الدكتور محمد بابا عمي في حواره مع البصائر يتحدث عن: إشكالية الانفصام بين الفكر والفعل والحلول القرآنية
حاورتـــه: فاطمــة طاهـــي/
قدم الدكتور محمد بابا عمي، مدير معهد المناهج للدراسات العليا، في حوار له مع جريدة البصائر الحلول القرآنية والفكرية لمختلف الإشكاليات الاجتماعية التي تعيشها الأمة، مشيرا إلى بعض القضايا الفكرية التي تشغله في الوقت الراهن قائلا: «علينا البحث لتحويل التوحيد والعقيدة إلى برنامج زمني يستطيع الإنسان في ظل هذه الظروف التي يعيشها أن يمارسه في حياته اليومية»، في نفس السياق كشف لنا الدكتور عن المراحل السبعة التي من خلالها يتم تحويل المعرفة إلى سلوك –والتي تحول حسبه الآية القرآنية إلى فعل معين. كما أشار الباحث في الفكر الإسلامي إلى مستجدات البحث العلمي في مجال العلوم الإسلامية وإلى واقع وإشكاليات مناهج الدراسات ومشكلات الفكر الإسلامي وتحدياته المعاصرة التي تواجهه، كما تطرق الدكتور محمد بابا عمي للحديث عن جهود الباحثين الجزائريين ودورهم في تطوير العلوم مشيرا من جهة أخرى أنه: «ينقص ما يسمى بجسور التواصل بين الباحثين حتى يطرحوا إشكالات مشتركة، فالاجتهاد الفردي موجود لكن جسور الاجتهاد الجماعي منقطعة تماما».
نرحب بفضيلتكم في هذا اللقاء مع جريدة البصائر، ونود أن تقدم في البدء لقرائنا الكرام نبذة موجزة عنكم، من هو الدكتور محمد بابا عمي؟
– محمد ابن موسى بابا عمي من مواليد 27 أفريل 1967م ببني يزقن، ولاية غرداية، زاولت دراستي الابتدائية بمسقط رأسي، وتعلمت القرآن الكريم بالمدرسة القرآنية أو المدرسة الحرة كما نسميها، تحصلت على شهادة بكالوريا شعبة رياضيات بثانوية مفدي زكرياء. سجلت بعد ذلك في جامعة العلوم والتكنولوجيا هواري بومدين بباب الزوار، وبسبب الإضرابات قمت بالتحويل إلى المعهد العالي لأصول الدين بكلية العلوم الإسلامية بالعاصمة، حيث تحصلت على شهادة الليسانس وديبلوم الدراسات المعمقة، ثم شهادة الماجستير سنة 1997م حول «مفهوم الزمن في القرآن الكريم»، وفي سنة 2003م تحصلت على شهادة الدكتوراه بجامعة الأمير عبد القادر بقسنطينة حول «أصول البرمجة الزمنية في الفكر الإسلامي»، كما درّست في بعض الجامعات لفترات قصيرة، ثم تفرغت للبحث العلمي ولإدارة المؤسسات العلمية.
وماذا عن مسيرتكم التأليفية الفكرية والعلمية؟
– أول مؤلف قمت بكتابته كان عبارة عن تحقيق لكتاب بعنوان: «فرية مدن جزائرية» للعالم عبد الله كنطابلي، قمت بطباعته ونشره، وأنا في الواحد والعشرين من العمر، ومن ذلك اليوم بدأت مسيرتي التأليفية حيث كتبت واشتغلت في التراث لما كنت أمينا عاما لجمعية التراث لمدة 13 سنة، وكانت لي بعض الأعمال التراثية تحقيقا في بعض مخطوطات التفسير والعقيدة، كما أنجزنا بعض المعاجم كمعجم أعلام الاباضية ومعجم المصطلحات الاباضية، حيث كنت مشرفا على فريق بحث متكون من ثلاثين باحثا ، كما ألفنا دليل المخطوطات في 15 مجلد تقريبا.
