«التنوير» مرتديا معطف الإلحاد !
أ.د. عبد الملك بومنجل/
يستغرب المؤمن أن يكون بين التنوير والإلحاد صلة؛ ولكن بعض «التنويريين» العرب لا يستغربون ذلك؛ بل يستغربون ربط التنوير بالدين. ربط التنوير بالله. ربط التنوير بالنور!
أفي «التنويريين» العرب من يربط التنوير بالإلحاد ربطا محكما جازما لا يقبل النقاش؟ أجل، هناك؛ أما بعضهم فيصرّح تصريحا لا مزيد عليه، وأما بعضهم الآخر فلا يصرّحون، ولكن يُفهَم من مؤدّى كلامهم وتصورهم لوضع الدين والغيب في هذا الوجود. ولنقتصر اليوم على من يصرّح، ومع ذلك تجد له من المؤمنين، وربما من المتدينين، أنصارا كثيرين!
على هذه الكرة الأرضية كائن بشري سمّاه والداه علي أحمد سعيد، وسمّى نفسَه أدونيس.. في الخروج من الاسم العربي الإسلامي الذي يجمع بين اسم نبي واسم صحابي جليل وخليفة راشد، إلى اسم أسطوري وثنيّ دلالة كافية على منزع الرجل وما سيؤول إليه مذهبه في الحياة وموقفه من الدين. ولكن لا بأس، دعونا من الاسم، ولننظر في جوهر مذهبه الفكري الذي يدندن حوله في جل كتبه، مصرّحا أحيانا وملمّحا أحيانا أخرى..
مذهب الرجل واضحٌ لا غبار عليه. يصرّح به في كل كتاب، بل يصرخ به في كل مناسبة: إحلال الدنيا محل الغيب، وإحلال الإنسان محلَّ الله، وإحلال أصول الحداثة الغربية محلَّ أصول الحضارة الإسلامية، وتجريد الثقافة العربية تجريدا كاملا من أثر الدين وصبغته وتوجيهه. وهو يفعل ذلك باسم الحداثة، والإبداع، والتنوير! وكيف لا يكون الأمر كذلك والسبيل إلى الحداثة والإبداع عنده هو «أن تنتهي هيمنة الدين على المجتمع، وأن تحل محلها هيمنة الحرية والعقل، ويعني ذلك انتفاء الحقيقة القبلية، كما يعلّم الدين، فالحقيقة تالية، إنها تحقق بالعمل، فنحن نتعرف على الحقيقة بالممارسة لا بالنظر أو التأمل، والإنسان، إذن، هو الذي ينشئ الحقائق انطلاقا من فعاليته وممارسته. الحقيقة، بتعبير آخر، تكون ثورية أو لا تكون، من هنا يذكر موقف الرازي وابن الراوندي بما يقوله برودون: من أن الإنسان وجد ليحيا بلا دين، أي فكرة جاهزة مسبقة، مطلقة أو غير مطلقة».
الإنسان في هذا المنظور «الحداثي» هو سيد نفسه، ولا سيادة لله عليه. من ثمة، فعليه أن يتكلم هو ولا يؤسس حياته على ما يسمعه من كلام الله. لقد تأسست الحضارة الإسلامية على كلام الله، وكان ذلك في نظر أدونيس هو الخطأ الحضاري الشنيع: «يبدو في هذا المنظور أن الذي تكلم وكتب في المجتمع العربي هو الله وحده، وأن تراثنا يمثل نوعا من الكتابة الأولى، وكل كتابة يكتبها الإنسان يجب أن تكون شرحا وتفسيرا لهذه الكتابة الأولى».
ولا يَذهبِ الظنُّ إلى أن أدونيس قصد أن المجتمع العربي أعطى لكلام الله مساحة أكبر مما ينبغي، أو اكتفى بترديد كلام الله دون أن يبذل الوسع في فهم أسرار الكون مما لم يُذكَر في كلام الله؛ بل القصد مجافاة كلام الله مجافاة كاملة، والإعراض عن الدين إعراضا تاما؛ فذلك، عنده، هو شرط الحداثة الأول، وفي هذا السياق يتنزّل تنصيبُهُ الإلحادَ أول خطوات الحداثة، وربطُهُ العقلَ بالإلحاد: أي الخروج عن الدين؛ فهو الذي يقول، ممجدا الإلحاد بصراحة لا مزيد عليها: «ليس الوحي وحده هو النافل أو الباطل، وإنما الفكر القائم على الوحي هو كذلك، نافل وباطل. إن هذا النقد يرى في نهاية النبوة بداية الواقع، وفي نهاية النظرية بداية التجربة، فإذ ينتهي الفكر النبوي، يحل محله الفكر الذي يصدر عن التجربة الإنسانية ويتحقق العقل في العالم الواقعي. وهكذا يصبح الفكر انبثاقا من التجربة، لا هبوطا من الغيب. كذلك لا تعود السياسة ممارسة باسم الوحي وشكلا للتصور الديني للعالم، وإنما تصبح ممارسة إنسانية تقوم على العقل.
إن منطق الإلحاد هنا يعني العودة إلى الإنسان في طبيعته الأصلية وإلى الإيمان به من حيث هو إنسان. فمادام الإنسان تابعا للغيب، لا يمكنه بحسب هذا المنطق أن يكون إنسانا. فتجاوز الوحي هو إذن تجاوز لإنسان الوحي، أي تجاوز اللاإنسان إلى الإنسان الحقيقي، إنسان العقل… ولهذا كان الإلحاد توكيدا على إرادة الإنسان الخاصة بحيث يكون عقله، شريعته وقوته. المقدس. بالنسبة إلى الإلحاد، هو الإنسان نفسه، إنسان العقل… إنه يحل العقل محل الوحي، والإنسان محل الله. ومن هنا يقدم الإلحاد نفسه، كنواة لحياة المستقبل وفكر المستقبل»!