في الذكرى الأولى لرحيل العبقري الملهم..

مداني حديبي/
كنت غالبا ما أصلي الجمعة بمسجد النخلة ببوسعادة ذاك المسجد العتيق الذي بني منذ ثمانية قرون يختزن في ذاكرته مسيرة أجيال طاهرة مباركة متعاقبة فكأن أنفاسهم الزكية فاض بها المكان
فإذا الصلاة غير الصلاة والتلاوة غير التلاوة..تشعر بالصدق والقرب والعمق.. وبعد الصلاة ألتقي بذاك العبقري الملهم والذكاء الحاد والبيان الرصين والتحليل الدقيق والكرم الدفاق والقلب الزكي المبارك والابتسامة الصافية النقية..
ونجلس في بيته فيغدق علينا بكل جماليات الذوق وألوان الكرم.. فيحضر معنا المتنبي بأشعاره البديعة والبحتري وابن الرومي والفرزدق وجرير والأخطل ودرويش ونزار قباني وغيرهم.. كان ذاك العبقري يحفظ ديوان المتنبي ويحدثنا بالتفصيل عن سر تفوقه وابداعه وكيف استطاع المتنبي جمع أنواع الكسور الجبرية في أبيات من شعره، ثم يحلل لنا الأحداث والأفكار بموضوعية وتجرد ونقاء بعيدا عن التعصب المذموم والخلفيات المسبقة..
كانت كلماته وأشعاره وأفكاره وعبقريته تنحت من قلبه نحتا..لهذا أصحاب هذه الحدة في الذكاء واللوعة في البيان والدقة في التحليل لا يعيشون طويلا..
النحت من القلب معناه أن القلم يغمس في القلب غمسا قبل أن يكتب…وتقتات حروفه من اللحم والدم… وكلماته ومعانيه هي عصارة الروح حينما تذوب…وغالبا ما يتوفى أصحاب هذه الأقلام في ريعان الشباب.. من أمثال الشابي وهاشم الرفاعي وقبلهما الشاعر أبي تمام الذي قال فيه الكندي..إن هذا الرجل لن يعيش طويلا لأنه ينحت من قلبه..لما سمع أبياته البديعة الجميلة القوية:
لا تنكروا ضربي له من دونه مثلا شرودا في الندى والباس
فالله قد ضرب الأقل لنوره مثلا من المشكاة والنبراس.
وفعلا.. توفي وعمره ثلاث وأربعون سنة.. والشاعر الكبير أبو القاسم الشابي الذي كانت حياته بين المسجد والقضاء والبيت وتأمل الجمال والذوبان في سحره وبدائعه.. وعاش أقل من أربع وعشرين سنة..
كان ينحت من قلبه نحتا…وينزف ليكتب… العبقري الملهم..الحبيب عبد الله حديبي.. الذي ترك في قلوبنا حزنا لم ينقطع يوما.. كان يجمع بين المتناقضات العجيبة.. بين الرياضيات المالية والشعر الفياض وبين الشطرنج بفنونه وتاريخه وعالميته واللغة بفصاحتها وتأنقها ودلالها وجمالها…حكى لي يوما عن قصته مع الشعر والشعراء.. وكيف ترك الالقاب الفخمة والمواقع المتقدمة وبريق الشهرة وكان بإمكانه أن يكون في المقدمة والصف الأول..لكنه اختار أن يكون متجردا مغمورا على أن يكون طماعا مشهورا.
ومن الذين لا ننسى فضلهم مدير جريدة البصائر الذي احتضن مقالات الأستاذ عبد الله حديبي واحتفى بها في كل مرة..فلا يعرف لأهل الفضل فضلهم إلا ذوفضل..
رحل العبقري الملهم قبل أن يودعنا وفي صدره مشاريع كتب ودواوين شعر وخطط شطرنجية عالمية..
ولولا قدر الله المسطور لقلنا إنه استعجل بالرحيل ولم نشبع من رؤيته وجلساته وكتاباته ومرحه ..
فاللهم ارزقه الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين..