الغيــرة: بيــن السلـــب والإيــجــــاب
أ. / أمال السائحي/
معنى الغيرة لغة: الغَيْرة بالفتح المصدر من قولك: غار الرجل على أَهْلِه والمرأَة على بَعْلها تَغار غَيْرة وغَيْرًا وغارًا وغِيارًا والغَيْرة. هي الحَمِيَّة والأنَفَة. وقال ابن حزم رحمه الله: الغيرة خلق فاضل متركب من النجدة والعدل؛ لأن من عدل كره أن يتعدى إلى حرمة غيره، وأن يتعدى غيره إلى حرمته، ومن كانت النجدة طبعا له حدثت فيه عزة، ومن العزة تحدث الأنفة من الاهتمام» انتهى من «مداواة النفوس»(ص 55 ).
فتبين بما تقدم أن الغيرة إذا كانت غيرة محمودة معتدلة يراعي فيها المسلم الحكمة والعدل، فإن أثرها يكون طيبا على خلقه ودينه ودعوته ومعاشرته الناس، أما إذا كانت بخلاف ذلك فإنها تعود عليه بآثارها السيئة المذمومة، من سوء الظن بالناس وسوء التعامل معهم وسوء العشرة، سواء في ذلك الرجال والنساء تماما كما يرى الدكتور علي أبو بكر يونس، الأستاذ بجامعة الأزهر حيث يقول: «أن هناك غيرة محمودة، كالغيرة إذا انتُهكت محارم الله عز وجل، فالمرء حينما تُنتهك محارم الله يغضب وغضبه هذا أمر محمود سببه إيمان هذا الشخص، ومن الغيرة المحمودة أيضاً: الغيرة على العرض، فالرجل لا يرضى في أهله الفحش وهو أمر يبغضه الله عز وجل، وهذه غيرة يُحبُّها الله عز وجل، وهناك غيرة مذمومة، سببها أمر يبغضه الله عز وجل، ومثال ذلك: الغيرة الزائدة من الرجل على أهله بدون ريبة، حتى يصل به الأمر لأن يتجسس عليهم ويتهمهم بالخيانة من غير تصرفات توجب هذا الشك، وهناك غيرة طبيعية (لا مذمومة ولا محمودة) وهي التي لا تؤدي لأمر يحبه الله ولا أمر يبغضه، وهذه كغيرة المرأة على زوجها الغيرة المعتدلة، التي لا ينتج عنها آثار ضارة. ولكن من الناس من لديه حساسية زائدة في تتبع زوجته أو أخته دون وجود ريبة أو تصرفات تشير إلى وجود خلل معين، وهناك أخطاء كثيرة تحصل في هذا المجال وتسبب مشاكل كثيرة» .
بينما د. سلوى حسين، استشارية الطب النفسي ترى أن: «الغيرة حالة إحساس بعدم الأمان، وهي دليل على الحب، وهي عبارة عن نار تشتعل في القلب، وتتفاوت الغيرة في الحدة بين امرأة وأخرى، فعند بعض النساء تكون الغيرة معتدلة ومقبولة ومعقولة، وعند البعض الآخر تكون زائدة وغير طبيعية، وتسبب مشكلات أسرية واجتماعية ومهنية كثيرة، والغيرة حالة من الضعف تحتاج فيها المرأة إلى الاحتواء، ولذلك فإن من الأخطاء الشائعة التي يقوم بها الرجل عندما يلمس غيرة زوجته أنه يحاول تهدئتها بمدح كاذب أو تسويغ غير مقنع، مما يزيد الغيرة اشتعالاً، أو يتهمها بأنها لا تثق بنفسها أو بقلة العقل، وهناك من الرجال من يثير غيرة زوجته من باب المزاح أو الاستفزاز أو محاولة استشفاف مدى حبها له، وقد يحدث أحياناً أن يقارنها بزميلة له في العمل أو ممثلة أو مذيعة دون أدنى معرفة بما يتركه ذلك من أثر في قلبها. فبعض النساء يتقبلن ذلك بقليل من الحساسية وبالصمت وهن كارهات، والبعض الآخر لا يتقبلن الأمر، ويدخلن في نوبات من الثورة والغضب وفقدان الأعصاب».
