جامعة قسنطينة (1969 ــ 1975)بمناسبة مرور نصف قرن على تأسيسها معالـــم عن جامعــــة قسنطينة وكليــــة الآداب بها (1)

أ. د. محمد عيلان *
بمناسبة مرور نصف قرن على تأسيس جامعة قسنطينة ووفاء لجهود زملائي ورفاقي الجامعيين ممن كان لنا معهم شرف التأسيس للجامعة الجزائرية في حداثة بناء الجزائر المستقلة، والاضطلاع بشرف المساهمة في فك الارتباط بالمنظومة الجامعية الفرنسية. رغم ظروف المرحلة الزمنية، ورغم حداثة عمرنا وقلة تجربتنا وثقل المسؤولية التي كانت على عاتقنا جميعا، في الجامعات الثلاث، فإنني أحيِّي تلك الجهود وأرسم ملامح منها تاركا ذاكرتي تروي ما عايشته وشاهدته وسمعته وما ساهمْتُ به مع زملائي في مسار تطورها تذكارا دون التزام منهج معين فيما كتبت، ولا تعرضت لما أو ردته بالنقد والتحليل عدا ما جاء عرضا.
ومن جهة أخرى وفاء لروح الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله، ابن المدينة، بل الجزائر وصاحب الفضل في أننا تكونا في صغرنا في مدارس التربية والتعليم التي أسستها جمعية العلماء المسلمين برئاسته وتوجيهه، كما أن مقر تنويره بقسنطينة كان بالقرب من مقر الجامعة، ومصداقا لمقولته:
(يا نشء أنت رجاؤنا
وبك الصباح قد اقترب).
فجهود الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله إلى جانب جهود إخوانه في الحركة الوطنية قبل الاستقلال في نشر قيم الحرية والتضحية والدفاع عنها، كان لها أثر في إرادة وعزيمة الجيل الأول المؤسس للجامعة الجزائرية بعد الاستقلال.
وهكذا مع بداية الاستقلال في ظل الدولة الجزائرية الناشئة، وانتقالنا من الثورة التحريرية إلى ثورة البناء والتشييد؛ كانت جامعة الجزائر هي المرجع في تأسيس فرعين جامعيين الأول بوهران ثم الثاني بقسنطينة، ليستقلا فيما بعد، الأمر الذي كان يقتضي إدارة تعود بهما إلى رحاب اللغة العربية وتدريس العلوم والمعارف الإنسانية بها، وهذا ليس بالأمر الهيّن على بلد لم يمض على استقلاله عشر سنوات، أضف إلى ذلك أنه كان علينا؛ (الجيل الأول) من خريجي الجامعات الثلاث أن ننخرط مباشرة في العمل لتحقيق أهداف الثورة الجزائرية:
1 ــ الجزأرة أي جزأرة وظائف هياكل الدولة الجزائرية الناشئة.
2 ــ ديمقراطية التعليم ومجانيته في جميع مراحل الدراسة، للقضاء على الأمية والتجهيل اللذين مارستهما فرنسا على الشعب الجزائري، فصدرت قرارات الدولة الجزائرية في أولى خطواتها بعد الاستقلال بإجبارية التعليم لمن بلغ سن التمدرس من الأطفال.
أما بالنسبة للتعليم العالي فإنه من حق الحاصل على شهادة البكالوريا أو ما يعادلها الالتحاق بالجامعة والتسجيل بتخصصاتها التي أنشئت، لتلبي حاجة المجتمع الثقافية والسياسية والاقتصادية، وأعطت الدولة الأولوية للتعليم بفروعه؛ بتوفير الهياكل والإطار التعليمي والظروف المناسبة للدراسة مجانا، كما هو وارد في وثائق ثورة التحرير.
3 ـ التعريب المتمثل في الاتجاه إلى التدريس والدراسة والبحث باللغة الوطنية بديلا للغة المستعمر، والتأسيس لمنظومة معارف جامعية تواكب أهداف الثورة في المجال الاقتصادي والاجتماعي والسياسي؛ تأكيدا للبنية الحضارية للأمة الجزائرية.
ومثل هذا التوجه بالنسبة للتعليم العالي كان يقتضي في جانب آخر منه إعادة النظر في البرامج وتوحيد بنية التكوين؛ من حيث النظام السنوي والشهادات العلمية التي تمنحها الجامعة الجزائرية؛ كالليسانس ودبلوم الدراسات المعمقة والدكتوراه الدرجة الثالثة ثم دكتوراه الدولة.