أما فيما يخص المسار الفكري فكان اهتمامي غالبا في مجال الزمن والحضارة، لأني تأثرت أساسا بمالك بن نبي ومحمد اقبال وعلي عزت بيجوفيتش وعمرو خليفة الدامي وغيرهم من المفكرين المعاصرين، هذه المدرسة الفكرية التي كنت أستقي منها المعين، وقد ألفت عددا من البحوث كتفاسير القرآن الكريم، وخالفت فيه المألوف حيث لم أبدا بتفسير سورة الفاتحة وسورة البقرة كما هو معهود فأغلب التفاسير تبدأ هكذا، ولكن عامة الناس يبدؤون من الأخير، يعني من سورة الناس ثم تتبع السور الأخرى التي تأتي آخر المصحف، فألفته لجمهور المسلمين وبدأت من سورة الرحمان إلى سورة الناس، ويتكون من 16 جزء، طُبع منه 12 جزء في انتظار الأربعة أجزاء الباقية ويكون كاملا، ويحمل عنوان: «بذور الرشد»، يعنى بالتفسير الميسر من الفكر إلى الفعل، وحاليا أنا متفرغ لعمل علمي قد يأخذ وقتا طويلا، وهو التأسيس لعلم جديد يسمى: «علم الزمن والوقت» أردت من خلاله أن أجمع كل العلوم التي تعالج الزمن والوقت سواء في الفيزياء أو في البيولوجيا، والتاريخ، والفلسفة..، حيث لا يوجد اليوم علم قائم بذاته يسمى علم الزمن والوقت، تفرغت لأشتغل عليه.
أما فيما يخص مساري الوظيفي، فكنت أمينا عاما لجمعية التراث، ثم سكرتير التحرير لجريدة البصائر لسان حال جمعية العلماء المسلمين رفقة الدكتور عبد الرزاق قسوم والشيخ الهادي الحسني، ثم أشرفت على فريق عمل وأسسنا 17 مدرسة في إطار التعليم الخاص عبر كامل التراب الوطني: العاصمة، البليدة، وهران، قسنطينة، حاسي مسعود…، وفي سنة 2006 قمت بتأسيس معهد المناهج للدراسات العليا، ومنذ عامين تحصلنا على رخصة تأسيس جامعة خاصة، المعهد العالي للعلوم، تحتضن 11 تخصصا، وأنا ضمن الثلاث المؤسسين لهذه الجامعة.
مشروع معهد المناهج للدراسات العليا منشؤه فكرة لها رؤيتها ودورها وأهدافها، وبما أنكم تترأسون هذا المعهد، ما هي الإضافة التي يقدمها للساحة العلمية والدينية؟
– المعهد يبحث في مناهج البحث العلمي والمنهج التربوي، نحن نعاني التخلف في مشكلات المنهج أكثر من الموضوع، لدينا اشكالية عظيمة وعميقة جدا في المنهج. فالمنهج من الناحية العلمية يحقق الفعالية أما الموضوع فيحقق الكفاءة، ونحن الآن نفتقد للفعالية الانسانية، لا نفتقد للأفكار أو العمق، ولهذا أسسنا هذا المعهد ليقوم بهذا الدور، أن يدرس ويناقش المناهج ويؤلف فيها، بالإضافة إلى منظومة أو نموذج الرشد الذي يعني كيف نفعل العلم في الواقع، نعتقد بأن أزمة المسلمين اليوم هي أزمة انفصام بين الفكر والفعل، يفكر في شيء ويفعل شيئا آخر، يفكر في شيء ويصل إلى نتيجة أخرى، هذا الانفصام هو مشكلة المنهج الذي يحول المعلومة إلى معرفة، لدينا القرآن الكريم لكن الإشكال في: كيف يتحول إلى واقع حضاري حركي، وبالتالي هناك خلل في المنهج لو درسنا هذا الخلل سننطلق إن شاء الله كأمة قوية في المستقبل، المشكل ليس في الموضوع بل المشكل هو مشكلة منهج. وبالتالي معهد المناهج يدرس هذه القضية ويستدعي دكاترة وأساتذة علماء لمناقشة هذه القضايا وينتج حولها مؤلفات، كما نوفر في المعهد للأساتذة الموظفين امكانية التسجيل في الجامعات الدولية، ونعيّن لهم مشرفين، حيث ناقشنا أكثر من 60 رسالة ماجيستير ودكتوراه، والمعهد منفتح على كل العلوم الانسانية ليس فقط العلوم الاسلامية، فنحن نعتقد أن قوة هذا الوطن تكمن في تنوعه وتلونه، ولعل من الاضافات أيضا في معهد المناهج، هو ما يسمى بوسام العالم الجزائري الذي بدأنا بتنظيمه منذ سنة 2007 إلى اليوم.
