الخطاب المسجدي… مرة أخرى
عبد العزيز كحيل/
أتجاوز أؤلئك الذين يتنصلون من مسؤولياتهم الأسْرية والاجتماعية ويلقونها على المسجد، يريدون منه أن يتولى تربية أبنائهم وهم مستقيلون عنها، كما يريدون منه أن يصلح السياسة والأخلاق وشؤون المجتمع وهم في منأى عن ذلك، هؤلاء جزء من المشاكل… أتجاوز هؤلاء وتقودني الموضوعية والحرقة على الدين إلى تحريك السواكن لعل شيئا من الحياة يعود لبيوت الله، فمهما حللنا الأوضاع ووزعنا المسؤوليات على مختلف الأصعدة يبقى للمسجد رسالته الرائدة ووظيفته التربوية الإصلاحية المتميزة، والواقع الذي لا تخطئه العين أن كل ذلك تراجع تراجعا كبيرا، وغلبت النزعة الوظيفية إلى حد بعيد، واستقال كثير من الأئمة من مهمة التوعية والتربية واختاروا الرتابة الوظيفية، رغم أن هناك فسحة كبيرة للتحرك ببيوت الله في اتجاه تنمية الوعي واستثمار حقائق القرآن والسنة في إصلاح الفرد والأسرة والمجتمع والدولة بدل خطاب الترديد البارد والدروس الفارغة من أي شحنة عاطفية أو بُعد تربوي.
خطب الجمعة: خطيب الجمعة قال بصوت مرتفع شديد اللهجة: الصلاة بالسروال لا تجوز…وأكد أنه يقولها بصراحة ولا يخاف في الله لومة لائم!!!(أرأيتم هذه الرُّجْلة؟).
زميله خصص الخطبة كلها – نعم كلها، والمصلّون في خشوع كبير -!!! لكيفية وضع القدميْن في الصلاة.
الثالث – وقد نصبوه على واحد من أهمّ مساجد المدينة – قال: من أهدوا له شخشوخة المولد النبوي يجب أن يعطيها للكلاب.
هذه عيّنة من الذين يُنتظر منهم أن يساهموا في إصلاح المجتمع… هم الذين يساهمون في إفساده باسم الدين، ويجدون من يصلي عندهم ثم يشتكي بعد ذلك من حال المساجد… كيف يسلمون المساجد للجالية السعودية في الجزائر ثم يتحدثون عن المرجعية الدينية الوطنية؟
الحمد لله هناك قلة من الخطباء الواعين والمساجد النشطة.
أيها الأئمة والشيوخ تكلموا: هل نترك العلمانية تعربد؟ هل نسكت على هذا التفسخ الرهيب؟ هل نرضى بالفساد المستشري في طول البلاد وعرضها وعلى جميع المستويات؟ البداية بعلماء الدين أن يتركوا قليلا الحديث عن النظافة من الإيمان وفوائد التشجير وعذاب القبر، ويركزوا على تلك المواضيع التي تزعج العلمانية، على رأسها: حكم تارك الصلاة وأن بعض الأئمة الأعلام يرون أنه كافر- حكم الحجاب وأنه فرض ديني (دعونا من الكلام الناعم عن «اللباس المحتشم»، فإما الحجاب الشرعي أو التعري) -حكم التبرج وأنه معصية لله لا تنفع معها صلاة ولا صيام ولا عمرة – معنى الآيات الكريمة «ومن لم يحكم بما أنزل الله» وأن أكبر الكبائر هي تنحية شرع الله واعتماد القوانين الوضعية – الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (أي التغيير باليد وباللسان أولا) فريضة لا تبالي بحكاية الحرية الشخصية ما دمنا مسلمين.
هذا الخطاب يجب أن يكون موضوع الدروس المسجدية والأحاديث الإذاعية والتلفزيونية ليكتسب مصداقية عند الرأي العام، فإن كان الشيوخ عاجزين عنه فلْيتركوا الوعظ ولْيشتغلوا بالأدب أو الفن او التجارة… بوراوي وجاب الخير وكمال داود يسخرون من الله ورسوله ودينه والشيوخ لا يتزعزعون ولا يتحركون؟ العلمانية تحارب العفة وتيسر سبل الانحلال ونحن صامتون؟ العلماء هم القدوة، إذا رفعوا أصواتهم استجاب المجتمع شيئا فشيئا…لا أكلف الشيوخ أن يكونوا أبطالا في مجتمع سلبي لكن أريد أن يؤدوا واجبهم الديني.
ماذا يعني أنك مسلم؟… هذا محور كان ومازال ينبغي أن يحتل مكانة كبيرة في الخطاب المسجدي…ماذا يعني أنك مسلم؟ ..لا يعني أبدا أنك صاحب لحية وقميص وعود أراك بل يعني أنك مع الجمال ضد القبح، مع العلم الغزير النافع في جميع ميادين المعرفة، لا مع الترديد الببغائي لأقوال بعض «الشيوخ»، مع العدل ضد الظلم، مع المظلوم أيا كان دينه وعرقه ضد الظالم أيا كان (خاصة إذا كان حاكما متسلطا)، مع حقائق القرآن والسنة لا مع الأوهام والخرافات.
كونُك مسلما يعني أنك صاحب قلب نقي سليم، وعقل ذكي حصيف، وسلوك إيجابي بعيد عن النفاق، تُقيم دولة الإسلام في نفسك وبيتك لتقوم على الأرض .
كونُك مسلما يقتضي أنك بعيد كل البعد عن الحقد والبغض والعدوانية واتهام الناس وسوء الظن بالمسلمين… فالإسلام ليس شعارا ولا أشكالا معينة بل هو توحيد الحق ورحمة الخَلق.
كونُك مسلما لا يعني أن تكون إنسانا خارقا supermanبل أن تكون فقط إنسانا سويا.
هكذا كنْ، فقد سئمنا النماذج المشوَّهة التي تسيء إلى ديننا…. نماذج إذا لم يصلحها المسجد فما يصلحها؟
ما أحوجنا إلى المواعظ: المسجد هو مكان الموعظة الأول… هزمتنا المادة واستولت علينا الدنيا فقست القلوب وتكلست المشاعر…
أين القلوب التي ترق للمظلوم والجائع والعاري والمتألم؟ أين العيون التي تبكي من خشية الله؟ أين أخلاق الرحمة والرأفة والإحساس بالآخر؟ إننا في أمس الحاجة إلى المواعظ النابعة من القلب لتصلح القلب، المواعظ الربانية الرقيقة التي تعيد لنا إنسانيتنا… وهل يكون المسلم مسلما إذا لم يكن أولا إنسانا؟ لا أقصد الكلام البارد المجتر الرتيب التي يسود معظم المنابر الآن، فهو يميت القلوب ولا يحييها، بل ذلك الكلام القوي الصادق النابع من حقائق القرآن والسنة الذي يهزنا هزا، ويرجعنا إلى الله بحلاوته، ويحبب إلينا الأخرة أكثر من الدنيا، ويفتح لنا آفاق التوبة النصوح…كلام مثل كلام عبد القادر الجيلاني ورابعة العدوية والجنيد وأبي مدين التلمساني وابن قيم الجوزية… على الأقل فلْنترك كتب الطبخ وتفسير الأحلام ولْنقرأ في تلك الأسفار الرفيعة التي تزكي النفوس وتطبّب القلوب، مثل: إحياء علوم الدين، ومدارج السالكين، وحلية الأولياء، والرسالة القشيرية… فلْنجرْب ولْنلتقط كلام أطباء القلوب كما يُلتقط أطايب الثمَر.