الحـــق الـمر

اقتصاد الموت!

يكتبه د. محمّد قماري/

صدر في باريس مع بداية شهر سبتمبر الماضي، كتاب يبدو من واجهة غلافه لافت للنظر، فعلى صفحة الغلاف يطالعنا اسم رجل ظل طيلة عقود رمزا لسلطة (الظل) في فرنسا، وهو (جاك عطالي)، فالرجل أحد العقول التي تمتلك رصيدا معرفيا كبيرا في مجال الاقتصاد، سواء في شقه الاجرائي البحت أو امتداداته الاجتماعيّة والسياسيّة والجيو-استراتيجية، يضاف إلى ذلك حضوره منذ عقود طويلة في دوائر التنظير وصناعة القرار في فرنسا، وتكفي الاشارة إلى صداقته الشخصية مع الرئيس الفرنسي الأسبق فرنسوا ميتران. والأمر الآخر الذي لا تخطئه عين القارئ هو عنوان الكتاب: (من أجل النهوض بفرنسا Pour réussir la France)، والكتاب نتاج جهد جماعي تولى تنسيق مواده جاك عطالي، واختيار توقيت صدور الكتاب ليس اعتباطا، فلقد أصبح من التقاليد المكرّسة في الغرب اعتبار شهر الخريف الأول موسم الدخول الاجتماعي، إذ يرجع الناس إلى نشاطهم بعد عطلة الصيف، ويقرن بذلك الرجوع الاهتمام بجديد عصارة القرائح والأفكار، ويسمونه (موسم الدخول الأدبي)، فيتلقف الناس جديد ما تعرضه المكتبات في مجالات الفكر والأدب والثقافة… ولكن في حالة كتاب (جاك عطالي) هناك مناسبة أخرى، وهي استعداد فرنسا لانتخابات رئاسية، فكان حقيق بسلطة الظل أن تضع محددات استشرافية أمام المتنافسين على منصب الرئاسة، ومن خلالها اضاءات لجمهور دافعي الضريبة، إذ الأمر لا يتعلق بمن يحكم بل بما يحكم، ولا أحد يأخذ صكًا على بياض، يخوله أن يمضي بالأمّة على هواه، بل يلتزم ببرنامج محدد المعالم، ولأجل ذلك جاء العنوان (من أجل النهوض بفرنسا). يقول جالك عطالي أن المجتمع الذي لا يملك خريطة سير واضحة توصله إلى سنة 2030 هو مجتمع يسير نحو الضياع، وأن عالم السياسة الذي لا يكون فيه السياسي يمتلك رؤية رئيس المؤسسة هو مجتمع مفلس، فإذا كان جمهور كرة القدم يحتكم إلى (العاطفة) بمعنى التفاؤل والتشاؤم في تحقيق الربح من عدمه، فرئيس المؤسسة يجب أن يحتكم إلى مفردات (القدرة على الانجاز) من عدمها، فهو يوم يخاطب الناس ينطلق من قدرته على (الفعل والانجاز) وفي زمن محدد. ولعل من أبرز أفكار الكتاب الذي حمل عنوانا فرعيا: (30 إصلاحًا كبيرا و250 عمل مستعجل)، حديثه عن فكرتين (اقتصاد الحياة) و(اقتصاد الموت)، ويرى أن الاعتماد على الطاقة الأحفورية في الاقتصاد هو عنوان اقتصاد الموت، فإذا كان انتاج الطاقة وبعض المصنعات وعمل البنوك يعتمد على تلك الطاقة (البترول والغاز…) فإن ذلك اتجاه نحو اقتصاد الموت، كما هو حال 60 من المئة من آلة الاقتصاد الفرنسي، وضرب مثلا من أوربا في الاتجاه نحو اقتصاد الحياة بنيوزيلندا وفيلندا. وفي الحالة الفرنسية يرافع الكتاب من أجل قضيتين أساسيتين في فرنسا، الأولى هي معالجة موضوع التضخم والذي يشبهه بحوض الماء الذي لا ماء فيه، بمعنى يتداول الناس عملة ليس لها مقابل في النمو الاقتصادي، والقضية الثانية هي قضية عودة فرنسا إلى الصناعة بوصفها محرك لقطاع الخدمات، وهنا يقف جاك عطالي على أهمية التكوين، فتكوين المهندسين هي مرتكز سياسة التصنيع، ويضرب مثلا بالمدرسة المتعددة التقنيات التي أصبح خريجوها أقرب الذهنية (التجارية) بدل الاهتمام بالهندسة. الكتاب يحمل الكثير من الأفكار، ويرسل العديد من التنبيهات، صحيح أنها تنطلق من واقع الاقتصاد الفرنسي والمؤسسات الفرنسية، لكنها أفكار فيها ما يمكن الاستئناس به في فضاءات أخرى، فإذا كان التحذير من (اقتصاد الموت) في أوربا، ينطلق من واقع أنها بلدان مستورة لتلك الطاقات الأحفورية، فإن الاقتصاد المبني أساسا على ريوع تلك الطاقات، كالاقتصاد الجزائري يعتبر اقتصادا (انتحاريا)، فكل اختلال في موازنة الصادرات ناتجة عن انخفاض سوق الطاقة الأحفورية معناه اختناق عاجل للخطط المبنية عليه! لقد طال بنا ترديد تلك الاسطوانة المشروخة، والتي تتردد مع كل مناسبة في ضرورة الخروج من شرنقة اقتصاد الريع النفطي، لكن ما تجسد على أرض الواقع يمضي ببطء السلحفاة، والقليل الذي انجز تحاصره آلة بيروقراطية قاتلة، تنذر بموت ذلك المنجز على قلته مع أقرب منعرج. وما تزال فكرة (اقتصاد المعرفة) الذي يتأسس على ثمرات العقول النابهة يتعثر، مع ما يحاصر محاضن المعرفة من معاهد وجامعات من مشكلات تحول دون احداث جسور بين المؤسسات الاقتصادية وتلك المؤسسات الحاضنة للعقول. لقد بلغ (التنظير) في هذه المجالات عندنا إلى حد التخمة، وإلى مستوى التضخم، حتى ظن الناس أنه يكفي ترديد اسم الماء على العطشان ليرتوي، وأصبح ترديد المصطلحات الرنانة في هذا المجال بديلا عن الخطط والبرامج في واقع الناس!

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com