الحادي عشر من ديسمبر يـــوم من تاريخ الشعب المتحرر

الشيخ محمد مكركب أبران/
تعلم الشعب الجزائري من الدين الإسلامي العظيم، ومن ماضيه الضارب في أعماق التاريخ القديم، ومن التجارب التي خاضها مدة قرون من الزمن، والعظات التي استوعبها من آلاف المحن، أن الحرية حق الحقوق لكل الشعوب، وأن الغالب لايهدي الحرية للمغلوب، بل وسيبقى طغاة الكفار يتربصون بالأحرار، ليردوهم من بعد تحررهم عبيدا مستضعفين، ومتخلفين تابعين.
لايزال المستعمرون بالأمس متربصين يتحينون الفرص المناسبة، وما أكثرها في عثرات هذه الشعوب، إنهم يتربصون ويبذلون كل حيلهم لعودة بسط الهيمنة على مستعمراتهم، بطريق أو بآخر. ومن ثم فإن الذكريات التاريخية في الجزائر، كأول نوفمبر 1954م، وعشرين أوت 1955م،1956م، والحادي عشر من ديسمبر 1960م و17 أكتوبر 1961م يجب أن تكون لنا موقظة منبهة للخروج من النوم والسبات، وغفلات التهاون والمهاترات.
وإذا كان في القرون الثلاثة الماضية أن البلاء المسلط على الشعوب الضعيفة هو الاحتلال العسكري، فإن البلاء الجديد يتمثل في الاحتلال السياسي من بعيد، وهو مايسمونه التطبيع، أو التركيع لكل منشق خائن وضيع، فالتطبيع مصطلح الاستغباء، مع الكيان اليهودي المحتل للأراضي الفلسطينية، منذ 1948م. فالتطبيع مع اليهود الكافرين، مذلة وخسران مبين، لكل الأنظمة السياسية التي ركعت لأعدائها، فباعت دينها بعرض من الدنيا، وأضاعت مستقبلها ومستقبل أبنائها، بشيء من العار وقطع من النار، إن لم يتوبوا ويستغفروا الله الواحد القهار.
وفي الجزائر كلما يدور التاريخ دورته، وتعود ذكرى مظاهرات الحادي عشر من شهر ديسمبر 1960م يجدد الشعب الجزائر عزمه وثباته على الوحدة الوطنية، ويذكر نفسه بنفسه، بأنه كلما كان الشعب متحدا، يقظا، متبصرا، وكان كالجسد الواحد، كلما كان هو المنتصر، وهو السيد في وطنه، وهو الحر الأصيل الذي يظل شامخ الرأس في تواضع، قويا بتوكله على الله تعالى لاعلى التطبيع، محافظا على تماسك أركان دولته وسيادته، في تعاون وتكامل وتطاوع. إنه الشعب الجزائري، الذي لايبيع كرامته مقابل الخبز.
لايزال بيان جمعية العلماء المسلمين الجزائريين منذ شهر ديسمبر 1936م حارسا حافظا لموقف الشعب الجزائري، {..لا. يا قوم.. إننا أحياء، وإننا نريد الحياة، وللحياة خلقنا. وإن الحياة لا تكون بالخبز وحده، فهنالك ما علمتم من مطالبنا، العلمية والاجتماعية والاقتصادية، والسياسية، وكلها ضروريات الحياة الإنسانية. ونحن نفهم جيدا ضروريات الحياة..}.
أولا: لم تكن مظاهرات ديسمبر 1960م جوابا للمحتل الفرنسي الغادر وحده، بل لكل أعداء الشعوب العربية المسلمة، المجاهدة المقاومة، وللمتشككين من داخل الجزائر يومها، استطاعت القيادة الثورية أن تنظم وتسير المظاهرات، من عين تموشنت، وما جاورها، وابتداء من اليوم التاسع المتزامن مع زيارة ديقول الرئيس الفرنسي للجزائر. اليوم العاشر والحادي عشر، في العاصمة الجزائرية، والشلف وشرشال. ويوم 12 ديسمبر في البليدة والمدن المجاورة.
