مساهمات

رسالتان هامّتان للشّيخ محمد البشير الإبراهيمي في التنظيم الإداري

أ. محمد بسكر/

تحدّثتُ سابقا عن الأستاذ «طاهر الطاهري» في مقالي الذي نشرته جريدة البصائر تحت عنوان «يوميات طالب في الجامع الأخضر»، عرّفت به وبدراسته وملاحظاته التي سجّلها عن النّظام الدّاخلي لطلبة الإمام عبد الحميد بن باديس، وكيفية نزوله تلميذا بالجامع الأخضر سنة 1936م، حيث أصبح أحد العرفاء المسؤولين على فوج من الطلبة يبلغ تعداده 40 طالبا، كان للعرفاء اِجتماعات دورية توجيهية مع الإمام ابن باديس في حُجرته بالجامع الأخضر، لقد ربّى فيهم مفهوم العمل المنظم، والالتزام الصّارم بالقوانين، فهو كما وصفه «الطاهري»: «نراه يقف معنا في أوقات الدّراسة، وفي خارجها موقف الضابط العسكري، يطبق القوانين بقوّة وحدّة»، وهذه القيم النبيلة التي نشأ «الطاهري» عليها في المدرسة الباديسية، صاحبته في مسيرته وحياته العلمية والسّياسية، ومنذ تخرّجه من جامع الزيتونة سنة 1946م، عاد إلى العمل الميداني داخل وطنه مقتنعا بمبادئ الجمعية، وعضوًا عاملًا فيها.
صارت رئاسة الجمعية بعد وفاة الشّيخ عبد الحميد بن باديس للشيخ محمد البشير الإبراهيمي، وقد تضاعفَ جُهد أعضائها التربوي والتعليمي والسّياسي، لسد الفراغ الذي خلّفه وفاة الإمام، وازدادت وتيرةُ عمل مكتبها في عقد الاجتماعات والتّنسيق بين المقاطعات، وتأسيس المدارس، حتى وصلت ذروتها سنة 1944م، فبلغت ثلاثا وتسعين مدرسة في المدن والقرى الجزائرية.