ماهي آخر مستجدات البحث العلمي في مجال العلوم الإسلامية، وكيف تكون عاملا فاعلا في تحقيق دراسات تطبيقية تعزز جهود تطوير الأمة وتحسن ظروف حياتها؟
– اذا تحدثنا عن العلوم الإسلامية سنجد أن أعمق وأصعب مشكلة اليوم تكمن في المدارس الحدثية لأنها تضرب في المصدرين الأساسيين لتراثنا: القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، نجد الحرب العلمية بمنهجية حول هذا، وذلك من خلال جامعات ومؤسسات عالمية وخبراء. فآخر المستجدات هو كيف نستطيع أن نجيب ونقف وندافع عن مصدرين أساسيين فإذا مس القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة لم يبق الدين، فاليوم يمكن لطالب أن يؤلف بحثا في العلوم الإسلامية ولا يعرف اللغة العربية، لأن الغرب أسس حقلا كبيرا جدا باللغات الأخرى خاصة اللغة الانجليزية، إلى درجة أن الطالب يعتمد على مصادر بلغات أخرى والكثير من هذه المصادر مشوهة، فتكونت جزيرتان جزيرة للقراءة بالعربية والتأليف بالعربي وأخرى قراءة بالانجليزية والتأليف بالانجليزي، ونحن نعيش هذا الانفصام الخطير جدا وكأن الكون أو العالم تشكل بطريقة غير منطقية في التعامل مع المصدر الأول للإسلام الذي هو القرآن الكريم وبعده السنة النبوية الشريفة.
ماهي قراءتك للحالة الراهنة للدراسة والبحث العلمي في مجال التكامل بين العلوم الشرعية والعلوم الاجتماعية؟
– كان هناك جهد كبير قام به العلماء في المعهد العالمي للفكر الإسلامي، وهو ما يسمى بالتكامل المعرفي أو بأسلمة المعرفة، وهناك جهود أخرى، ويبدو أنها خفضت في الآونة الأخيرة وضعف صوتها وبدأت تتغلب عليها قراءات تهيمن على الدراسات الإسلامية عوض أن يكون هناك تكامل. إن الدراسات الاسلامية في العالم العربي اليوم تعاني من مشكلات كبيرة جدا منها مشكلة التوجيه فمثلا الطالب الذي ليس له اختيار آخر سيوجه إلى العلوم الإسلامية ولا أنفي وجود أولئك المتفوقين الذين يختارون تخصص العلوم الإسلامية، بدأنا نصنع بطريقة ما تقني سامي في الشريعة، وهو نوع من تسريع عملية انتاج الخطيب والواعظ، لماذا؟ لأن هناك حاجة للجهة الأخرى في القنوات التلفزيونية وغيرها من المنابر فعوض أن تدفعنا هذه الحاجة إلى البحث عن الجودة دفعتنا إلى الانتاج كمّا، والانتاج كمّا في هذا الاتجاه خطير لأن القضية قضية دين الله، إما مجتهد أو غير مجتهد، وإما عالم أو غير عالم. وفيما يخص موضوع التكامل أقول أنه حتى هذه الفكرة على مستوى الفرد الواحد سقطت لا معنى لها. اليوم يجب أن يكون هناك تكامل في المؤسسات، فالعلم الواحد يحتاج إلى العديد من العلماء، وإن غياب المؤسسات الجادة المنتجة للمعرفة ولأجوبة أسئلة الحضارة سيورث لنا جزرا، فمثلا موضوع الاقتصاد الإسلامي نجد علماء الاقتصاد يتطرقون إلى جانب من الموضوع وعلماء الفقه يتطرقون إلى جانب آخر، وبالتالي إذا لم يلتقوا لن ينتجوا شيئا، نحن في حاجة إلى مؤسسات جادة عميقة ومراكز بحث علمية تنتج لنا الأجوبة لأسئلة العصر.
حدثنا عن واقع وإشكاليات مناهج الدراسات والعلوم الإسلامية؟
– علم المناهج في العلوم الإسلامية استوردناه من علم الاجتماع عوض أن ننتج منهجا خاصا بالدراسة الاسلامية، وتوجد طريقة أخرى للاستيراد والتي تكمن في المعالجات الفلسفية للعلوم الاسلامية من خلال المستشرقين، هذه المناهج لا تليق بالعلوم الإسلامية، فينبغي أن يرتقي المنهج إلى قيمة المصدر، للأسف يوجد ضعف في الانتاج من خلال مصدرية القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، ودائما أؤكد على هذه الثنائية.
