عين البصائر

صناعة التفاهة…واستراتيجيات الإلهاء

أ. لخضر لقدي/

كانت التفاهات مزحة تستعملها الشعوب الجادة بِقَدَرٍ للترويح عن النفس بعد طول العناء، غير أنها تحولت عندنا إلى صناعة دائمة ترعاها المؤسسات ويمارسها المتنفذون لبث السموم ونشر السيء من الأفكار والخاطئ من المفاهيم وتلميع التافهين من الناس، مستخدمين قنوات العار ووسائل التواصل الاجتماعي كقنوات اليوتيوب وصفحات الفايسبوك مصورة ومسموعة ثم منشورة ومروجة، وأخطر ما في هذه الوسائل أنها تدخل البيوت دون استئذان، وتسرق عقول الأبناء رغم أنوف الآباء.
إن المتتبع لحياة الدول المتقدمة يدرك أن تلك الشعوب تعطي للجد حقه وللترفيه مكانه دون إفراط، وتعتبر التعليم والقراءة والمطالعة كالماء والهواء، فمنظمة اليونيسكو ذكرت في تقريرها للتنمية أن الشعوب الأوربية هي الأكثر قراءة حيث يقرأ الأوروبي خمسة وثلاثين كتابا في العام بينما يقرأ العربي كتابا واحدا في نفس المدة مع أننا أمة ينتمي إليها العقاد الذي يقول عن القراءة: إنها تطيل العمر، وينتمي إليها الجاحظ الذي يقول: يذهب الحكيم وتبقى كتبه ويذهب العقل ويبقى أثره.
ويشير تقرير حديث لليونسكو إلى أن الطفل البريطاني يقرأ سبعة كتب، والأمريكي أحد عشر كتابا خارج كتب المناهج الدراسية بينما تقتصر قراءة الأطفال في العالم العربي على كتب المنهاج الدراسي.
وفي بلادنا تشترك فئتان في صناعة التفاهات ونشرها:
أولا – المتتبعون والمستهلكون الذين يميلون إلى الحس السطحي والفضائحي يتابعونه ويتغذون منه وهم في حالة تيه وغياب وعي لا يفرقون بين جيد وسيء.
ثانيا- الدوائر التي تقف وراء صناعة التفاهة والترويج لها والتي لها شبكات متداخلة ومصالح مشتركة، وغرضها الأساسي إفساد المجتمع والسيطرة على الحكم والمال.
إن المتابع لحالنا ليرى سيطرة التفاهة على حياتنا فقد دخلت بيوتنا دون استئذان، وفرضت نفسها على واقعنا وعلى أبنائنا عنوة وتأثرنا بها، فأصبح الأقزام نجوما والتافهون أهل شهرة.
وعندما حل ببلادنا أحد أكبر علماء العالم وصاحب أكثر من ألف وخمسمائة براءة اختراع لم يلق منا الاستقبال والترحيب المناسبين، بينما حضر في المطار المئات من المعجبين والمعجبات باليوتيوب وأغرقوها بالغالي والثمين من الهدايا والذهب، وشتان ما بين ما قدم هذا وما تقدم تلك.
إن من يصنع هذه التفاهات ويروج لها الآن سيدفع إلى تدهور أخلاق المجتمع مستقبلا ويتجه بالمجتمع نحو مستنقع الجهل وهدم الحضارة وتقويض العلم والثقافة والأخلاق وتقزيم دور العمل وشغل أوقات الناس بالتافه.
ويحكى والعهدة على الراوي أن الكاتب الراحل توفيق الحكيم عندما سئل عن شكوكو قال إنه لا يعرفه، ولما بلغ ذلك شكوكو قال في تحد أنه لو وقف في ميدان عام ومعه توفيق الحكيم فسترون من يتجمع الناس حوله أكثر، وحينها رد عليه توفيق الحكيم وطلب منه أن يأتي براقصة وتقف على الجانب الآخر وسيرى الناس من يجتمع الناس حوله أكثر. وهذا هو ميزان عامة الناس.
ويحكى أيضا أن عالما كان يقدم برنامجا متميزا يسمى «عالم البحار» وقف أمام شباكِ الخزينةِ في الطابور الطويل ليتقاضى راتبه عن حلقات البرنامج، وبعد طول انتظار وإرهاق دخلت راقصة متجهة إلى الشباك مباشرة دونما اعتبار للواقفين.
ولما رحَّب بها الصراف ناولها مائتين وخمسين جنيها، فاعترضت رافعة صوتها: أنا أرقص ربع ساعة بالملاليم دي؟!». ولما طال اعتراضها واغتاظ كل الواقفين، قطع الدكتور صاحب البرنامج الصمت قائلا لها بلهجة مهذبة: أنا يا أستاذة أحضر من الإسكندرية، وأجهز للحلقة قبلها بأيام وأكتبُ ومراجع ومدة الحلقة نصف ساعة، ويعطونني خمسة وعشرين جنيها.
وهنا نظرت إليه الراقصة وقالت له بلهجة حادة: «طيب وأنا مالي ما تروح ترقص يا أستاذ!»..وهذا هو ميزان الحكام عندنا للثقافة والسخافة.
ولك أن تنظر إلى راتب البروفيسور ورتبته في بلادنا وما يتقاضاه مسؤول فاشل أو سياسي تافه لتعرف مقدار التفاهات التي نصنعها والمرارات التي نتجرعها .

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com