قسّمت إدارة الجمعية القطر الجزائري إلى ثلاث عِمالَات (قسنطينة، الجزائر، وهران)، والأستاذ «الطاهري» نشط في عِمالة الجزائر، التي ضمّت شخصيات مسؤولة وبارزة في العمل الإصلاحي، أمثال عبد اللطيف السلطاني، وأحمد سحنون، والربيع بوشامة، وأبو بكر الأغواطي، وعلي شنتير وغيرهم، فكان من عمداء المكتب الدّائم للجمعية، حيث استمرت عضويته فيه إلى غاية بداية ثورة التحرير، مُكلّف من رئاستها بالإشراف على ناحية سيدي عيسى، وبوسعادة وأعراشها، إضافة إلى بلدة سور الغزلان. عُرف عنه الانضباط والالتزام بقرارات الجمعية، لا تفوته اجتماعاتها، ففي مذكراته التي خصّصها لسيرته الذّاتية، نقل فيها مُحادثته مع الشّيخ عيسى بن السعيد بن عليه الإبراهيمي، وهو أحد أعضاء جمعية العلماء الأوائل، وقد زاره أثناء مرضه الذي توفي إثره، وكلّمه عن الاجتماع العام للجمعية الواقع بتاريخ 21 جويلية 1946م ودام ثلاثة أيام، وحضره «الطاهري» وغاب عنه الشّيخ «عيسى»، فتأسّف الأخير لعدم تمكّنه من الحضور، وقد أخبره «بمقررات الجمعية، وما هي عازمة على تنفيذه من أعمال بنّاءة في تأسيس المدارس الحرّة، ونشر اللّغة العربية، وتكوين الشّباب الجزائري على مبادئ الإسلام الحنيف»، وقد بادر الشّيخ «الطاهري» في السّنة نفسها إلى تأسيس مدرسة «التهذيب» ببلدة سيدي عيسى، والتي صادفت عقبات كثيرة من المناوئين للجمعية.
كان «الطاهري» لا ينقطع عن كتابة التّقارير وإرسالها إلى الإدارة، ولكن من المؤسف له أنّ مراسلاته مع أعضاء الجمعية ضاعت مع وثائقه الكثيرة أيّام حرب التحرير، بما تحتويه من معلومات تاريخية وقوائم للطلبة، ولم يبق منها إلّا النّزر القليل، منها رسالة من الشّيخ خير الدّين البسكري، مبعوثة للأستاذ «الطاهري» بتاريخ 11 أوت سنة 1950م، جاء في نصّها: «..وبعد: الرّجاء الأكيد أن تحضروا اجتماع المعتمدين يوم الأحد 20 أوت، لنطبق معًا قرار المعتمدين لجمعية العلماء المنعقد أخيرًا بقسنطينة، تحت رئاسة نائب رئيس الجمعية الشّيخ العربي التبسي، ولأهمية هذا الاجتماع، لا يجوز التّأخر عن الحضور».
مراسلات محمد البشير الإبراهيمي كثيرة، سواء داخل الوطن أو خارجه، وقد أُدرج بعضها في آثاره المطبوعة، يقول نجله الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي: «وهكذا من 1948 إلى 1951 أملى عليّ مئات الرّسائل، كانت في البداية مقتصرة على أصدقائه: محمد نصيف بجدة، تقي الدّين الهلالي ببغداد، محمد بهجة البيطار بدمشق، إبراهيم الكتّاني بالمغرب الأقصى.. ورسائل إلى مصطفى النّحاس، رئيس وزراء مصر، وطه حسين وزير المعارف سنة 1950م»، وهي تمثّل رصيدا تاريخيا، تثبت جهده الفكري والعلمي والسّياسي، وتتجلى للقارئ من خلال نصوصه وثائقه، «صورة واضحة عن تاريخ الجزائر الحديث، من ليل طويل للاستعمار الذي استولى على الأرض، وأراد استعباد أهلها، واقتلاعهم من جذورهم الضاربة في أعماق التاريخ، إلى تصدي الحركة الوطنية- وجمعية العلماء جزء منها- لتلك الممارسات وامتداداتها»، غير أنّ آثاره التي جمعها نجله خلت من رسائله الإدارية التنظيمية الموجهة للعمداء وأعضاء الجمعية، وللشخصيات الوطنية والسّياسية، وأهميتها تكمنُ في أنّها ترسم الخطوط العريضة للسياسة الدّاخلية التي انتهجتها الجمعية بعد أحداث ماي 1945 إلى غاية سنة 1950م.
ومن رسائله التنظيمية التي اطّلعت عليها، رسالتان هامتان بينه وبين الأستاذ طاهر الطاهري، صدرتا في شهر جانفي من سنة 1947م، تظهر من محتواهما شخصية الشّيخ محمد البشير الإبراهيمي القويّة، وجدّيته في العمل الذي انتهجه، وحدّته في تطبيق القرارات، وعدم تضييع الوقت، وأهمية انتهاز الفرص في توسيع نشاط الجمعية واكتساب المزيد من الأنصار إليها، كما أنّه متابع جيّد لأعضائها الموزّعين على المدن، يتحسّس أخبارهم، ويشجّعهم على العمل أكثر، لقد تجلّت فيه معاني القيادة الواعية التي تؤمن بالعمل المنظم، وهو باختصار كما وصفه الشّيخ «العربي التبسي»، «فلتة من فلتات الزمان، والعظمة أصلٌ في طبعه».
1 / الرسالة الأولى: مؤرّخة بتاريخ 24 جانفي 1947م وهي بخطّ الإبراهيمي، ما يفهم من نصّها، أنّها تمثل جوابه على مراسلة سابقة للطاهري، شكره فيها، ودعا الله أن يبارك في عمله وعمره، وقدّم له جملة من النصائح منها:
• حثّه على الصمود والثّبات؛ لأنّ الجمعية في مسيرتها الطّويلة تعرضت لضغوطات كثيرة من إدارة الاحتلال وأعوانها، فكانت مدارسها وصحفها ونواديها عرضة للغلق، والبيئة التي يعمل فيها «الطاهري» ملآى بالتيارات السّياسية والفكرية، وخاصة أتباع الطّرق، فتعرّض للنّقد من المتخاذلين، وللدّسائس المحبطة للهمم من الحاقدين، فشكا للإبراهيمي ما طاله من المناوئين للحركة الإصلاحية، فردّ عليه بقوله: «أمّا التّحرشات التي بدت لكم، فهي شيء ضروري لابد منه».
• وجَّهه إلى عدم الاعتناء بتعليم الصبيان وتربيتهم فقط، وإنّما ضرورة تركيز الجهد على الكبار، لأنّ ثمرة تربية الصّغار وتعليمهم تظهر بعد أمد، والمرحلة الآنية تقتضي جلب المناصرين الذين تحتاجهم الجمعية في نضالها ومجابهتها لسياسة المستعمر، فقال له: «واخدموا عقول الكبار، قبل تعليمكم الصغار»، وهي حيثية هامّة في العمل الإصلاحي، تندرج في باب ترتيب الأولويات، أشار إليها الإبراهيمي في مقاله عند حديثه عن الأمية، فقال:« هنا يتشعب العمل أمام جمعية العلماء؛ لأنّه كما يجب عليها أن تعالج الكبار من داء الأميّة، يجب عليها أن تحمي الصغار المعرّضين لغوائلها وفتكها».
• كان من قوانين الجمعية الاهتمام بالتّنظيم المادي، وضبط الحسابات المالية، وتغطية نفقات المدارس الحرّة التّابعة لها، وفي هذه الرسالة يظهر حرص الإبراهيمي على متابعة نفقات الأساتذة العاملين، فالشّيخ «الطاهري» المكلف بتسيير مدرسة التّهذيب، لم يقبض راتبه منذ إنشاء المدرسة، وكذا رفاقه في التّدريس «الذين استجابوا لدعوتي –كما قال- بل لدعوة جمعية العلماء، في بيئة فقيرة ماديا وفكريا»، وقد استجاب رئيس الجمعية لندائه، فرّد عليه بقوله: «مرتبكم الواجب، فصل فيه كاتب المركز بكتاب إلى الجماعة…وإذا رأينا الحالة تقتضي الزّيادة فإنّنا نزيد».
2/ الرسالة الثانية: مرسلة بتاريخ27 جانفي 1947م، والنقاط الأساسية التي يمكن استخلاصها من نصّها تتمثل فيما يلي:
• تحدث الإبراهيمي عن سروره بالأعمال الجليلة التي يقوم بها «الطاهري» في بلدة «سيدي عيسى»، والتي من بينها تأسيسه لمدرسة التهذيب، وتنظيم دروس الوعظ والإرشاد ببلدته.
• أهمية القيام بجولات ميدانية باعتباره ممثلا لجمعية العلماء في منطقة سيدي عيسى، وعين بسام، وسور الغزلان، وبوسعادة، من أجل الوعظ والإرشاد، والاحتكاك بالنّاس والجمعيات.
• عدم تضييع الوقت واغتنام الفرص للدّعاية للجمعية، وشرح مبادئها ونظامها.
• الإكثار من الشُعب، وفتح مكاتب جديدة في القرى، لأنّه زيادة في أنصار الجمعية وأعضائها وماليتها.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com