حدثنا عن طاقات العلماء والباحثين الجزائريين والجهود المبذولة لتطوير وتفعيل العلوم والدراسات الإسلامية؟
– الباحث والعالم الجزائري اليوم يوجد سواء من الجيل الأول أو من الجيل الثاني وغير ذلك، وهذا لا يُنكر لأن هذا نعلمه ونعرف كفاءاتهم، لكن الذي ينقص هو ما يسمى بجسور التواصل أي لا يكتبون مع بعض ولا يؤلفون مع بعض ولا يطرحون إشكالات مشتركة هذا الغالب، ولأكون صريح جدا وواضحا اذا كان هناك اجتهاد فردي موجود فإن جسور الاجتهاد الجماعي منقطعة تماما، حتى داخل الجامعة الواحدة لا تجد فيه مجموعة من الباحثين ينتجون عملا علميا مشتركا يتخذ اشكالية أو محورا أو أطروحة محورية إلا نادرا، للأسف هذه الجسور الغائبة تركت الجهود تذوب، اليوم نحن في عصر الجماعات العلمية وعصر مراكز البحث وليس في عصر الفرد العبقري الواحد.
العلوم الإسلامية اليوم هل تدرس من منظور واقعي وبصيغة تحاكي الواقع الإنساني لمعاني الإسلام ومقاصده؟
– أكبر انفصام هو هذا الذي يدرس الواقع ولا يعرف شيئا عن آية أو حديث وعن الحكم أو القاعدة الكلية أو القواعد الأصولية أو التوحيد، تجده في كثير من الأحيان غائبا عن الواقع لا يعرف واقع الناس ولا يخالطهم هو المشتغل بكتابه وبمؤلفه وبمقاله، وبالتالي أحدثنا نوعا من الانفصام بين هذا وذاك، وللأسف الدراسات الإسلامية اليوم لا نجد فيها جانبا قويا جدا لمعرفة الواقع، والعلماء في القديم كانوا يعيشون بين الناس، والله سبحانه وتعالى يقول: «هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم»، مثلا مشايخ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين كالشيخ عبد الحميد ابن باديس والشيخ مجمد البشير الإبراهيمي والشيخ إبراهيم بيوض وغيرهم كانوا يعيشون في وسط الناس يأكلون معهم يجوعون معهم هذا هو الأصل. أقول الدراسات الاسلامية اليوم تفتقد إلى الكثير من جوانب معرفة الواقع وهذا الافتقاد يجعلها غير واقعية، إذ لا تطرح الأجوبة للأسئلة الممكنة، فتعيش في جزيرة لا تستطيع أن تشارك في قضايا السياسة ولا في قضايا الاقتصاد أو في قضايا القانون ولا في القضايا العامة.
لكم مؤلف حول: «أصول البرمجة الزمنية في الفكر الإسلامي مقارنة بالفكر الغربي»، حدثنا عن أوجه التشابه والاختلاف في مقارنتكم في هذا البحث؟
– توجد علوم تعلم الانسان كيف يدير وقته فمثلا: علم ادارة الوقت وعلم اجتماع الفراغ، الكثير من العلوم معروفة اليوم في هذا المجال، لكن هذه العلوم لها روح «غير دينية وغير توحيدية»، أي لا تحيل الى الله، لكن تحيل الى مرجعية الانسان، والله غير موجود في البرنامج الزمني للإنسان وإذا وجد فهو اختياري يعني ليست قضية برمجة.
عندما نقرأ القرآن الكريم مثلا في سورة المزمل نجد فيها برمجة لليل رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: «قم اللّيل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا»، فهذه برمجة ليوم الإنسان، وقد ضاع منا علم البرمجة الزمنية، والغريب في الأمر أن كلمة «البرمجة» موجودة في كتب تراثنا الإسلامي في كتب الفقه الأولى في القرن الثالث، فأردت أن أعيد هذا العلم وأحيله إلى التوحيد، أبرمج بناء على الصلاة وبناء على علاقتي مع الله، وبناء على علاقتي بالأرحام، هي قضايا مطروحة في الشريعة لكنها بحاجة إلى أن تتحول إلى برنامج زمني وليس إلى خطابة دون برمجة، اليوم عندما تقول للناس افعلوا يسألونك: كيف نفعل؟ فلا نقول لهم أنتم اختاروا وهذا هو الخطأ والانفصام الكبير، وبالتالي البحث سيساهم في تحويل التوحيد والعقيدة إلى برنامج زمني يستطيع الانسان في ظل هذه الظروف التي يعيشها أن يمارسه في حياته اليومية، فهو محاولة لأن ندرك الهوة القائمة بين الفكر والفعل.
