أمسك الشمس
د. عبد العزيز مرابط الزغويني/
يروى عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ الْقَيْس – وَهُوَ أَحَدُ التَّابِعِينَ الزُّهَّادِ – أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ: كَلِّمْنِي. فَقَالَ لَهُ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ الْقَيْسِ: «أَمْسِكِ الشَّمْسَ»
«أَمْسِكِ الشَّمْسَ» يعني: اجعل الشمس تستقرّ في كبد السّماء فلا تتحرّك، واحبسها عن المسير حتى لا تترك مكانها؛ فإنّك إن فعلت ذلك وقفتُ إليك وكلّمتك قدر ما تشاء، فإن عجزت عن إمساكها فلا تلمني إن أنا تركتك ومضيت لحالي وانشغلت بعملي، لأنّ الشمس إذا تحرّكت وسارت تحرّك معها الوقت وسار، وعقارب السّاعة لا تدور إلى الخلف، وكل لحظة ذهبت من العمر فلن تعود أبدا، وما ضاع منه لا يقبل التّعويض.
فالوقت أيّها الأحبّة مادّة الحياة، وهو يُقاس بما فُعل في فلكه، ويُوزن بالعمل الذي وقع في لحظاته، فلا يليق بعاقل أن يتركه يذهب هدرا بلا فائدة.
وآفتنا نحن المسلمين اليوم أنّ الوقت أرخس سلعة عندنا، وآخر ما نعطيه اهتماماتنا، لذلك نصرفه بأبخس الأثمان، ولا نحزن إن هو ذهب بلا فائدة ترجى.
قد يقضي أحدنا السّاعات الطّوال من يومه متسكّعا في شوارع المدينة أو متردّدا على أسواقها ودكاكينها من غير مقصد يقصده ولا غاية يبتغيها، أو مستلقيا على كرسي من كراسي المقاهي التي لا تعرف الشّغور في زمن البطالة والقعود، أو خاملا متماوتا أمام هاتفه الذّكي الذي صار يلتهم الأوقات التهاما، ولا يأسف على ما ضيّع ولا يبالي بما خسر. إنه على حسب زعمه يقضي الوقت وما علم المسكين أنّه يقضي على أشطر من عمره الغالي، إذ ما هو في واقع الأمر إلا أيام معدودات، فإذا مضى يومه مضى بعضه.
وَصدق عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ -رَحِمَهُ اللهُ- حين قال: «إِنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ يَعْمَلَانِ فِيكَ، فَاعْمَلْ فِيهِمَا»، وما أرى فَطِناً فَهِمَ هذه العبارة وعمل بما جاء فيها غير الغرب، إنّهم يستثمرون في الأوقات أكثر ممّا يستثمرون في الأموال، ويجنون من الأولى أكثر ممّا يجنون من الثانية. فالوقت بالنسبة إليهم رأس مال يدرّ الكثير فلا ينبغي أن يُهدر. وهم بصنيعهم هذا على خطى سلفنا الصالح الذين قال فيهم الحسن البصري: «أَدْرَكْتُ أَقْوَامًا كَانُوا عَلَى أَوْقَاتِهِمْ أَشَدَّ مِنْكُمْ حِرْصًا عَلَى دَرَاهِمِكُمْ وَدَنَانِيرِكُم».
وأترك الخاتمة للإمام ابن القيم الذي يقول: «وَقْتُ الْإِنْسَانِ هُوَ عُمُرُهُ فِي الْحَقِيقَةِ، وَهُوَ مَادَّةُ حَيَاتِهِ الْأَبَدِيَّةِ فِي النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَمَادَّةُ مَعِيشَتِهِ الضَّنْكِ فِي الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَهُوَ يَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ.
فمَا كَانَ مِنْ وَقْتِهِ للهِ وَبِاللهِ فَهُوَ حَيَاتُهُ وَعُمُرُهُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ لَيْسَ مَحْسُوبًا مِنْ حَيَاتِهِ وَإِنْ عَاشَ فِيهِ عَيْشَ الْبَهَائِمِ، فَإِذَا قَطَعَ وَقْتَهُ فِي الْغَفْلَةِ وَالسَّهْوِ وَالْأَمَانِيِّ الْبَاطِلَةِ، وَكَانَ خَيْرَ مَا قَطَعَهُ بِهِ النَّوْمُ وَالْبَطَالَةُ؛ فَمَوْتُ هَذَا خَيْرٌ لَهُ مِنْ حَيَاتِهِ» ، والسلام عليكم.