وتلبية لحاجات الدولة من الإطارات المؤهلة؛ شرعت الجزائر في إرسال البعثات الطلابية إلى مختلف بلدان العالم؛ العربي والأجنبي، من أجل استقلالها اللغوي والثقافي والسياسي والاقتصادي.
نشأة جامعة قسنطينة
المتمعن في إنجازات جامعة قسنطينة (اسمها عند التأسيس) سيدرك حتما أنها عظيمة وتاريخية، وأن هذه الإنجازات كان ومازال لها دور في نهضة الجزائر بعد الاستقلال، بعد مرور نصف قرن على تأسيسها مركزا جامعيا في سنة 1968م ثم جامعة في 1969م بكليات ثلاث: (الآداب والعلوم الإنسانية) و (الحقوق والعلوم الاقتصادية) و(العلوم الطبية)، وهي كليات في بداية انطلاقها كانت تواكب جامعة الجزائر العاصمة (النموذج)، وتتلقى المقررات البيداغوجية وتنظيم الدراسة من إدارتها مثلها مثل جامعة وهران.
وأول من رأسها بصفتها مركزا جامعيا ثم جامعة الطبيب الدكتور (عمر بن دالي)، وأمينها العام السيد (عبد الرحمن حيطاش)، ثم بعد ذلك (إبراهيم السبع).
ويعذرني القارئ في تخصيص أغلب الحديث عن كلية الآداب والعلوم الإنسانية تاركا أمر الكتابة عن الكليتين الأخريين، من حيث نشأتهما ومسارهما وتفاصيل تطورهما لزملائي من أساتذتهما؛ ألا وهما كليتا: الحقوق والعلوم الاقتصادية والعلوم الطبية.
والكليات في انطلاقتها الأولى بها بعض التخصصات لا كل التخصصات نظرا لنشأتها الفتية، حيث تتوفر كلية الآداب على دائرتين: دائرة اللغة العربية ودائرة التاريخ، ثم لاحقا دائرة اللغة الفرنسية، و في السنوات اللاحقة بدأت تتأسس دوائر العلوم الإنسانية كعلم الاجتماع وعلم النفس.. وقد عُوِّض مصطلح الدائرة بمصطلح القسم في اللغة العربية بعد إصلاح التعليم العالي كما سأذكر، بينما بقي الاسم نفسه Département)) في اللغة الفرنسية إلى يومنا.
وأول من رأس كلية الآداب بقسنطينة عند تأسيسها بصفته عميدا الدكتور الجزائري (جمال قنان)، الذي لم يستمر طويلا، ثم أسندت إلى الدكتور (العيد مسعود) أستاذ التاريخ وعُيِّنَت لتسيير الأمانة العامة للكلية الأستاذة (السيدة مسلاتي نسيمة). وللعميد مستشاران، أحدهما الأستاذ (الصادق قوبع) عن دائرتي (اللغة العربية والتاريخ)، والثاني الأستاذ (ديبلانك Desplanques) عن دائرة اللغة الفرنسية.
أما كلية الحقوق والعلوم الاقتصادية فقد كان عميدها الدكتور (عبد الرحمن دندن) رحمه الله الذي كان معترضا على فتح قسم للحقوق باللغة العربية، إذ كان يرى بأن العدالة في الجزائر غير معربة، ويصعب مع الجيل الحالي الانطلاق في عملية التعريب لنتمكن من تأهيل قضاة معربين.
ومما يمكن الإشارة إليه أنه في بداية افتتاح المركز الجامعي وتأسيس دائرة الأدب العربي ثم دائرة التاريخ لاحقا، كانتا تابعتين (بيداغوجيا) لدائرتي اللغة العربية والتاريخ بكلية الآداب بالجزائر العاصمة و تُعَدَّان فرعين لهما، فكان التدريس بهما في بداية أول سنة بالمركز الجامعي بقسنطينة، من خلال أساتذة زائرين من جامعة الجزائر وبعض الأساتذة من ثانويات قسنطينة، أما الامتحانات فتُجْرى بالجزائر العاصمة في الدائرتين المذكورتين، وكان على الطلبة لقلة عددهم الذهاب إلى الجزائر مع مسؤول بيداغوجي بوساطة القطار؛ لإجراء الامتحانات، ثم أصبحت تجرى الامتحانات بالمركز الجامعي بقسنطينة بعد استقلاله إداريا وبيداغوجيا، ولم تُـمنح به الشهادات إلا بعد تحول المركز إلى جامعة سنة 1969/1970م.