لكم إصدار حول مفهوم الزمن في القرآن الكريم، حدثنا عن أهم المحاور التي توقفتم عندها؟
– عندما نأخذ كلام الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم نجد بأن لفظ «الزمن» غزير، فيه قسم للزمن وفيه ذكر للّيل والنّهار، هذه الوحدة الكبيرة جدا في القرآن الكريم تعطينا مفهوما للزمن من منطلق قرآني لننطلق منه، وأنا بذلت جهدا وقمت بعملية استقراء للآيات وللألفاظ، الغريب في الأمر أن كلمة أمة مثلا في القرآن الكريم نجد بأنها تعني «مجتمع» في قوله تعالي: «إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا»، وتعني الزمن أيضا في قوله: «وادّكر بعد أمة» ، وعليه نجد بأن القرآن الكريم يجعل لنفس اللفظ معنيين. نحتاج إلى دراسات وبحوث لنفهم ولنتعمق في مفهوم الزمن في القرآن الكريم بعيدا عن الإطار الفلسفي. أنا أعتقد بأن القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة مصدر مستقل لوضع المفاهيم ولبناء المعرفة، وقد قمت ببحث تضمن بناء معرفة زمنية من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة حسب ما يسمى بالأيام الستة وأيام الخلق وعبر مراحل التطور الحضاري والتاريخي كل هذه المفاهيم لابد من دراستها من منطلق قرآني.
دكتور ماهي المراحل السبعة لتحويل المعرفة إلى سلوك؟
– أعتقد بأن اشكالية الأمة هو الانفصام بين الفكر والفعل، عندي فكرة أريد أن أصل بها إلى فعل، فما هي المراحل السبعة التي أنتقل من خلالها من مرحلة إلى أخرى، فأول مرحلة هي السؤال إذا مات السؤال مات إمكان ميلاد الجواب، المرحلة الثانية هي الافتراض فعندما نسأل سؤالا معينا نقوم بافتراض جواب، لكن هذا الافتراض لم يختبر بعد، وعندما أختبره يتحول إلى نظرية ثم إلى جواب ثم بعد ذلك نضع قواعد كلية وهذه مرحلة، ثم نصوغ ما يسمى بالصور الادراكية والذهنية وهذه مرحلة أخرى، ثم بعد ذلك نبني الاطار المنهجي ثم ننتقل إلى مرحلة وضع مخطط الفعل، ثم تأتي المرحلة السابعة التي ننتهي من خلالها إلى الفعل، هذه المراحل بدأنا نعالجها من الناحية العلمية في موضوع معين، فمثلا مشكلة الفقر عند المسلمين نحتاج إلى السؤال الأول ما معنى الفقر؟وما حده؟ إذن تطرح الأسئلة بطريقة عميقة جدا قد نستورد أسئلة معينة وقد نطرح أسئلة خطرة، ثم نفترض نظريات إلى أن ننتهي إلى الفعل بعد مخطط الفعل، هذه المراحل السبعة التي عالجتها ولا أزال أبحث فيها لأنها هي المشكلة العويصة، نحتاج أن نبحث في كل مرحلة كي نصل إلى الفعل، لأن القرآن الكريم لم ينزل لكي نقرأه ونتلوه فقط، بل نزل لكي نعمل به فماهي المراحل التي نحول من خلالها آية معينة إلى فعل معين.
