تصفية استعمار العقل
أ. عبد القادر قلاتي/
هذه عنوان أحد كتب الروائي الكيني «نغوجي واثيونغو»، الذي أصدره في إطار البحث عن الذات والخصوصية الإفريقية، وإن كان يقصد بتصفية الأفكار والمفاهيم الغربية التي تسربت إلى الأدب الإفريقي، وظلّت تتحكم في مساره الفني والإبداعي، إلاّ أنّها حالة تنسحب على كثير من البقاع التي خضعت للاستعمار الغربي، ليس في الأدب وحسب، بل في مجمل الانتاج الفكري والابداعي الذي ينسب إلى الجغرافيا الاستعمارية، التي لم تتمكن بعد من تصفية الاستعمار بكلّ ترسانته المعرفية، وهذا الروائي الذي كان يكتب باللغة الإنجليزية، تحوّل للكتابة بلغته الأم (الكيكويو)، وهذا التحول يختصر معنى التصفية التي يدعو إليها في كتابه: «تصفية استعمار العقل» وهو كتاب مهم جداً صدر منذ عشر سنوات ونقله إلى العربية الشاعر العراقي سعدي يوسف، وأنا لست بصدد عرض الكتاب، وإنمّا عنوان الكتاب أوحى لي بفكرة هذا المقال (العمود الأسبوعي)، كمدخل لموضوع ضرورة المفاصلة مع الاستعمار، لتحقيق معنى الذات الحضارية، والاستقلال الموضوعي الذي يفضي إلى حالة من إبراز الخصوصية الفكرية والإبداعية، وأولى دراجات هذه المفاصلة، التخلص تماماً من الكتابة بلغة المستعمر، والحرص على الكتابة باللغة الأم مهما كان وضعها التاريخي والمعرفي، كيف ولغتنا العربية من أكثر اللغات استيعاباً وتعبيراً عن الأفكار، وثراءً منقطع النظير، إذا قيست بلغات الدنيا كلّها.
لو أخذنا بلدنا -الجزائر – كمثال عن البلدان التي مازلت تستخدم لغة الاستعمار في حياتها العامة، في التعليم والإدارة، والإنتاج الفكري والمعرفي، لوجدنا حالة من التناقض العجيب، تختصر الكثير من التحليل والقراءة للوضع اللغوي في الجزائر، فما نراه من مزاحمة واضحة للغة المستعمر على حساب اللغة الأصليّة والرّسمية، يجعلنا نؤكد على ضرورة تصفية ثقافة الاستعمار من العقل الجزائري، الذي لم يعد يملك القدرة على التفكير خارج سياجها -أي الثقافة واللغة الفرنسية- المحكوم بالتاريخ الطويل من العلاقات المعقدة بيننا وبين المشروع الاستعماري، الذي حمل –منذ دخوله بلادنا- مشروعا واضح المعالم والأهداف، وهو إزاحة الثقافة العربية الإسلامية، لإعادة إنتاج مجتمع بلا هوية وبلا ثقافة وبلا تاريخ، حتى يتمكن من استثمار هذه الجغرافيا الواسعة؛ في تمدد امبراطوريته الاستعمارية الكبيرة، فكان لزاماً عليه أن يمحوَ أثر الخصوصية الحضارية للشعب الجزائري، وهو الإسلام ثمّ اللغة العربية الحاوية للأفكار والمفاهيم المعبرة عن هذا الدين، فكانت جهود المستعمر كلّها ضدَّ اللغة العربية.
واضح من كلّ هذا أنّ استعمار العقل أشدّ خطورة وتأثيرا على الهويات، والخصوصيات الحضارية للعالم الثالث الذي خضع كلّه -تقريبا – للاستعمار الغربي، وربما لا يختلف اثنان على أنّ أغلب هذه البلدان المُستَعمَرة لم تتمكن من تصفية استعمار العقول رغم أنّها قامت بثورات ونضال طويل من أجل التخلّص من الوجود العسكري لهذا المُستَعمِر، لكنها -للأسف- لم تتخلص من ثقافته ولغته ونموذجه الحضاري في المجتمع والدولة، وفي الحياة عامة، وهذا هو عين تخلفنا واستحالة نهوضنا. والله المستعان.