مظاهـــــرات 11 ديسمبــــر 1960 فــــي الصحــــف الفــرنسيــــــة/وشهــــد شاهــــد مــن أهلهــــا عــن الاستفــتــاء الشعــبي
أ / الأخضر رحموني/
من الأحداث البارزة في سجل ثورتنا الخالدة مظاهرات 11 ديسمبر 1960 التي وصفها الصحفي البريطاني إدوارد بورن بأنّها (ديان بيان فو الجزائر) لأنّها كشفت عن تلاحم الطبقات الشعبية مع ثورتهم ومؤازرتهم لقادتها، وتطلعهم الى الاستقلال التام، والانعتاق من قيد المستعمر. وقد تناولت وقائع هذه المظاهرات بالتفصيل الصحف الفرنسية والعالمية التي جاءت لتغطية زيارة الرئيس الفرنسي شارل ديغول الى الجزائر، وكانوا شهود عيان عما حدث من استفزازات وقمع وحشي للمتظاهرين. حتى أن أحد الصحفيين الفرنسيين لما قال لشاب جزائري أن الشعب الفرنسي سيصوت في الاستفتاء القادم لفائدة ديغول، فأجابه الشاب (الاستفتاء انظروا.. هل هناك استفتاء أفضل من هذا?!).
جاءت هذه المظاهرات لتؤكد أن الشعب الجزائري هو الوقود الأساسي لجيش الثورة ولسانها المعبر، فما أن وصل الرئيس– شارل ديغول – الى الجزائر حتى قامت مجموعة من المنظمات الفرنسية المتطرفة بدعم من وحدات من الجيش الفرنسي بمحاولة إفساد هذه الزيارة والتنديد بها بالترويج لمقولة (الجزائر فرنسية) بعدما أدركت أن الهدف من زيارة الجنرال ديغول هو نشر فكرته المتعلقة بسلم الشجعان وتقرير المصير. وأثناء زيارته مدينة عين تموشنت يوم الجمعة 09 ديسمبر 1960، وعند إلقاء خطابه أمام المعمرين، خرجت هذه المنظمات رافعة شعارها المعهود، ورافضة تحسين الوضعية المعيشية للجزائريين، وكرد فعل منظم انطلقت المظاهرات الجماهيرية للجزائريين بعنفوانها في مدينة عين تموشنت احتجاجا على هذه الزيارة و رفضا لمشاريعه الاقتصادية والاجتماعية التي حاول الترويج لها، من أجل كسب ود الشعب الجزائري، خاصة الطبقات المحرومة والمهمشة. ومن الشعارات التي رددها المتظاهرون (الجزائر مسلمة) و(الجزائر مستقلة). وفي مساء نفس اليوم انطلقت مظاهرات أخرى حاشدة في الجزائر العاصمة وفي الشوارع والساحات العامة بأغلب المدن الجزائرية مؤطرة من جبهة التحرير الوطني مثل: وهران، الشلف، البليدة، عنابة، شرشال، تيبازا، سيدي بلعباس، خنشلة، قسنطينة، بسكرة، وغيرها… ووصلت ذروتها صبيحة يوم الأحد 11 ديسمبر 1960 حيث أبرزت هذه المظاهرات لدول العالم أن سكان الأرياف على غرار سكان المدن عنصر واحد يؤازر جبهة التحرير وجيشها، والمظاهرات ما هي إلا محاولة لإسماع صوت الشعب الجزائري خارج الحدود، وإيصاله الى الراي العام الدولي الرسمي، خاصة وأن الجلسة المخصصة للقضية الجزائرية على الجمعية العامة للأمم المتحدة كانت مبرمجة بعد أسبوع فقط، و بالتحديد يوم 19 ديسمبر 1960.
