مساهمات

الخلفية السوسيواقتصدية للأوعية الضريبية و دورها في تحقيق التنمية

د. مشتة ياسين *

تعتبر الضرائب أهم أدوات السياسة المالية، وتعد القــدرة علــى تحصيــلها أمــرا أساســيا لتمويــل الخدمــات الاجتماعيــة مثــل الصحــة والتعليــم والبنيــة التحتيــة وغيرها، وأحد الوسائل التي يمكن استخدامها للتأثير على الواقع الاقتصادي وتوجيهه وتحقيق التنمية التي ترتبط بمدى قدرة الدولة على تعبئة مواردها المحلية من خلال توسيع القواعد الضريبية، وتقليل التهرب الضريبي، وإيجاد مصادر جديدة للدخل واستغلال الموارد الطبيعية خاصة في الدول النامية التي لا تحصل في العادة إلا على 15 %فقط من إجمالي الناتج المحلي في شكل ضرائب، مقارنة بنسبة 40 % في الاقتصاد المتقدم.
تفرض الدول مجموعة من الضرائب المباشرة وغير المباشرة بهدف تأمين أكبر حصيلة ضريبية لتغطية النفقات العامة، لكن قد تكون الضريبة ذات حصيلة عالية كالضرائب على الدخل غير أن الآثار الاقتصادية الناتجة عنها غير مرغوبة، فمثلا فرض ضريبة على مدخرات المواطنين قد يوفر للدولة حصيلة كبيرة ولكنه في الوقت ذاته سيدفع المواطنين لإخفاء مدخراتهم وإبعادها عن النشاط الاقتصادي، ومن الممكن أن تؤدي الضرائب إلى تراجع الأفراد عن العمل وبالتالي تناقص الإنتاج، وعرقلة النمو الاقتصادي، وخاصـة إذا تجاوز هذا العبء الطاقة الضريبية لأفراد المجتمع، وهذا ما دفع بعض الحكومات إلى تخفيض أو إلغاء الضرائب من أجل رفع الحصيلة الضريبية، من هذا المنطلق يمكن حصر الأهداف العامة للضريبة فيما يلي :
– هدف مالي : ويتمثل في تغطية النفقات الخاصة بالدولة أي تحقيق الموازنة العامة، باعتبار أن الضريبة جزء من إرادات الدولة التي تقابل نفقاتها و تعمل على تغطيتها.
– هدف اقتصادي: حيث تستخدم الضريبة كأداة في التقويم الاقتصادي، ففي حالة التضخم يتم رفع نسب الضرائب بغية امتصاص الكتلة النقدية، وفي حالة الانكماش يتم تخفيض أسعارها مع زيادة التحفيزات والإعفاءات الجبائية لتنشيط الاستثمار.
– هدف اجتماعي: باعتبار أن الضريبة يتم فرضها على أصحاب المداخيل المرتفعة ليتم توزيعها على أصحاب المداخيل المنخفضة وهو ما يساعد على زيادة العدالة الاجتماعية.
حتى تتحقق الأهداف الضريبية ينبغي أن ينتشر الوعي الضريبي والمتمثل في الإدراك الـكامل مـن قبل الأفـراد لمسؤولياتهم المـالية إزاء المجتمع والــدولة، وكلما نضج شعــور أولئك الأفــراد بواجباتـهم نحو المجتمع وكلما كانت ثقتهم كبيرة بالحكومة، كلما أقبـلوا على دفع الضرائب مختــارين.
لا يختلف اثنان في كون ارتفاع وعي المكلفين يدفعهم إلى الدفع الطوعي للضريبة وبالتالي زيادة الحصيلة الضريبية، عن طريق إيقاظ فكرة الواجب الضريبي، ونشر فكرة التضامن بالتذكير بالمكاسب والمنجزات التي حققتها الدولة لهم، على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي لإرساء الثقة بين الإدارة والمكلف، فالدولة ممثلة بأجهزتها يجب أن تعمل على القضاء على المحسوبية، وعليها محاربة تبديد الأموال العامة والوصول إلى العدالة الاجتماعية لتوزيع الدخول والثروات. ويجب أن ترتكز العلاقة بين المكلفين والإدارة الضريبية على دعائم الثقة والتعاون والمسؤولية المشتركة في سبيل النفع العام.من هذا المنطلق تهدف الضريبة إلى توفير الأموال مـن أجل تغطية النفقات العادية وأداة فعالة للتأثير في المجالات الاقتصادية والاجتماعية، وتحقيق التنمية، ويتم ذلك كما يلي:
– عندما تفرض الضريبة على قطاع اقتصادي ما بمعـدل مـنخفض أو يكـون الإعفاء فيه واسع يوجه المكلفون استثماراتهم نحو هذا القطاع لأنه ذو ربحية أكبر. كذلك تكون الضريبة أداة فعالة لمنع توظيف رؤوس الأمـوال فـي القطاعـات الإنتاجية الخاضعة لمعدل ضريبي مرتفع.
– إذا فرضت الضريبة على الإنفاق الاستهلاكي للمكلف ذو الدخل المحدود، فـإن ذلك سيؤدي به إلى التخفيض من استهلاكاته للسلع التي يتصف الطلب عليها بالمرونـة العالية كالسلع الكمالية ويتحول نحو السلع التي يتصف الطلب عليها بعدم المرونة.
– فرض الضريبة سيؤدي إلى تخفيض المداخيل المتاحة للادخار لدى الأفـراد، وهذا يعني أنه سيؤدي إلى إنقاص مدخراتهم.
– تؤثر الضريبة في القوة الشرائية للفرد وإنتاجيته، كما تؤثر الضرائب في الرغبة في العمل. فالإعفاء الضريبي يزيد مـن كميـة الإنتـاج ويساعد على تنشيط المجال الاقتصادي ويزيد من حجم الإنفاق الاستثماري، مما يؤدي إلى زيادة العمالة.
دور تخفيض الضريبة في زيادة الحصيلة الضريبية في الفكر الاقتصادي:
يستعين الاقتصاديون اليوم بمنحنى لافر Laffer لتعزيز الدّفاع عن الضرائب المنخفضة، وقد قال لافر Laffer، بنفسه، إنّه لم يبتكر المنحنى، وإنّما أخذه عن ابن خلدون فيلسوف القرن الرابع عشر الذي عاش في إفريقيا.
الضريبة تقتل الضريبة في فكر ابن خلدون:
تصور ابن خلدون بوضوح تأثير الضريبة على الحوافز والإنتاجية، بحيث يبدو أنه أدرك مفهوم التكليف الضريبي الأمثل، فقد استبق مبدأ منحنى لافر قبل أكثر من 600سنة، فخصص في مقدمته ثلاث فصول حلل بهم أثر الضرائب، في الفصل الثامن والثلاثون والتاسع والثلاثون والأربعون من الباب الثالث للحديث عن الضرائب والجباية “في الجباية وسبب قلتها وكثرتها”اعتبر ابن خلدون الدولة منتجة بحمايتها لمصادر الإنتاج، وتأخذ الضرائب مقابـل حمايتها لهذه الثروات، ويرى أن قلة الضرائب تؤدي إلى زيادة الاعتمـاد لتزايـد الاغتباط بقلة المغرم، وبزيادة الضرائب يحدث العكس، وهذا ما يعرف بمبدأ “الـضريبة تقتـل الضريبة” أو ما يسمى بلغة الاقتصاد “أثر لا فر” والـذي ينـسب إلـى الاقتـصاد الأمريكي آرثر لا فر.
لقد أدرك ابن خلدون منذ القدم أن التوسع في الضريبة يمكن أن يؤدي إلى ترك بعض الأنشطة الاقتصادية، وهذا ما يغري الحكام برفع المعدلات لتعويض ما نقص من الحصيلة، وهكذا “لا تزال العملة في نقص ومقدار الوزائع والوظائف في زيادة إلى أن ينتقص العمران بذهاب الآمال”.
وتؤدي المعدلات الضريبية المنخفضة إلى تنشيط العمل وإذا قلت الوزائـع والوظائف على الرعايا نشطوا للعمل ورغبوا فيـه) وهـو مـا يعـرف بـالتعبير الاقتصادي الحديث “الأثر التحريضي” للضرائب لا.حيث يدفع الأثر التحريضي (الأثر الحاث) إلى زيادة الأوعية الضريبية التي تدفع منها الضرائب (فيكثر الاعتمار ويتزايد محصول الاغتباط بقلة المغرم)وبالتالي زيادة الحصيلة النهائية للضرائب (وإذا كثر الاعتمار كثرت أعـداد تلـك الوظائف والوزائع فكثرت الجباية التي هي جملتها”
2.منحنى أرثرلافر: (CurveLaffer)