أما المكتبة فلم تكن تلبي حاجة الأساتذة والطلبة من المراجع؛ فقد كانت قاعة للتدريسِ أُعدت فيها رفوف، ووضعت بها بعض الكتب المتبرع بها من الأساتذة وبعض المثقفين، وأغلب كتبها في القانون بالفرنسية. فكنا نلجأ إلى مكتبة ولاية قسنطينة وأرشيفها، ومكتبة دار البلدية، والمركز الثقافي الفرنسي، وهي مكتبات تتضمن كتبا أغلبها باللغة الفرنسية.
وبالعودة إلى رئاسة الدائرتين عند نشأتهما بالكلية؛ فقد تولى رئاسة دائرة (قسم) اللغة العربية الأستاذ المصري الدكتور (عمر الدسوقي) رحمه الله، من كلية دار العلوم بالقاهرة، ودائرة التاريخ التي نشأت بعد دائرة اللغة العربية رأسها الدكتور (ميخائل نجيب) من جامعة الإسكندرية، ودائرة اللغة الفرنسية التي تأسست بعدهما رأسها الأستاذ الفرنسي (ديبلانك Desplanques)، ودائرة الجغرافيا التي تأسست بعد الدوائر الثلاث؛ رأسها الدكتور (عماد الموصلي) من الجمهورية العربية السورية. وما ذلك إلا لقلة العنصر الجزائري الجامعي، فقد كان أغلب أساتذة دائرتي اللغة العربية والتاريخ من الجامعات المصرية، وبعض المتعاونين الجزائريين من جامعة الجزائر، وبعض مؤسسات التعليم الثانوي بقسنطينة، والمؤسسات الوطنية الأخرى. أذكر منهم:
في دائرة اللغة العربية
الأساتذة الجزائريون الدائمون: الأستاذ الصادق قوبع (أستاذ اللغة الإنكليزية (معيد). الأستاذ محمد عيلان (معيد) أستاذ الأدب العربي وأول جزائري يعين رئيسا لقسم اللغة العربية بالكلية في سبتمبر 1971، الأستاذة السيدة مسلاتي نسيمة أستاذ الآداب الأجنبية (معيد).
ــ أساتذة جزائريون زائرون من جامعة الجزائر: الدكتور الحاج صالح، الدكتور عبد الله الركيبي.
ــ من مؤسسات أخرى بالجزائر:
1 ــ أستاذي الشيخ أحمد حماني رحمه الله عضو جمعية العلماء المسلمين الجزائريين من وزارة الأوقاف بالعاصمة، وكان يرغب في التدريس يوم العطلة (الأحد) قبل أن تصبح (الجمعة) إذ لم يكن لديه وقت فراغ آخر، ليتسنى له حضور بعض (مباريات) فريق مولودية قسنطينة في ذلك اليوم، لأنه الفريق المشَجَّع من قبل جمعية العلماء بقسنطينة.
2 ــ أستاذي الدكتور مختار نويوات مدير أكاديمية التربية والتعليم بعنابة. وفي عام 1980م التحق بجامعة باجي مختار بعنابة بدرجة أستاذ.
3 ــ الشيخ نعيم النعيمي عضو جمعية العلماء المسلمين الجزائريين من مفتشية وزارة الأوقاف بقسنطينة.
ــ أساتذة معارون من جمهورية مصر العربية: الدكتور عمر الدسوقي، الدكتور محمد الصادق عفيفي، الدكتور عاطف العراقي، الدكتور نبيه حجاب، الدكتور سلام زغلول سلام، الدكتور عبد الواحد وافي، الدكتور عبد الفتاح شلبي.
ــ من تونس: الشيخ عبد الرحمن النيفر.
أساتذة اللغات الشرقية واللغة الإنكليزىة التي تدرس بالكلية:
ــ الدكتور عمر الدسوقي أستاذ الأدب العربي الحديث و (أستاذ اللغة العبرية).
ــ الأستاذ نور الدين آل علي (أستاذ اللغة الفارسية).
ـــ الأستاذ الصادق قوبع معيد بالكلية (أستاذ اللغة الإنكليزية).
ــ أستاذ اللغة التركية غير متوفر إلى نهاية السبعينيات.
في دائرة التاريخ:
ــ الأساتذة الجزائريون الدائمون: الدكتور العيد مسعود (العميد). الأستاذ عبد العزيز فيلالي (معيد)، وأول جزائري يرأس قسم التاريخ بالكلية عين نائبا للعميد ولاحقا عُيِّـن الدكتور إبراهيم فخَّار عميدا خلفا للدكتور العيد مسعود. وعين نائبا له الدكتور رجم بدار.