وقد قوبلت المظاهرات بالمواجهات العنيفة والتدخل القوي بإطلاق الرصاص من طرف المستوطنين وفرق المظليين الكتيبة 18 على الجموع المتدفقة في الشوارع، حتى سقط أكثر من 200 شهيد بالإضافة إلى الجرحى .ورغم كل المحاولات لإخماد شرارتها، بقيت المظاهرات منتشرة مدة أسبوع و لم تهدأ إلا بعد توجيه السيد فرحات عباس رئيس الحكومة المؤقتة نداء في 16 ديسمبر 1960 لتوقيفها تفاديا لسقوط أكبر عدد من الضحايا، مع إشادته ببسالة الشعب الجزائري .وكان من ثمارها تصويت الجمعية العامة الأممية على اللائحة رقم 1573 التي تعترف بتقرير المصير للشعب الجزائري. وحقه في الحرية والاستقلال ووحدته الترابية. مع رفض المبررات الفرنسية المقدمة، مما أدى الى تغيير مسار الثورة الجزائرية نحو الاستقلال، وأصبحت كلمة الوفد الجزائري المفاوض مسموعة في المحافل الدولية.
وبمناسبة حلول ذكراها 61، تشدنا الذاكرة للوقوف عند ما كتبته الصحف الفرنسية حول هذه الملحمة الشعبية، على الرغم من كون هذه المقتطفات من النصوص غير موضوعية وحيادية، وتركز على ما حدث بالجزائر العاصمة وأحيائها فقط، إلا أنها وثقت ما جرى في سياقها التاريخي، انطلاقا من مقولة (وشهد شاهد من أهلها). وهذه النصوص توضح أن المظاهرات السلمية لم تكن عفوية، بل كانت منظمة ومخططا لها. وأن الشعارات التي رفعها المتظاهرون كانت مؤيدة للثورة، وهي أبلغ استفتاء شعبي ورسالة على الاستفتاء الذي كان يعتزم ديغول تنظيمه .حتى أنه ردد مقولته الشهيرة (إن ما سمعته، وما رأيته، هو الواقع، ويجب التسليم به).
جريدة ليبيراسيون
جاء في جريدة (ليبيراسيون) الصادرة يوم 12/12/1960 وهي تتحدث عن المظاهرات التي شهدها حي بلكور- بلوزداد حاليا – قائلة (في الليلة الرطبة التي أسدلت على الجزائر ستارا من مطر، كان يجري سباق نحو حي بلكور كالسيل، في صخب و ضوضاء يثير الهلع والرعب. كان المتظاهرون يرفعون أعلام جبهة التحرير الوطني ،انحدروا من الربوة حيث توجد أحياؤهم القصديرية يكتسحون نهج – ليون- (شارع محمد بلوزداد حاليا)، وضربوا المحلات وحطموا الواجهات في صخب الزجاج المهشم، ومن نوافذ انطلقت فجأة عيارات نارية سقط على إثرها رجل وطفل ميتين، واستولى الفزع على أحد الأوروبيين، فأخذ يطلق النار من شرفة نافذته.
وهؤلاء الشبان المكونون من عدة فرق لم يلقوا أي مقاومة في البداية، وسرعان ما ظهرت من بينهم أعلام خضراء وبيضاء لجبهة التحرير الوطني، وتقهقروا وهم يهتفون بعبارات: الجزائر مسلمة، أطلقوا سراح المسلحين.
وبعد ذلك تدخلت قوات ضخمة من رجال الدرك المتنقلة، لكنهم لم يبدوا أي اعتراض، غير أنه في حدود الساعة 19 و30 دقيقة انطلقت ألسنة اللهب الى عنان السماء، لقد اشتعلت النيران في المخزن المركزي للأروقة، فخلقت من جديد غليانا شديدا في كامل الحي، إلى أن تمكن رجال المطافئ من إخماد النيران، وإيقاف الكارثة التي قدرت خسائرها بمليارين من الفرنكات. وكان في مقدمة المظاهرة شاب مسلم يوجهها منذ البداية، قال في خطابه الموجه: (نحن لن نتعرض لقوات الأمن، ولكننا نتظاهر ضد الأوروبيين الذين يريدون إجبارنا على إغلاق محلاتنا، والدفاع معهم عن الجزائر الفرنسية ،بينما نحن نريد الجزائر المسلمة).
وكتبت نفس الجريدة بعد ذلك قائلة (وقعت اصطدامات عنيفة بين هؤلاء المسلمين أنفسهم، وأوروبيين بديار السعادة (وهو حي أوروبي يقع في أعلى ديار المحصول حاليا).
ثم جاء مسلمون قادمين من الأحياء القصديرية يهتفون – الجزائر جزائرية –، وصلوا في حدود الساعة 20، واستأنفوا المظاهرات هاتفين آلاف المرات، (السلطة لجبهة التحرير الوطني).. (يحيا الشعب الجزائري).