ونستطيع أن نقول هنا ناصحين: على كل رجل أن يعمل على امتصاص ردود فعل زوجته التي يشعر فيها بدرجة من الغيرة، وأن يبتعد عن مقارنتها بغيرها، أو مدح امرأة أخرى أمامها بطريقة مبالغ فيها، أو الاهتمام بأي امرأة أخرى أكثر من زوجته وأمامها، فهي قد تصمت، لكنها غير راضية، وستنفجر معترضة في لحظة معينة، وكذلك بالنسبة للوالدين مع أطفالهما، لا داعي أن تكرر الأم مثلا لابنتها أن ابنة جارتها منظمة، وناجحة في دراستها، وكذا الأب عندما يوبخ ابنه مشيرا إلى أن ابن صديقه ناجح جدا في حياته، والأم أو الأب يقصدان أن يحفزا أبناءهم للوصول بهم إلى ما يتمنيان ولا يراعيان شعور أطفالهم، وما يترتب على ذلك من انفعالات حادة لديهم أو سوء فهم، من مثل كره ذلك الشخص، ومعاداته أبد الدهر، فالغيرة إذا لا يُستثنى منها أحد من بني البشر، وهي موجودة في كل بيت، وفي كل أسرة، وفي كل أماكن العمل. فالغيرة بين الإخوة أمر طيب، فكلما وُجدت بينهم زاد حبهم لبعضهم البعض، وممكن أن تأخذ منعرجا سلبيا إذا لم توظف جيدا، والغيرة بين الرجال مجرد منافسة لا غير، وكذا لها سلبياتها في المنافسة والحب والكره، والنجاح، أما الغيرة بين النساء فمن النادر جداً أن تكون إيجابية أو تقتصر على المنافسة، وغالباً ما تكون لها آثار سلبية.
ورسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم أكد لنا أن الغيرة موجودة، بل قال أكثر من ذلك؛ إذ أكد في الحديث الشريف: «إن الله يغار والمؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله»(الراوي أبو هريرة، المحدث الألباني، المصدر: صحيح الترمذي، الصفحة 1168، خلاصة حكم المحدث: صحيح).
وجاء عن أنس رضي الله عنه أنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم عند إحدى أمهات المؤمنين، فأرسلت أخرى قصعة فيها طعام، فضربت يد الرسول، فسقطت القصعة وانكسرت، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الكَسرتين، فضم إحداهما إلى الأخرى، فجعل يجمع فيها الطعام، ويقول: غارت أمكم، كلوا فأكلوا، فأمسك حتى جاءت قصعتها التي في بيتها، فدفع القصع الصحيحة إلى الرسول، وترك المكسورة في بيت التي كسرتها (الراوي: أنس بن مالك، المحدث: الألباني، المصدر: صحيح النسائي، الرقم:3965، خلاصة حكم المحدث: صحيح.
وفي حديث آخر أنَّ عائشة ندمت على ذلك، وقالت: يا رسول الله، ما كفّارة ما صنعت؟ قال: «إناء مثل إناء، وطعام مثل طعام». فلقد حوَّل الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم الغضب والعنف إلى الحبّ والمودة، وأمرها أن تهدي صحفة لأمّ سلمة عوضاً عن صحفتها المكسورة.
هكذا كان بيت النبوة وكانت بيوت السلف الصالح، وهكذا نتمنى من الأسرة المسلمة أن تحذوا حذو هذا الأسلوب الحضاري في التخلص من الآثار السلبية للغيرة حتى لا يبقى لها مجالا لتوغر الصدور وتهدم الجسور أو التحريض على إيصاد الأبواب وهجر الأحباب.