متــى نترك حظوظ النفس والضغينة واللجــاج ؟…(*)
يكتبه: حسن خليفة/
أحببتُ أن تكون سطور هذا الأسبوع ؛مما له صلة بما يجب علينا نحو ديننا وقيّمنا وأخوّتنا، ثم ما تستوجبه ضوابط العضوية والتعاطف في هذه الجمعية الميمونة التي يجب أن تجتمع فيها القلوب وتتآخي فيها العقول ،وتُرعى فيها الأخلاق والمُثُل، خاصة ونحن نلحظ، ضمن ما نلحظ، بعض الفتور، وبعض الشنآن والبغضاء، وبعض الأحقاد والمسالك المرذولة في علائقنا هنا أو هناك، مما يمسُّ الأخوة في الصميم، ومما يمسّ الإيمان والعقائد والأخلاق المطلوبة من كل صاحب رسالة ودعوة، ومما له تأثيره ـ الضارّ الأكيد ـ على مجمل الأعمال والجهود، سواء فيما يتعلق بالأداء، أو الثمرات المطلوبات من العمل لله تعالى بصدق وإخلاص وخُلق، فتكون النتيجة عكسية من النجاح إلى الفشل ومن الصواب إلى الخطأ والخطل، ذلك أن للقلوب دورا في ثمرات الجهود ونتائج الأعمال، فكلما صفت القلوب كان العمل أطهر وأوفى وأفضل وأثمر، والعكس من ذلك إن «عميت القلوب التي في الصدور» وصدأ إيمانها وقلّ منسوب اليقين والتقوى فيها.
أحببت أن أذكّر بشأن من شؤون هذه الجمعية الكريمة في سلوك رجالها ومؤسسيها الماهدين، وفي عناقيد الإيمان والأمان والحب في الله تعالى التي كانت مثالا رائعا للسموّ والرقي النفسي والعاطفي والعقلي بين أبناء هذه الجمعية ومحبيها والمتعاطفين معها.
وهاهنا، من ذلك، تـذكير يسير، والكلام فيه كثير رائع متنوع للإبراهيمي وغيره من أفذاذ الجمعية الأوُّل، بما كان عليه روّادها وصُنّاع الخير والفضل فيها، من الرعيل الأول المكين، في علاقتهم ببعضهم وسرّ تلك العلاقة المتينة الرائعة.
يتحدث الشيخ البشير الإبراهيمي -عليه شآبيب الرحمة – سنة 1946 في مقال نشرته “البصائر” عن أخيه ورفيق جهاده العلمي والثقافي الأستاذ الشيخ عبد الحميد بن باديس، وعن العلاقة بين أعضاء الجمعية فيقول، في مقال عنوانه: “الرجال أعمال – عبد الحميد بن باديس إمام النهضة العلمية في الشمال الإفريقي” ..ويتحدث بصورة أساسية عن الأخوة والمحبة ومتانة العلائق بين أفراد الجمعية حينها، فيقول .. «ومن غرائب هذه الجماعة* التي كان ابن باديس شارة شرفها وطغرى عزها أن الشيطان لم يجد منفذا يدخل منه إلى أُخوّتهم فيفسدها، وإلى علائقهم فيفصهما، أو إلى محبتهم بعضهم لبعض فينفث فيها الدخل، فعاشوا ما عاشوا متآخين كأمتن ما يكون التآخي، متحابّين كأقوى ما تكون المحبة، ولقد كانوا مشتركين في أعمال عظيمة، معرَّضين لعواقب وخيمة، ومن شأن ما يكون كذلك أن تختلف فيه وجوه الرأي وتتشعب مسالكه، فيكثر فيها اللجاج المفضي إلى الضغينة، والانتصار للرأي المفضي إلى الخلاف، خصوصا إذا اشتجرت الآراء في مزلقة الاستعمار التي يرصدها لنا، فو الذي روحي بيده ما كنا نجتمع في المواقف الخطيرة إلا كنفس واحدة، وما كنّا نفترق -وإن اختلف الرأي – إلا كنفس واحدة، وإني لا أجد لفظا يؤدي هذه الحالة فينا، إلا لفظة “إخوان الصفا”، فلقد -والله – كنا إخواناصفاء، ومازلنا إخوان صفاء، وسنبقى إخوان صفاء حتى نجتمع عند الله راضين مرضيين إن شاء الله تعالى».
وقد تسأل عن السبب فيجيب الشيخ العلامة الإبراهيمي بوضوح وثقة:
«اجتماعنا كان لله ولنصر دين الله ولتأدية حق الله في عباده، دأبنا على التعاون على الخير، والاستباق إلى الخير، فلا مجال للمنافسة وحظ النفس. وأمّا الثمرة فهي هذا النجاح الباهر الذي نلقاه في كل أعمالنا للأمة، في تطهير العقول، وفي تصحيح العقائد، وفي استجابة داعي القرآن، وفي تمكين سلطان السنّة، وفي صدق التوجه إلى العلم، وفي تشييد المدارس، وفي كثرة الإقبال عليها والبذل لها، وفي كل معالجة بيننا وبين الأمة».
حسبُ أولئك الرجال من المجد ما حققوه لهذا الدين ولهذا الوطن في زمن مدلهمّ بالظلمات والظلم والقهر والعسف والاستيطان البغيض، وحسبهم من الرفعة أن يكونوا على هذا النحو من المودّة والمحبة والقربى، والعمل كرجل واحد لنصرة ما يجب أن يُنصر دائما أبدا ..الدين.
ما أجدرَ أن نرتفع إلى هذا المستوى السامق في معاملة بعضنا بعضا بما أوجبه الشرع الحنيف من الأخوّة والإيمان والمحبة، ونتعاون على أمر الخير في وطن أحوج ما يكون إلى أبنائه البررة من الرجال والنساء؛ حيث تتربص به دوائر الشرّ والكيد في كل منعطف، وتنعق فيه غربان السوء وكواسر التغريب…تريد إلحاقه وإدماجه في منظومة منفلتة منسلخة قرارها يُصنّع خارج فضائنا القيمي والجغفرافي، وأهدافها المسخ والإذابة والإدماج.
وما أجدرنا ـ في جمعية العلماء بالذات ـ أن نرتفع إلى هذا المستوى السامق من الإيمان والأخوة، وما يقتضيه التعاضد والتعاون والتآزر في خدمة أهداف هذه الجمعية الكريمة الطامحة إلى لمّ شمل الجزائريين والجزائريات، ودفعهم إلى الانخراط المتبصّر الواعي في عمل إصلاحي تغييري عميق، يبدو المجتمع أقوى وأمسّ ما يكون حاجة إليه في ضوء التهاوي القيمي، والانحدار الأخلاقي والتراجع الكبير على أكثر من مستوى في أخلاق الناس ومناسيب إيمانهم وتقواهم واندفاعهم في «وادي المادّة» المهلك المشؤوم.
نسأل الله تعالى أن يردّنا إلى دينه ردّا جميلا وأن يعيننا على التقوى والصلاح وفعل الخيرات وتحقيق ما حققه الأوائل من محبة وإيمان وتآخ .
ولله الأمر من قبلُ ومن بعدُ.