وفي ديار المحصول ما زال المتظاهرون يهاجمون مواقف السيارات، محطمين بعضها، ومستولين على البعض الآخر، ليكتبوا عليها (جيش التحرير) -(جبهة التحرير)، ويرفعوا عليها أعلام الجبهة. وقد كان المتظاهرون مجتمعين وراء اثنين من حملة الأعلام، وهناك فتاتان مسلمتان مرتديتان الأخضر والأبيض، وعلى رأسهما قبعات جيش التحرير الوطني، رفضتا الانصراف منشدتين النشيد الوطني للجبهة، وأغاني وطنية أخرى بالعربية.
وتقول الجريدة نفسها (كان الضغط على أشده في ساحة الحكومة، سمعت طلقات نارية، فسقط العديد من الأشخاص رجالا ونساء وأطفالا على الأرض، وبدأوا يهرعون في كل الاتجاهات، في حين وصلت سيارات الإسعاف الى مكان الحادث.
وبكل سرعة صعد المتظاهرون المسلمون نحو حي القصبة المحاصر من طرف رجال الأمن، والذي يوجد بداخله مئات من الشباب يلوحون باستمرار بأعلام جبهة التحرير الوطني، ويجوبون الأنهج الضيقة تحت هتافات النساء المسلمات اللائي ملأن النوافذ وهن يتابعن المشهد.
وفي حي باب الوادي بالذات، لم يبق في حدود الساعة الخامسة، إلا بعض المجموعات الصغيرة من الأوروبيين تتبادل الحديث حول بائعي الصحف .لقد تم إطلاق النار بسرعة كبيرة، تعذر معها إحصاء الموتى والجرحى بدقة، غير أنه في أماكن أخرى متعددة لا زالت بقع الدم تشهد على ما حصل وبعد مقارنة العديد من الشهادات، تبين أن أغلب المسلمين الذين قتلوا خلال هذه العشية كانوا من ضحايا باب الوادي الذين قتلت قوات الأمن بعضا منهم، بينما قتل الأوروبيون وبممارسة العنف المفرط بعضهم الآخر. كما تم تمزيق أجساد العديد من المسلمين، ومن بينهم اثنان بالقرب من مقهى عربي. وكثيرون آخرون أعدموا، بينما كانوا يلوذون بالفرار بعد الطلقات النارية .وكانوا يضربون بأرجلهم سقوف الأكواخ لترديد الشعارات. وكانوا يحركون عصيا عقدوا في أطرافها أعلام جبهة التحرير الوطني، ووسط هذا الضجيج كانت النساء تطلقن زغاريدهن الحارة.
وقد وجدت أحزمة الأمن القوية صعوبة في احتواء المتظاهرين، بينما وصلت كتيبة من المظليين ذوي القبعات الحمر التي يقودها الكولونيل (ماسو)، قدمت لتأخذ مكانها وأسلحتها مشرعة في مواجهة الأزقة المكتظة بالجماهير الصاخبة، فاقترب منها العقيد –الذي يقود كتيبة الجمهورية للأمن – من عقيد المظليين وقال له: (أنا مسؤول على الأمن، وإني آمرك بالانسحاب مع مظلييك، فالوضع على ما هو عليه متوتر بما فيه الكفاية).
جريدة فرانس سوار
ونقل مراسل جريدة (فرانس سوار) حسب مشاهدته الشخصية للأحداث بحي بلكور –بلوزداد حاليا – قائلا: (نزلت شارعا شديد الانحدار، وكان علي أن أشق طريقي وسط جمع غفير، رأيت مسلمين منهمكين في كتابة حروف كبيرة على لافتة عريضة بدهان أحمر ما يلي (لا نحمل كراهية للجيش) – (اطلقوا سراح المساجين)–(نريد استفتاء بإشراف الأمم المتحدة).
وقد قدم لي رؤوس الفتنة تفسيرهم للأحداث التي تحولت إلى مأساة وهي كالتالي:
* حينما جاء الجنرال ديغول الى الجزائر، قام الأوروبيون بمظاهرات، لكن نحن بقينا في منازلنا هادئين، غير أنهم جاؤوا للبحث عنا، واكتسحوا الحي الذي نسكن فيه، وأجبرونا على إغلاق المقاهي تحت تهديد المسدسات، فقررنا أن نقاومهم، فبدؤوا بإطلاق النيران، وقد قتلوا خمسة منا يوم أمس، وستة اليوم.