اليوم نسمع كثيرا مصطلح العيش المشترك ألا تراه تهديدا لهوية المجتمعات الضعيفة؟
– هو قانون يفرضه القوي الذي يضع نفسه محور الوجود والكون، والعيش المشترك أنك تقبله ويعني كذلك أنه لا يقبلك، وهذه إشكالية عميقة لأنه هو الآن لا يقبلك يعتقد أن فيك التخلف ووو ولا يحاسبه القانون، لكن أنت إذا قمت بعملية توصيفه سيتحول هذا إلى مصطلحات جديدة وإرهاب وتخلف إلى غير ذلك، فهذه المصطلحات تُصنع بعناية في مراكز دولية خاصة بصناعة المصطلحات، كما توجد مراكز لصناعة الصور الذهنية، يعني أي مصطلح يولد هو مصنوع، سواء هذه المصطلحات التي تصف الوباء أو تصف مرحلة حضارية، أو مثل ما سمي بالربيع العربي، كلها مصطلحات لم تولد هكذا بل صُنعت، والآن يصنعون العيش المشترك بهذه الطريقة من أجل وصف المسلمين بأنهم لا يقبلون الآخر، وبالتالي إشكالية كبيرة جدا وأنا أطرح سؤالا في هذا السياق: ما معنى العيش المشترك في ظل القوانين الضاغطة في موضوع الكوفيد 19 مثلا؟ وبالتالي ماذا يعني العيش المشترك إذا كنت تفرض على الانسان الدواء حتى لا يموت؟ فهذا لا يسمى عيشا مشتركا إنه قهر مشترك.
وماذا يمكن أن يقدم الفكر الإسلامي فيما يعرف بـ «العيش المشترك»؟
– إن البشرية وصلت إلى حافة الخطر، فحافة الخطر عند البشرية هو الاشباع، حيث بدأت الحضارة الغربية بتوفير الرفاه والمتعة ووصلت الآن إلى حد الاشباع ونعرف أن الانسان عندما يشبع يطغى، حيث أصبح لا يتلذذ لأنه وصل إلى هذه المرحلة فيبدأ بالتشويه وإحداث أشكال من المتع المشوهة لكي يواصل مرحلة الاشباع، ولذلك جاء ما يسمى بالزواج المثلي وبكسر قيم الأسرة، كل هذه الأمور جاءت لأنهم انتهوا مما أحل الله ودخلوا فيما حرم الله حتى يشبعوا، فماذا يقدم المسلم اليوم للبشرية؟ يجب أن يكون المانع لهذا التوجه لا لضرب الأسرة ولا للزواج المثلي ولا لإبادة الشعوب، ينبغي أن يقاوم المسلم بقوة هذا هو العيش المشترك، وهنا أشير أيضا إلى ما قاله مالك بن نبي بأن الماء لا يسقي الأرض التي تعلوه، فإذا أردنا أن ننفع البشرية ينبغي أن نكون في الأعلى، وإذا كنا في الأسفل لا نستطع أن نسقي الأعلى ولعل تخلفنا نتيجته ما نشاهده في اليوم.
ماهي الحلول القرآنية للإشكاليات الاجتماعية والاقتصادية والفكرية التي تعيشها الأمة؟
– أول حل قرآني هو ربط كل شيء بالله تعالى: «ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين»، أيّ فعل بسيط نقوم به في اليوم نربطه بالله سبحانه وتعالى أولا ثم بالأسباب ثانيا، لكن عندما نلغي ربط الأمور بالله تعالى ونربطها بأمور أخرى كما يسميه علماء التصوف بالأغيار، هنا القضايا تتشتت وبالتالي لا نستطيع أن نتفق أو نتحد، فكل الأنبياء كانت دعوتهم واحدة أن نعبد الله وحده لا شريك له، فربط كل أمور حياتنا بالله وحده هذا هو الحل القرآني الأمثل، ثم يأتي مستوى النموذج ينبغي كذلك أن نعتمد على النموذج النبوي والرسولي، نبدأ بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، ثم بكل الأنبياء الذين ذكروا في القرآن الكريم، فمنهم نموذج للفقير ونموذج للغني ونموذج للنبي الذي تألم كثيرا، ومنهم من سافر طويلا فالرسول صلى الله عليه وسلم وصل إلى السماء السادسة، فمثلا نلاحظ سيدنا سليمان عليه السلام كان أغنى الناس، وهذا حتى لا يأتي بعده غني ويقول لنا: لدي كذا وكذا إذن لا أحتاج إلى أن أؤمن بالله. الحل الثاني يكمن في هذه النماذج الرسولية النبوية المستمدة من القرآن الكريم، على الأقل هذان الحلان الأولان، ثم تأتي حلول عملية جاءت في كلام الله سبحانه وتعالى منها ما عالجها مالك بن نبي في بعض دراساته العميقة حول مسألة التغيير.