يعتبر ارثرلافر Laffer أشهر العلماء المعاصرين في علم الاقتصاد الكلي من جامعة شيكاغو الامريكية. والذي كان قد عمل مستشاراً اقتصادياً للرئيس الأمريكي رونالد ريغان كما عمل مستشار لكل من مارجريت تاتشر، توني بلير، والرئيس بل كلنتون.وضع لافرLaffer منحناه المشهور فيما يخص الضريبة على الأعمال وكان قد بنى نظريته على مبادئ شرحها العالم العربي ابن خلدون في مقدمته الشهيرة عام 1381 وبالتحديد في الفصل الثامن بعنوان “الجباية وسبب قلتها وكثرتها”
اعتبر لافرLaffer أن الارتفـاع الـسريع لمعـدلات الـضغط الضريبي -أي الوزن الضريبي – تدفع (تحرض) قطاع العائلات وقطاع الأعمـال (المؤسسات) إلى الإنقاص من وقت العمل على حساب الوقت المخصص للراحة.
إذن فمنحنى لافر Laffer يثبت بأن كل زيادة في الضغط الضريبي تؤدي إلى زيادة الحصيلة الضريبية للدولة، ولكن فقط إلى غاية نقطة تسمى نقطـة العتبة والتي بعدها تؤدي أي زيادة في الضغط الضريبي إلى انخفاض في الحصيلة
– عند المعدل 0% لن تكون هناك عوائد ضريبية لأن المعدل صفر ببساطة، أمّا عند المعدل 100% لن يعمل أحد يعرف حقّ المعرفة أنه لن يستفيد من أرباحه، وهذا يعني عدم توفّر أي عوائد ضريبية أيضاً.
منحنى لافر ما هو إلا إطار تحليلي، يعتمد أساساً على بديهية حقيقيـة، هذه البديهية تقوم على أن الأفراد مستعدون للعمل أكثر عند زيادة دخولهم الحقيقية، هكذا وصل آرثر لافر سنة 1974م إلى رسم المنحنى الذي يُنـسب إليـه ومفاده باختصار أن زيادة المعدلات الضريبية تؤدي إلى خفض الحصيلة، لكـن بعد مستوى معين.
اثبتت الدراسات انه عندما تصل نسبة الضرائب الى 33% وأكثر ما بين ضرائب مباشرة وغير مباشرة فأنه سيصبح هناك خلل في العائد الضريبي حيث انه سيحصل انخفاض شديد في هذا العائد وبينما لو تم تخفيض نسب الضرائب سيتم ملاحظة التزام جميع المكلفين بدفع ضرائبهم مما يعني القضاء على التهرب الضريبي. الضرائب لها دور فعال في توجيه النشاط الاقتصادي، حيث أن الاقتطاعات الضريبية تؤثر في تصرفات المكلف إزاء الاقتطاع، فكثرة الضرائب وتنوعها عادة ما تؤدي إلى إثقال كاهل المكلفين بدفع الضريبة، وتجعلهم يغيرون خططهم الاقتصادية.
يعتمد الإصلاح الضريبي الحديث على مبدأ توسيع قاعدة المجتمع الضريبي وتخفيض معدل الضرائب، وأصبحت تعتمد على التقييم الذاتي من جانب المكلفين، وتطبيق عقوبات رادعة لغير الملتزمين. هذا بالإضافة إلى اتخاذ العديد من التدابير الهادفة إلى رفع كفاءة التحصيل والردع الضريبي، غير أنه من الصعوبة بمكان وضع نظام ضريبي متوازن دون الاضرار بالنشاط الاقتصادي في البلدان النامية التي تختلف كليا عن الدول المتقدمة، بالإضافة الى أن صور الهيكل الضريبي تختلف من مرحلة لأخرى بسبب الظروف التي يمر بها البلد، ففي بداية التنمية حيث تكون حاجة البلاد ماسة لتمويـل مشـاريعها البدائيـة الضعيفة وإقامة البنى التحتية، وبالتالي فإن الضرائب ذات الحصـيلة الـوفيرة تكـون مطلوبة في هذه المرحلة كضرائب الاستهلاك وضرائب الأملاك العقاريـة ومحاولـة الابتعاد على ضرائب الأرباح وذلك قصد تشجيع الادخار والاستثمار كما تبنته مرحلة الرأسمالية الناشئة. ولكن بعد أن تحقق الدولة نشاطات اقتصادية واسعة ومتينة فإن ذلك يسـتوجب فرض الضرائب المباشرة على الدخل والثروة وإتباع أساليب التصـاعد والإعفـاءات للتقليل من الهوة الواسعة بين أصحاب الدخول المرتفعة وأصحاب الدخول المنخفضـة وذلك قصد تحقيق العدالة الضريبية ومن ثم يكون هناك توزيع عادل للدخول.

* دكتور في سوسيولوجيا العمل

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com