ــ أساتذة جزائريون زائرون من جامعة الجزائر: الدكتور أبو القاسم سعد الله، الدكتور جمال قنان، الدكتور بلهميسي.
ــ أساتذة جزائريون متعاونون من التعليم الثانوي بقسنطينة: الأستاذ محمد الصبيحي.
ــ أساتذة من جمهورية مصر العربية: الدكتور ميخائيل نجيب، الدكتور مصطفى العقاد، الدكتور رمسيس، الدكتور عبد القادر طليمات، الدكتور محمد حمدي الميناوي، الدكتور جوزيف نسيم، الدكتور داود عبده داود. الدكتور أحمد العدوي.
ــ من سوريا: أستاذ الجغرافيا الدكتور عماد الموصلي. ثم الأستاذ الجزائري عبد المجيد بازين (معيد) في مرحلة لاحقة وأول رئيس جزائري لقسم الجغرافيا. بعد تأسيسه في 1972م ثم في مرحلة أخرى الزميل محمد مقليد (معيد).
ــ أساتذة زائرون غير جزائريين من جامعة الجزائر: المصري الدكتور عبد الرحمن البرج.
نظـــــام الدراســـــــــة
نظام الدراسة في كليات الآداب (قسنطينة، الجزائر العاصمة، وهران) من بداية الاستقلال إلى بداية السبعينيات حيث إصلاح التعليم العالي، كان وفقا لبرامج النظام الفرنسي بشروطه في التعليم العالي؛ حيث يشترط للالتحاق بالجامعة شهادة البكالوريا أو ما يعادلها، لتحضير شهادة ليسانس في ثلاث سنوات مع ذكر التخصص (….:option Licence ès Lettres).
إلا أن الجزائر المستقلة أحدثت تغييرا في شرط الالتحاق بالجامعة لتحضير شهادة الليسانس في العلوم الإنسانية، دون الإخلال بنسق التكوين المعرفي بما يماثله في جامعات العالم.
فإلى جانب شهادة البكالوريا المؤهلة للالتحاق بالتعليم العالي اسْتُحْدِثت بالجامعة سنة دراسية (تحضيرية c.p.e.s) للدخول إلى كلية الآداب والعلوم الإنسانية، للذين درسوا السنة الثالثة الثانوي ولم يتحصلوا على شهادة البكالوريا بسبب الالتحاق بالثورة الجزائرية، أو ممن لم يتمكنوا من النجاح في شهادة البكالوريا بعد الاستقلال، وبرامج هذه السنة التحضيرية (c.p.e.s) مماثلة في محتواها لبرامج السنة الثالثة ثانوي أدبي، التي هي سنة الحصول على شهادة البكالوريا، وأغلب مدرسيها في قسنطينة من أساتذة الثانويات بالمدينة، وأول من رأس إدارتها الأستاذ عمر بن مالك.
أما الشهادة التحضيرية (Capacité) للدراسة بالسنة الأولى ليسانس حقوق، فإنها تختلف عن مثيلتها في الآداب، حيث ينتسب الطالب للدراسة مدة سنتين يتلقى خلالهما مبادئ العلوم القانونية ومصطلحاتها مع بعض المواد الاجتماعية الأخرى، وبعد النجاح فيهما يمكن للطالب التسجيل في كلية الحقوق والعلوم الاقتصادية. أما الانتساب بالشهادتين المذكورتين إلى الكليتين بحسب التكوين (الآداب أو الحقوق) فإنه خاص بالجزائريين دون غيرهم.
ومن الجدير بالذكر أن الشهادتين التحضيريتين (الآداب والحقوق) في أواخر الستينيات وبداية السبعينيات قد عرفت أعدادا هائلة، أغلب المقبلين عليها من المجاهدين وضباط جيش التحرير خلال ثورة نوفمبر 1954 م.
ويمكن الإشارة إلى أن هاتين الشهادتين المخولتين للالتحاق بالجامعة كان لهما طابع الظرف التاريخي، وما إن تمكنت الدولة من ضبط منظومة التعليم حتى ألغتهما.
الحلقة القادمة بعنوان: برنامج الليسانس بنظام الشهادات في كلية الآداب بحسب النظام الجامعي الفرنسي.
كلية الآداب جامعة باجي مختارــ عنابة.
Ailafolk@hotmail.com