يرى البعض بأن الفكر الإسلامي اليوم في مرحلة تراجع وركون إذا ما قورن بالقرن الماضي زمن مالك بن نبي وسيد قطب وغيرهم، مارأيك؟
– اذا قارننا زمننا بزمن مالك بن نبي وغيره لا أظن أنه في تراجع هو في حالة مستقرة، لكن اذا قارناه بعصر الازدهار الإسلامي وما سمي بعصر الموحدين مثلا وقبل ذلك عصور الأئمة فنحن الآن في أسفل السلم مقارنة بهذه العصور المتطورة، والسبب متعلق بالاستعمار، فكل الدول الإسلامية كانت مستعمرة، وبالتالي الطريق لا يزال طويلا نسأل الله سبحانه وتعالى أن يثبتنا، فلا أظن أنه في تراجع إنما هناك نوع من فوضى الفكر، والقضية تحتاج إلى أن نضع جسورا ما بين هذه الجهود. المشكلة اليوم تكمن في وجود جهود فردية على مستوى الفرد، وجهود فردية على مستوى الدول والأمم والمجتمعات، يعني هذه الفردانية لا تزال تقتل الفكر الإسلامي، فلو ربطنا الجسور فإن النتائج ستبدو بإذن الله سريعا وايجابية، وستكون أفضل بكثير حتى من زمن المفكر مالك بن نبي لأن وسائل التواصل اليوم أكثر توفرا وفعالية.
هل ترى أن المفكر المسلم اليوم يعاني التهميش؟ وكيف يمكنه أن يسترجع مكانته الهرمية؟
– أولا ينبغي أن نعلم بأن ضرب المفكرين والرموز ليست عملية عفوية، فلما يُسبّ شيخ معين أو عالم معين فالأمر ليس عفويا، توجد الآن مؤسسات مهامها أن تُبقي الشباب في تيه وتضرب برموزهم، فعندما تُضرب هذه الرموز يبقى هؤلاء الشباب يشكون في كل شيء، فأرى أن هذه العملية منظمة، لكن لا أعفي المشتغل بالفكر أو المفكر أو العالِم عن هذا لأني أعتقد أن بداية التغيير تكون من العالِم، ينبغي أن يكون فاعلا وليس مفعولا، إذا بقي العالِم اليوم ينتظر أن يُعطى له أو أن يُحترم فأعتقد أنه لم يصل بعد إلى الدرجة الكافية من العلم، ففي سنة 1931 رجال جمعية العلماء المسلمين لما استيقظوا وُلدت ثورة نوفمبر 1954 التي انتهت باستعادة الحرية والاستقلال، فالبذور والجذور وضعت سنة 1931 عندما استيقظ هؤلاء العلماء، ينبغي أن يستيقظ المفكر وأن يساهم ولو بتعليم إنسان واحد أو إنشاء مدرسة واحدة أو بتأليف كتاب واحد بنية خالصة لله سبحانه وتعالى، أما أن يدعي بأن جهات أخرى أقصته أو همشته، هنا لا يزال مفعولا به والمفعول به لا يرقى لبناء الحضارة.
ماهي مشكلات الفكر الإسلامي؟ وماهي التحديات المعاصرة التي تواجهه؟
– أول مشكلة اليوم هو التسارع يعني لا تكاد تستوعب ظاهرة حتى تولد ظاهرة أخرى، وثاني مشكلة هو ما يسمى بوسائل التواصل العولمي، الفكر الإسلامي لم يستوعب هذه السرعة، وأظن أن الأمور سريعة جدا والفكر الإسلامي اليوم متوقف نسبيا أو أصيب بنوع من الدوران، وثالث مشكلة هو ما يسمى بسجن العالِم الإسلامي في قوانين ظالمة دولية لأن العالِم ليست له الحرية ليسافر إلى كل الدول ويلتقي بكل العلماء ويشارك في كل المؤتمرات، العالِم في الدول الغربية يسافر بلا قيود، لكن في الجهة الأخرى من العالم الإسلامي أقيم له نوع من السجن الكبير فإذا أردت أن تسافر فالتأشيرة وتذكرة الطائرة تستغرق وقتا طويلا، هذا السجن الذي دخلنا فيه عزلنا عن حركية العالم، وبالتالي هذه من المشكلات الكبرى التي ينبغي أن نتنبه إليها ولا أعتقد أنها عفوية بل خُطط لها تخطيطا كبيرا جدا.