وأضاف المسلمون: إننا جميعا نؤيد جبهة التحرير الوطني، ولم نكن ننوي أن نتحرك مطلقا، لكن بدأنا الآن نفقد صبرنا بسبب ما يجري في الجزائر. نحن لا نؤيد الجنرال شارل ديغول لأنه في الحالة الراهنة لا يوجد إلا حلان:
إما جزائر فاشيستية أو جزائر حرة.
جريدة لوباري دي جور
أما جريدة (لوباري دي جور) فقد كتبت في عددها ليوم 12/12/1960 واصفة الوقائع قائلة: (كتلة المتظاهرين المسلمين يزداد عددها، حيث يؤتى بالعديد من الشبان والنساء الجرحى. وفي عمق نهج –ليون – اسمع طلقات نارية، إنها وابل من رشاشة، بعض الأوروبيين يصوبون النار على المسلمين، وآخرون يرمون من شرفاتهم بقنابل يدوية على مجموعة الشباب العرب، حتى أن درجة الغليان أصبحت تزداد ارتفاعا.
هناك شبان عرب يدهنون باللون الأخضر على الجدران، وعلى لوحات المعلقات شعارات (تحيا الجزائر المسلمة) – (عاشت الجبهة). وعلى علم أخضر وأبيض رسم أحد المسلمين الجرحى بدمه هلالا ونجمة لعلم الخارجين عن القانون، في حين أنه اختلط صوت القنابل المسيلة للدموع بصراخ المتظاهرين، وبأبواق سيارات الشرطة والإطفاء، وبأبواق سيارات الإسعاف.
كان المتظاهرون ينشرون أمامنا العلم المضرج بالدماء ويصرخون في وجوهنا: (أيها السادة الصحفيون، إنكم ترون دما كثيرة على علمنا، وقد مات مليون جزائري من أجل الاستقلال)، فانفجرت التصفيقات الملتهبة، والتصفير الحاد، والزغاريد العالية، لتحيي هذه الصراحة المتناهية .ورفع المتظاهرون فوق رؤوسهم العصي والعكاكيز والسيوف والمظلات. إنها ضوضاء خارقة للعادة، ارتفعت فوق رؤوس الجموع الهادرة لوحة كتبت في حينها تعلن (تحيا الجزائر المستقلة )- (عاش جيش التحرير)- (عاشت جبهة التحرير). وهناك شعارات وطنية أخرى كتبت على صفائح معدنية انتزعت من سقوف الأكواخ.
جريدة لومانيتي
مراسل صحيفة (لومانيتي) كتب قائلا: (دارت مشادة بين المسلمين والأوروبيين في أعالي ديار المحصول الذي يفصله وادي المرأة المتوحشة، عن ديار السعادة وكلو صالمبي، في حين إننا نشاهد سيارات مغطاة بأعلام جبهة التحرير الوطني يسوقها مسلمون كتب عليها (جبهة التحرير الوطني) و(عاش جيش التحرير الوطني) كانت تجول في الناحية.
ثم وصف الأحداث في حي رويسو- حي المعدومين حاليا – بقوله: (في طرف المدينة الآخر، وفي حي رويسو أطلق المظليون النار بأسلحة أوتوماتيكية، وكانت النتائج الأولى خمسة قتلى، وأكثر من مائة جريح، وعند الزوال وصل مظليون من الداخل، قادمين من مدينة تلاغمة على متن طائرات نزلت بمطار الدار البيضاء، بمعدل واحدة كل 10 دقائق. وقد قام المظليون بتطهير متراسين بناهما الأوروبيون بالسيارات المقلوبة، ثم استولى عليها المسلمون فيما بعد. وبعد ذلك وجه المظليون الى المتظاهرين المسلمين إنذارا بإخلاء المتاريس، لكن الآخرين لم يحركوا ساكنا، وعندها شرع المظليون بإطلاق النار، ثم أوقفوا حوالي مائتي مسلم بقوا تحت حراستهم).