«شـــاب نشـــأ فــي عبــادة الله»… نعـم، لكــن مـن هــو؟
عبد العزيز كحيل/
ضمن الأصناف السبعة الموعودة بظل الله يوم لا ظل إلا ظله رتبه الرسول صلى الله عليه وسلم في المنزلة الثانية بعد الإمام العادل، لأن دنيا الناس – ودنيا المسلمين بصفة خاصة – لا تستقيم إلا بإقامة العدل وبتواجد العنصر الشاب الطاهر الإيجابي.
لكنْ هناك غبش كبير يعتري مفهوم «شاب نشأ في عبادة الله»، فبحسب الفقه الميت هو شاب ملازم للمسجد، يرتدي ثيابا يُعرف بها، له شكل معيّن، في الغالب لا يضحك، لا يخالط، لا علاقة له بـ«أوساخ الدنيا»، همّه العبادة وليس الدراسة أو العمل، لا تكاد معارفه تتجاوز حفظ أحاديث نبوية، ويكاد كلامه ينحصر في السنّة…هذا الصنف قصر مفهوم العبادة على الطاعات الظاهرية وفي أحسن الأحوال على العمل الأخروي، أما بحسب الفقه الحي المبني على النظرة الشمولية المتكاملة للإسلام فهو في عبادة الله بأتم معنى العبادة، لا يقصرها على جانب العبادات الراتبة المعروفة بل يجعل من شؤون الحياة كلها عبادة لله، ينال الثواب ويؤثر في الواقع، فهو يحسن أمور الدين وأمور الدنيا، محافظ على الصلاة والقرآن والذكر والنهل من العلوم الدينية، بعيد عن الكبائر والموبقات، في نفس الوقت هو متفوّق في دراسته، يعتبرها عبادة، لا يفرق بين محراب الصلاة ومحراب العلم، طموح، يحمل همّ الإسلام وهمّ المجتمع، يخالط الناس، يشارك في تنظيف الحي والمسجد والتشجير ونحو ذلك، يهتمّ بشؤون السياسة والنقابة والعمل الخيري، عينُه الأولى على الآخرة والأخرى على الدنيا، بعيد عن الحرام بكل أنواعه وأشكاله، لكنه يستمتع بالحلال، فيرتدي أحسن الثياب من غير مخيلة ولا سرف، يحب السيارات الفارهة من غير تفاخر ولا تباهٍ، يسعى إلى تحصيل سكن واسع عصري آخر طراز، يمارس الرياضة الفردية والجماعية (ولا يكتفي بالتفرج على من يلعبون ولا بالهتاف الجنوني)، عنده هوايات، يحسن السباحة، يتزوّح المؤمنة الحسناء التي يريدها…ليس كسولا ولا سلبيا ولا منسحبا ولا عالة على غيره، راهب بالليل فارس بالنهار قدر إمكاناته، أي يؤدي حقوق الله وحقوق الناس سواء كانت عينية أو كفائية.
والفتاة مثل الفتى…ملتزمة بالحجاب الشرعي، عابدة لله، عفيفة متخلقة، تبتغي حسنة الدنيا وحسنة اللآخرة.
إنه الشاب الذي يطبّق: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}[سورة القصص: 77]. عندما يراه الناس يحبونه ويحبون الدين الذي يمثله…وليس العكس.
إني لا أقول هذا استسلاما لموجة الحداثة والعصرانية العاتية الطاغية، لا، أبدا، لكن لاقتناعي الكامل بأن هذا هو التصور الإسلامي الأصيل الذي يعرفه كل من قرأ القرآن والسنة قراءة متكاملة غير تبعيضية، واحتكم إلى نصوص الشريعة ومقاصدها، وعاش واقع الحياة ولم ينسحب منه إلى الصور التاريخية وحدها.. التصور الإسلامي الذي يحوّل كل كلمة وحركة إلى عبادة متى توفر فيها الصدق والإخلاص والرغبة في الحصول على الأجر وخدمة الناس باعتبار ذلك من أحسن القربات كما دلت النصوص الثابتة الصريحة، فلا
دروشة ولا رهبانية بل اعتدال ووسطية من أول طريق الالتزام إلى آخره، وإن لم يكن هذا الدين قوة وعزة وتفوقا ورقيا وجمالا وامتلاكا لناصية التمكين وتمتعا بطيبات الحياة الدنيا فلا كان ولا كنا:
– { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}[سورة الأعراف:32].
– {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [سورة المنافقون: 8].
أقول هذا لأن هناك من يتصور هذا الدين تماوتا وذلا ومسكنة وحرمانا، ولا شك أن هذا أساء فهم الدين وأساء الظن برب العالمين الذي كرر في القرآن قوله «خلق لكم» – «سخر لكم» ، أي وضع تحت تصرفكم:{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} [سورة البقرة: 29].
إن هذا التصور لا تخطئه عين من تقلب بين أعطاف الفقه الصحيح للقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، هناك يجد صورة المسلم الملتزم المعاصر الذي أحسن الجمع بين الأصل والانفتاح على العصر، وقدم النموذج الحي للشاب المسلم الفعال القوي الذي يعمل لآخرته وهو يدرس ويصنع ويبحث ويعلّم ويغدو ويروح، ويدفع الأمة نحو الرقي الروحي والمادي ويسدي النفع إلى البشرية ما وجد إلى ذلك سبيلا، أي يصنع الحياة بهدي القرآن والسنة فينطبق عليه قول الله تعالى {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}[سورة النحل: 97]… لاحظوا كيف ذكرت الآية الحياة الطيبة في الدنيا ثم الجزاء الأوفى يوم القيامة، فالحياة الطيبة المستقيمة في الدنيا نعمة كبرى خلافا لما تشيعه ثقافة الانسحاب والغلوّ في معنى الزهد وأدبيات التصوّف العجمي، ومعلوم أن الحياة المذمومة في القرآن والسنة ليست الحياة المنعمة الفسيحة بل هي المنقطعة عن الله المستغرقة في الماديات والشهوات والحرام، قال تعالى {إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [سورة يونس: 7/8].
لا يجوز التضييق على الشاب الناشئ في عبادة الله، ففي المعنى الحقيقي للعبادة والتدين فسحة كبرى، والخطأ فيما يشيعه الظاهريون الجدد من التزام بالمظاهر والأشكال دون التفاتة إلى البُعد الحضاري للإسلام …هذا هو الفقه الصحيح الذي يصنع الحياة ويحبب الناس في الالتزام الواعي المتوازن..