عوائق النهضة: غلبة (البوليتيك)
د. بدران بن الحسن */
في بداية نهضات الأمم، تكون الحاجة ماسّة إلى بذل الجهد، والتضحية، ومضاعفة العمل، وتحسين الأداء، والإيثار، والتعاون، كما تكون الحاجة ماسّة إلى الصدق في القول والعمل؛ وبخاصة فيما يتعلق بتدبير الشأن العام، وقيادة المجتمع، وإدارته. ولو نظرنا في تاريخ الأمم التي بنت حضارات سامقة وخلدت ذكرها في التاريخ لوجدنا ذلك واضحاً. ولنا في الجيل الأول لامتنا خير مثال؛ فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يبذلون النفس والنفيس، ولا ينتظرون جزاء ولا شكورا، كما كان من يتولون أمورهم العامة، يبادرون بتحري أفضل ما يصلح للجماعة المسلمة آنئذ.
فإذا ما اختل هذا الشرط في البذل والصدق، فإن المجتمع أو الأمة التي تنشد طريق النهضة الحضارية سيكون طويلا، وغير سوي. ولعلنا نلخص ذلك فيما أسماه مالك بن نبي «معادلة الحق والواجب»، فإذا غلب الواجبُ الحقَّ، فإن ذلك علامة صحة واستقامة، وبخاصة في الإدارة العامة وسياسة المجتمع والدولة، وخدمة الشأن العام. أما إذا غلب الحقُّ الواجبَ فإن ذلك يتحول إلى عائق أمام استقامة البناء الاجتماعي، وبناء الدولة، وتحقيق النهضة الحضارية.
ولعل من العوائق أو المعيقات التي تواجهنا اليوم، هو اختلال ميزان الواجب والحق، لحساب المطالبة بالحقوق.
ولعل القارئ الكريم يتعجب من هذا الأمر!
فكيف يكون الحق أو المطالبة بالحق عائقا أمام النهضة الحضارية لمجتمع ما؟!
والحقيقة أن المطالبة بالحقوق، إذا لم يسبقها أداء للواجب، تتحول إلى موقف احتجاجي، ونفسية انتظارية تنتظر المخلص، ومن يقدم لها العون. هذا من جهة الأفراد والمجموعات. أما من جهة من يتولى الشأن العام، وإدارة وتدبير شؤون المجتمع، فإن ذلك يتحول إلى نوع من الدجل، والمغالطة، والخداع، والمكر، نحو من يتولى شأنهم. أو ما يسمى بالخطاب الشعبوي، الذي يمارسه الساسة والحكام الذين لا يقيمون سياساتهم وإداراتهم على توازن بين الواجب والحق، ولا يبنون برامجهم وأحكامهم على منطق سنني يراعي ما ينبغي أن يتوفر في أي عمل من شروط النجاح.
ولعل أبرز ما وقع فيه الاختلال بين الحق الواجب، هو ميدان السياسة، التي هي في أصلها إدارة الشأن العام نيابة عن أفراد المجتمع، باختيارهم. حيث نرى في أمتنا منذ أجيال، وبخاصة منذ خروج المحتل الغربي من ديارنا، أن سادت النزعة السياسوية، وانحرف الفعل السياسي من كونه فعلا يدير المجتمع وفق إرادة المجتمع وقيمه ومرجعيته وتطلعاته، إلى كونه فعلا مخلاً بالمرجعية والقيم، ومناقضا لتطلعات الأمة، منفصلا عن القواعد والأسس العلمية التي تقوم عليها السياسة وتدبير الشأن العام، وكلما حضر موعد انتخابات في أي مستوى من مستويات إدارة المجتمع إلا وتحولت إلى خداع ومكر وتضليل يمارسه بعض الدجالين لمغالطة أصحاب النوايا الطيبة والسذج من الجماهير، واستخدام جماجم الضعفاء كجسر للوصول إلى السلطة أو البقاء فيها.
