ماسينيون في ذكراه!

يكتبه د. محمّد قماري/
كتبت منذ أسابيع مقالاً (على هامش مالك بن نبي)، ونشرته أسبوعية (البصائر)، وذهبت فيه إلى تقرير أن الأفكار المبثوثة في كتب بن نبي، رحمه الله، هي المتن الذي يربط جمهور القراء بتلك الشخصية الفذة، ومع ذلك المتن ترك لنا بن نبي ما يمكن أن نطلق عليه (هامشا) أو بلغة القدامى حاشيّة تشرح تاريخ نشوء تلك الأفكار وارتقائها عبر الزمن والملابسات التي عاشها صاحبها.
ولعل كل من يطلع على تلك الحاشيّة، يلمح حضور شخصيّة مؤثرة وضاغطة في حياة بن نبي، وهي شخصية المستشرق ورجل المخابرات لويس ماسينيون (1883- 1962)؛ وتضم تلك الحاشيّة مذكراته التي نشرها في حياته (الطفل والطالب)، وبعض متعلقات تلك المذكرات التي نشرت بعد وفاته، ومنها كتاب (العفن) والجزء الثالث من المذكرات (الكاتب) و(اليوميات)…
ولشدة حضور تلك الشخصية في حياة بن نبي، ربما ذهب الخيال ببعض القراء إلى اتهام بن نبي بالوسواس القهري المؤسس على عصاب (المؤامرة)، ولا أكتمكم سرًا فلقد كنت واحدا من هؤلاء، فإن لم أبلغ حد اتهام الرجل بالمرض، فقد انساق خيالي وراء تفسير المبالغة، إذ كيف يعقل أن يتقفى ماسينيون، وهو من هو في الثلث الثاني من القرن العشرين، شابًا جزائريا وطالب علم يعيش على الكفاف، يتعقبه في دراسته وفي قوت يومه، ويرسل أخطبوط شره في التضييق عليه إلى مدينة تبسة، فيحرم والده من وظيفته لأنه أحد مصادر تمويله؟
بدا الأمر عصيًا على الفهم بله الاقتناع، بل إن الأمر يبدو أشدّ إثارة وتعقيدا، عندما يعزو بن نبي تحطيم أستاذه ورفيقه حمودة بن ساعي لهذه اليد الخفيّة الجلية يد ماسينيون! لكن على الضفة الأخرى نجد أن ماسينيون على الرغم من كتاباته الكثيرة لم يأت على ذكر مالك بن نبي، بل ذكر حمودة بن ساعي مرتين على الأقل، معتبرا إياه في إحداها: «رجلا يفكر، ويعيش حياة عزلة شديدة، لكنه يعتبر من رواد معارضة الفرنسة في الجزائر».
ومن سخرية القدر أن رجل الظل هذا الذي قضى حياته مجندا في (المصالح الخاصة)، يناضل من أجل احتفاظ فرنسا بـ(الفردوس الجزائري)، قد أمهله القدر بضعة أشهر ليرى جنود الاستعمار ومن ورائهم (الكولون) يغادرون الجزائر…ومن سخرية الأقدار أيضا أن يوم وفاته في 31 أكتوبر 1962، وهو اليوم ذاته الذي سيشهد رحيل (خصمه العنيد) مالك بن نبي بعد إحدى عشر سنة ذات خريف من سنة 1973.
والحقيقة أن ماسينيون ينتمي إلى جيل كامل من المستشرقين، منخرط في منطق (الدولة العميقة) في أوربا عامة وفي فرنسا على وجه أخص، تشكلت منهم طلائع الاستعمار الحديث، حيث تلقوا جميعا تكوينا (خاصا) يؤهلهم لمعرفة العالم الإسلامي، ففضلا عن تعلمهم اللّغة العربيّة، والتي من خلالها ينفذون إلى معرفة دقائق الثقافة الاسلامية، واستكشاف تنوع وتباين النسيج الاجتماعي، ومن ثمَّ ايجاد الثغرات لزرع التناقضات والاختلافات، سواء على أساس اثني أو اقتصادي، فإن بعضهم كماسينيون يقدم نفسه كمختص في (التنسك) والروحانية في الثقافة الإسلاميّة.
كان فنتور دي برادي وفولناي قد سبقوه على هذا الطرق في القرن الثامن عشر، غير أن ميزة ماسينيون تتمثل في انخراطه الواضح في عمل (المصالح الخاصة) الاستخباراتية، فغداة اندلاع الثورة التحريرية قذف بتلميذه الرائد فانسون منتاي (Vincent Monteil)، وهو من المعربين، في ديوان الحاكم العام في الجزائر جاك سوستال، والذي عمل كل ما في وسعه من اتصالات وخطط، عساه يجد مخرجا يبقي على وجود فرنسا في الجزائر.
إن الوثائق التي تركها ماسينيون، تعزز بما لا يدع مجالا للشك، كل هواجس بن نبي في تعقبه لكل نشاط الجزائريين، وعمله الدؤوب في خنق كل أفكار التحرر أو تلمس سبل النهضة الحقيقية، فالمصالح الاستخباراتية كما تقول تلك الوثائق، لديها خريطة وملفات شخصية عن كل شخص يتحرك في الفضاء الفرنسي، ابتداء من معرفة أصوله في الجزائر وصولا إلى نمط حياته الاجتماعية والاقتصادية على التراب الفرنسي.
تلك الوثائق تحدثنا عن عدد أبناء منطقة القبائل العاملين في قطاع الميكانيك، وعدد المتزوجين منهم، ومن جاء بزوجته من تزوج بفرنسية، ومن يعيش مع فرنسية خارج إطار الزواج، ثم الوافدين من الجهات الأخرى من الجزائر، وتخصيص منطقة القبائل بوصفها الجالية الأكثر عددا؛ وللرجل اهتمام خاص برواد الحي اللاتيني، حيث طلبة جامعة السربون، وذاك مخبر آخر له ميزته في رصد أفكار الجيل الجديد واتجاهاتهم.
لقد استطاع ماسينيون حقا أن يجعل من رجل كحمودة بن ساعي يتوارى عن المشهد العام، لكنه دفع بن نبي إلى المواجهة والتحدي.