ثانيا: وكانت الهتافات معبرة عن النهج السياسي للثورة الجزائرية، ودليلا على الفكر المتحرر للشعب الجزائري المتمسك بدينه وتاريخه وأصالته وهويته الإسلامية. من الهتافات التي رددها الرجال والنساء والشباب، في كل الشوارع والساحات والرحاب. منها: الله أكبر الله أكبر. الجزائر جزائرية، الجزائر حرة مستقلة، الجزائر جزائرية مسلمة، تحيا الجزائر، تحيا الثورة…مع زغاريد. ورفع العلم الجزائري في كل المدن التي خرج فيها الشعب للمظاهرات. وقد ضحى كثير من الشباب بأعمارهم من أجل رفع العلم الجزائري فوق شجر الشوارع والساحات، وعلى الأعمدة المنصوبة للكهرباء والهاتف، وعلى شرفات العمارات، وكانوا يُضْربون بالرصاص، وهم يشدون على العلم، ويعلمون قيمة ذلك العلم الرمز للدولة الجزائرية الموحدة، العلم: الملون بالأبيض والأخضر، والهلال والنجمة الأحمران.
ثالثا: مظاهرات الحادي عشر ديسمبر 1960م كانت بيانا عمليا تطبيقيا على أرض الميدان، لتقول لفرنسا وأتباع فرنسا، إلى يوم الدين: 1 ـ أن الجزائريين كلَّهم شعب واحد مؤمن ومتحد، لاتفرقه التحريشات الفرنسية، ولا الأراجيف التي كانت ومازالت تُبَثُّ بأساليب المكر والكيد بشأن النعرات العصبية، ودعوات الحمية الجهوية، فقال الشعب الجزائري للمستعمر الفرنسي، ولزعماء الفتن، ورؤوس الشقاق والنفاق، في الداخل والخارج: نحن شعب واحد متحد، قوامه التوحيد والاتحاد، لقد جمعنا الله بالإسلام، فلا تفرقنا شياطين الإجرام، ولا الأطماع الاندماجية ولا الأوهام. 2 ـ تجاوبت الجماهير في تلك المظاهرات من وهران وندرومة وتلمسان، إلى شلف وشرشال، والبليدة والعاصمة وقسنطينة وعنابة، والجنوب، للتوقيع بالدم المتحد على أن الشعب الجزائر، دولة واحدة متحدة، ويدافع الشعب متحدا عن كل شبر من القطر الجزائرى ولو سقاه بكل دمه. 3 ـ كانت مظاهرات 11 ديسمبر، 1960م ردا على من قال من الفرنسيين بأن الجزائر أصبحت قطعة من فرنسا، وأن الصليب سيظل محروسا بلافيجري.
روى المؤرخ أبو القاسم سعد الله في كتابه {تاريخ الجزائر الثقافي} قال: ليل الاستعمار.هذا الكتاب ألفه فرحات عباس في سبتمبر 1960م أو ربما بعد عزله عن الحكومة المؤقتة،…قال: وقد تعهد المؤلف أن يشرح لأبناء وطنه من الشباب الأسباب التي حدت به وبأمثاله إلى الثورة المسلحة بدل الوسائل السلمية والسياسية، للقضاء على (خرافة الجزائر فرنسية)، وهو يعتبر أن ذلك يخدم البلدين (الجزائر وفرنسا) معا، مستشهدا بمقولة (جان جوريس): إن الشجاعة هي البحث عن الحقيقة والجهر بها، وقد نوه فرحات عباس بفضل الثورة الجزائرية على المستعمرات الأخرى لأنها تحملت العبء الأكبر من التضحيات لتحطيم التنين الاستعماري، ولا سيما المغرب وتونس، ولولا الثورة الجزائرية لما تلفظ مسؤول فرنسي بكلمة استقلال. من أقسام كتاب (ليل الاستعمار)} (تاريخ الجزائر الثقافي: 10/626)
رابعا: تعتبر مظاهرات 11 ديسمبر بيانا مؤكدا على أن الثورة التحريرية الجزائرية كانت درسا آخر من الدروس التاريخية، لكل الشعوب التي كانت تعاني الاستعباد وقيود الهيمنة الاستدمارية الأجنبية. ومن هنا ستبقى الجزائر بإذن الله تعالى هي الرائد الراشد نحو التحرر التام من الهيمنة العالمية المستعبدة للفقراء والمستضعفين، من أي جهة كانت. وسنبقى بفضل الله تعالى. نقول ونردد عمليا في الميدان:
واقلع جذور الخائنين فمنهم كل العطب.. من كان يبغي ودنا فعلى الكرامة والرحب.. أو كان يبغي ذلنا فله المهانة والحرب.. (ابن باديس)
لقد عصم الله الجزائر بالإسلام من فتنة الاختلافات الطائفية، وهذه نعمة عظيمة، وعصمها من الاختلافات الفكرية والثقافية المنحرفة بنعمة لغة القرآن التي أجمع الشعب الجزائري على التمسك بها اتباعا للدين، واتباعا للسان خاتم النبيين، عليه الصلاة والسلام، وكل هذا عبرت عنه مظاهرات الحادي عشر من شهر ديسمبر 1960م.