ماهي أهم القضايا الفكرية التي تشغلكم حاليا؟
– أهم قضية تشغلني هي العلاقة بين الفكر والفعل، سافرت إلى العديد من الدول أبحث حول هذا الموضوع، كما أهتم اليوم كثيرا بقضية: كيف نُخرج التربية من سجن النمطية؟ لأن التربية مهمة والمدرسة ضرورة ولكن إذا دخلت في مصطلح النمطية ستصبح على هامش التاريخ، فالتلميذ يدرس في المدرسة شيئا ويعيش في الواقع شيئا آخر. نريد أن نخرج المدرسة من صيغتها النمطية إلى صيغة منتجة ومبدعة، القضية قضية عميقة جدا وتشغلني في الكتابة والتأليف وتشغلني كذلك في الممارسة من خلال المدارس العلمية والجامعة الخاصة «المعهد العالي للعلوم» وغيرها، والقضية الثالثة تكمن في كيف نبني عقلا جمعيّا؟ كيف يمكن أن نعمل مع بعضنا البعض ولا نقصي أحدا؟ كيف نأتي بفكرة تجميع القوة والطاقة ما دام ديننا يقول: «وإياك نعبد وإياك نستعين»، ولا نقول: أعبدك أنا بل نحن، فكيف نعود إلى هذه الحالة الطبيعية المسلمة.
أنت صاحب مبادرة «وسام العالم الجزائري» حدثنا عن خلفية وسر هذه الفكرة، وحدثنا ايضا عن الطبعة الـ12 لسنة 2021م؟
– كرّم معهد المناهج سنة 2007 الشيخ أبو القاسم سعد الله في حفل افتتاح المعهد الذي نُظم بعد عام من التأسيس الذي كان سنة 2006، فقلنا أنه لابد بالمناسبة تكريم أحد أعلام الجزائر الذين خدموها، فكرمنا الشيخ أبو القاسم سعد الله على قامته ودائما نقول أنه هو الذي كرمنا ولسنا من كرمناه، وقد كان يقول رحمه الله أثناء مرضه: «أخذت أوسمة عديدة عبر العالم وأعظم وسام هو الذي أخذته في وطني»، ومن هنا شعرنا بالمسؤولية، فالجزائر لها الكثير من العلماء مثل أبو القاسم سعد الله، فبدأت الفكرة تكبر بدأنا بـ70 شخصا، ووصلنا هذه السنة إلى أكثر من ثلاثة ألف شخص، وسبحان الله في كل مرة نكتشف بأن لهذا الوطن علماء كثر كالدكتور عبد الرزاق قسوم، الشيخ الهادي الحسني، الدكتور محمد ناصر تومي، بلقاسم حبة وغيرهم كثيرون. ومبادرة «وسام العالم الجزائري» تعمل على عدم تفريق ما بين العلوم الإنسانية والعلوم الدقيقة وعدم التفريق بين المقيمين في الوطن أو خارجه، ميزاننا واحد هو أن يكون أصيلا في علمه ومحبا لوطنه، هذا هو معيار العالم، إذا لم يكن محبا لوطنه فليكن ما يكن لا يهمنا، وإذا لم يكن أصيلا في علمه لا يهمنا أيضا، الحمد لله وصلنا هذه السنة إلى الطبعة 12، حيث سيقام حفل تكريم الدكتور نصر الدين سعيدوني وابنه الدكتور معاوية سعيدوني بوسام العالم الجزائري في 17 ديسمبر 2021م بالمركز الدولي للمؤتمرات عبد اللطيف رحال.
شكرا لك دكتور، كلمة ختامية، قل ما شئت ولمن شئت؟
– أقول لكل جزائري كلمة بسيطة جدا أحبَّ وطنك وأحبَّ أرضك، ينبغي أن نحب هذا الوطن وأن لا نتعامل معه بتشنج، لأنه يحتاج إلى بذرة حب، فبهذا الحب بإذن الله تعالى سوف تعالج كل الأمور، فأحبوا وطنكم الجزائر، هذه هي النصيحة الوحيدة التي أخاطب بها كل جزائري أصيل.