على الماضي والحاضر والمستقبل إن استطاعت إلى ذلك سبيلا، ومن شأن أهل العلم أن يحفظوا استقلاليتهم الأخلاقية، ونحسب أنها تجسدت في الشخصيتين (سعد الله وسعيدوني)، فالعالم ليس مناضلا حزبيا منحازا مع السلطة أو خصما لها، وهو على دوام نصير للحقيقة التي تنصف القريب والبعيد، وإن اغضبت السفهاء والعبيد !
وبعد، فإن تكريم (الوالد وما ولد) في يوم الجمعة الماضي، له دلالة أخرى على مستوى إعادة (صلة الرحم) العلمية، فلقد فقدنا منذ زمن بعيد تلك الصلة، فإذا كان العالم ملكا للأمة على مستوى الإطلاق، فهو من باب الوشائج البيولوجية والاجتماعية سليل أسرة، هي أولى بإحياء ذكراه وتجديد أثره، وللأسر العلمية أثرها الواضح في تراكم المعرفة، وتجويد النسق المعرفي والعلمي.
وما أحوجنا في هذا العصر إلى تكريس ذلك الخط، خط صلة الرحم العلمية، وأن تزدهر في بيوتنا من جديد حدائق المعرفة والعلم والبحث، ويأخذ الأحفاد علم الأجداد، كما كانت في حضارتنا الاسلامية وفي كل الحضارات التي سلكت سبل الرقي.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com