وبدل أن تقوم سياساتنا على مبدأ الواجب، الذي يخدم به السياسي مجتمعه، فإنه يبني خطابه على مبدإ الحق، فيقوم بتخدير الجماهير بخطاب حالم، لكنه يقوم بممارسات ظالمة، لا تؤدي واجبا، ولا تأتي بحق. بل تقنع الشعوب والجماهير بأن مشكلاتها تحل من خلال المطالبة بحقوقها التي أخذها الآخرون، بينما الحقيقة التي ينبغي أن نعيها، هي أن أداءنا للواجب مقدمة على مطالبتنا بالحقوق. فأداء الواجب يبعث على الفعالية وعلى اليقظة وعلى الوعي، وعلى الأداء المنهجي، بينما المطالبة بالحقوق قد تصيبنا بنرجسية، وبعقدة نقص أننا مغلوبون، وننتظر الحلول السحرية التي طالما بشر بها السياسيون المخادعون.
ولعل هذا ما جعل مالك بن نبي يستعمل مصطلح (البوليتيك) الذي أخذه من العامية الجزائرية، والتي تجسد عبقرية المجتمع في إبداع مصطلحات تنتقد بها مثل هذه العوائق التي تقف في طريق نهضتها. فهذا المصطلح العامي الجزائري، مأخوذ من الكلمة الفرنسية (Politique) وأعيدت صياغته ثقافيا، بفرنسية معربة، للتعبير عن العمل والفعل السياسي المتميز بالمخادعة وعدم المصداقية والدجل السياسي والفراغ من المضمون الأخلاقي.
ويرى مالك بن نبي أن هناك فرقا بين «السياسة» و«البوليتيك». فإذا كانت السياسة «محاولـة تأمل في الصورة المثلى لخدمة الشعب»، فإن «البوليتيك» «مجرد صرخـات وحركـات لمغالطة الشعب واستخدامه» [بن نبي، بين الرشاد والتيه، ص98]. وهذه الأخيرة هي النمط السائد في عالمنا الإسلامي عموما، وفي عالمنا العربي بوجه خاص، ولذلك فهي نزعة خطيرة تعيق سعي بلداننا لتحقيق نهضة حضارية. وتكمن خطورتها في أنها تشويه لمقاصد السياسة كنشاط يساهم في تطور المجتمع وازدهاره وتنظيم العلاقة المثلى بين الفرد والمجتمع، فيقدم بذلك المجتمع الضمانات الكافية لتطوير قدرات الفرد، ويقدم هذا الأخير للمجتمع خدماته على شكل واجبات [محمد العاطف،26-25].
وانظر من حولك، وتأمل في برامج غالب الأحزاب، وأكثر السياسيين، وغالب سياسات دولنا، تجدها في أغلبها ملئة بضروب من الهرج والفوضى والشعارات الحالمة والوعود الكاذبة، لأنها في أغلبها برامج منتهاها الأسنى الوصول إلى الحكم والبقاء فيه، وتولي المسؤولية باعتبارها مغنما.
ولذلك فغالب خطابها تخدير لنا بالمطالبة بالحقوق، وتغن بالحرية، وترديد للشعارات الحالمة، وليس إعدادا لشعوبنا لتحمل واجباتها وتوفير ضمانات تحضرها وتعليمها مناهج فعّالة وطرق واضحة ومهارات متنوعة لتحقيق تلك الشعارات في شكل واجبات تثمر حقوقا لجيلنا ولأجيال المجتمع في المستقبل، مثل بقية الشعوب التي لم يخدرها سياسيوها، ولم يمارسوا عليها «البوليتيك».
وبخاصة في بداية العمل من أجل تحقيق نهضة حضارية لأمتنا، فإنه «ينبغي ألا يغيب عن نظرنا أن (الواجب) يجب أن يتفوق على (الحق) في كل تطور صاعد، إذ يتحتم أن يكون لدينا دائماً محصول وافر، أو بلغة الاقتصاد السياسي (فائض قيمة). هذا (الواجب الفائض) هو أمارة التقدم الخلقي والمادي في كل مجتمع يشق طريقه إلى المجد» [بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ص143].
*مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية/ جامعة قطر