قضايا و آراء

اللغة العربية والقيم الإنسانية/الشيخ أحمد ظريف

 

 نشأة اللغة

قال الله تعالى:{وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا…} يعتبر كثير من الباحثين أنّ أهمّ اختراع بشري هو اللغة التي تميّز بها الإنسان عن سائر المخلوقات، وأنّ التعليم المذكور في الآية يقصد به الاستعداد للتواصل باللغة، وذهب علماء اللغة في تفسير هذا التعليم مذهبين فنسب بعضهم إلى ابن عبّاس رضي الله عنهما:[علّمه الأسماء كلّها وهي الأسماء التي يتعارفها الناس] واختاره ابن فارس في كتابه الصاحبي في فقه اللغة، وردّ عليه ابن جنّي الذي شرح الكتاب فقال:[وذلك أنّه قد يجوز أن يكون تأويله أقدر آدم على أن واضع عليها] ويقول:[إنّ أصل اللغة لا بدّ فيه من المواضعة…].

وهكذا نشأت اللغة وتفرّعت إلى لغات، فصار لكلّ جهة من الأرض سكّان لهم لغتهم التي بها يتواصلون، كما جاء في القرآن الكريم:{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ}[الروم:22]{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ}[إبراهيم:4] ومعلوم أنّ اللغة العربيّة هي فرع من الجذر السامي، ومن اللغات الساميّة: البابلية والأرامية والأكاديّة والفينيقيّة الكنعانيّة والعبريّة، وهذه الأخيرة أعيد بعثها وتطويرها واستفاد علماؤها كثيرا من اللغة العربيّة.

ولمـّا كان من تقدير الله سبحانه وتعالى أن يكون محمّد صلّى الله عليه وسلّم خاتم الأنبياء والمرسلين وأن تكون معجزته الخالدة والباقية هي القرآن الكريم، وأن يكون باللسان العربيّ:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ}ـ{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}والسرّ في ذلك أنّ هذه اللغة دون غيرها تستطيع استيعاب هذا الكتاب والتعبير عن معانيه وقدرتها كما يقول الإبراهيمي:[ إن الفصحى لا تعبأ بحمل المعاني مهما تنوعت، وأنها تبز اللغات في ميدان التعبير عن الحقائق والخيالات والخواطر والتصورات].

ومعروف أنّ عرب الجاهليّة قبيل الإسلام كانوا يجتمعون في مواسم الحجّ يتناشدون الشعر في سوق عكاظ وكان لهم اهتمام كبير وتنافس شديد لتخرج من سوق عكاظ المعلّقات المعروفة كنماذج عالية في الفصاحة والتي علّقوها على ظهر الكعبة كما كان اهتمامهم بالخطابة يقول الجاحظ: [بعث الله محمّدا في وقت أكثر ما كانت العرب شاعرا وخطيبا…].

والأمثلة على ذلك كثيرة، يذكر منها النقاد كتب الجاحظ في البخلاء وحوارهم والحيوان له وكتب أبي حنيفة الدينوري وكتب الطب والـ… وبهذا التفوّق أقرّ واعترف غير واحد من الباحثين وحتى المجادلين لغناها وثراها واتّساعها. واهتم الباحثون على مرّ العصور باللغة العربيّة اهتماما كبيرا ومن أهمّ من اهتمّ بها علماء غربيّون مستشرقين وغيرهم ومن أبرزهم علماء ألمان، ومن بينهم يوهان فك، ومن أهمّ كتبه في ذلك: العربيّة دراسات في اللغة واللهجات والأساليب وقد ترجمه إلى العربيّة العالم اللغوي القدير الدكتور رمضان عبد التوّاب، وجاء في كلمته التمهيديّة ما يلي:

فضل القرآن على اللغة العربيّة

[ لم يحدث حدث في تاريخ اللغة العربيّة أبعد أثرا في تقرير مصيرها من ظهور الإسلام ففي ذلك العهد قبل أكثر من1300 عام عند ما رتّل محمّد صلّى الله عليه وسلّم القرآن على بني وطنه بلسان عربيّ مبين، تأكّدت رابطة وثيقة بين لغته والدين الجديد، كانت ذات دلالة عظيمة النتائج في مستقبل هذه اللغة، ولا ينحصر هذا الدور الذي لعبته العربيّة منذ ذلك الوقت في العالم الإسلاميّ كافّة، من حيث صارت لغة الدين والحضارة على الإطلاق، بل يتجاوزه بمقدار عظيم إلى النتائج التي تركتها غزوات الفتح على أيدي البدو تحت راية الإسلام في لغتهم، وبذلك صارت العربيّة لغة الطبقات السائدة الموجّهة في الدولة، سرعان ما امتدّت رقعتها في أوج اتّساعها وانتشارها بعد سنة 700م من إسبانيا غربا إلى أواسط آسيا نحو الشرق، وقد زحفت العربيّة مع الفاتحين البدو، فاستقرّت في بعض أقاليم الدولة الفتيّة، واضطرّت إلى الانسحاب من أخرى، كما كانت هناك مناطق استعاض سكانها الأصليون من العربيّة إحياء ما بلي من لهجاتهم على مر الزمن، وأخيرا أخرى بقيت فيها العربيّة لغة العلم المعتمدة فحسب، ولم يؤثّر سقوط الدولة العربيّة الأمويّة سنة 750 في مكانة اللغة العربيّة، بل لقد شهد عصر الازدهار في أوائل الدولة العبّاسية أقصى درجات العناية بالقواعد العربيّة، ثمّ شهد على إثر ذلك مباشرة العصر الذهبيّ للأدب العربيّ، كما أنّ انحلال الدولة العبّاسيّة إلى دويلات عديدة مستقلّة، ذلك الانحلال الذي أخذ نهايته في حوالي سنة935م لم يزعزع من مكانة العربيّة التي ربطت إذ ذاك جميع الأقطار الإسلاميّة على أنّها اللغة الأصيلة للعلم والأدب برباط جامع وثيق حقّا لقد رفع العصر السلجوقي بشرق العالم الإسلاميّ من شأن اللغة الفارسيّة الحديثة فجعلها اللغة الرسميّة = لغة السياسة الدوليّة وترجمان الثقافة العالية والأدب الرفيع، ولم يعترف بالعربيّة إلاّ على أنّها لغة الدين والفلسفة الكلاميّة فحسب، كما أنّ الأحداث السياسيّة قد دفعت مصر إلى تبوّء مكانة الرئاسة بين البلدان الناطقة بالضاد بعد الحروب الصليبية وهجوم المغول، وهي مكانة عرف وادي النيل كيف يحتفظ بها إلى هذا اليوم، بيد أنّ مقام العربيّة باعتبارها اللغة المعتمدة للعلم والأدب قد بقي إلى هذا العصر الحديث ثابت الأركان وطيد الدعائم ولم يجرؤ إلاّ بعض دعاة الإصلاح الإسلاميّين على توجيه نقدهم اليوم- دون جدوى- إلى عقيدة اللغة العربيّة الفصحى هذه العقيدة التي جعلت من العربيّة الفصحى نموذجا مفروضا ومثلا أعلى يقتفيه كل كاتب عربيّ…ولقد تكفّلت القواعد التي وضعها النحاة العرب في جهد لا يعرف الكلل وتضحية جديرة بالإعجاب بعرض اللغة الفصحى وتصويرها في ميع مظاهرها من ناحية الأصوات والصيغ وتركيب الجمل ومعاني المفردات على صورة محيطة شاملة بحيث بلغت القواعد الأساسية عندهم مستوى من الكمال لا يسمح بزيادة لمستزيد ولا تزال القواعد الأساسية المذكورة تعدّ اللغة العربيّة لغة متصرّفة بمعنى الكلمة محافظة على نهايات الإعراب والتصرّفات المختلفة…لقد احتفظت العربيّة الفصحى في ظاهرة التصرف الإعرابي بسمة من أقدم السمات اللغوية التي فقدتها جميع اللغات الساميّة باستثناء البابلية القديمة قبل عصر نموها وازدهارها الأدبي] يوهان فك ترجمة رمضان عبد التواب.

أي اللغات أقدم

[ومن أمثلة ذلك بحث مستفيض للشيخ محمد أحمد مظهر بمجلة الأديان التي تصدر بالإنجليزية في باكستان ينشره تباعا تحت عنوان العربية أم اللغات، ويسرد فيه مئات من الكلمات الأجنبية يحسبها من مشتقات العربية على صورة من الصور اللفظية أو المعنوية وقد وفق كل التوفيق في بعض الكلمات ولكنه أوغل جدا في التخريجات المتتابعة للوصول بالكلمة إلى جذرها العربي فيما يراه والرأي الغالب بين علماء المقارنات اللغوية أن أصول العربية حديثة بالقياس إلى أصول العائلة الهندية الأوروبية ولا سيم السنسكريتية والجرمانية] عباس محمود العقاد.

قدم الكتابة العربية

[فقد كان الفينيقيون يقيمون بين النهرين على مقربة من خليج العرب قبل انتقالهم إلى صور وغيرها من المدن على شواطئ فلسطين، وقد كانت الحروف المنسوبة إليهم عربية على التحقيق ولم تكن مقصورة على القبائل الفينيقية في العراق أو في فلسطين ولو لم تكن عربية عامة لما وجدت بصورها الباقية إلى اليوم في الخط المسند الذي لا شك في قدمه وقدم الحضارة اليمنية بل العروبة اليمنية من قبله فإن الأبجدية المشهورة باسم الفينيقية والأبجدية التي كانت تكتب في بلاد اليمن متشابهتان في أكثر الحروف، فهذه الأبجدية التي يكتب بها اليونانيون في عصرنا هذا موافقة بترتيبها حرفا حرفا لترتيب الأبجدية العربية …. فالأبجدية اليونانية تبتدئ بحروف الفا بيتا جما دلتا وهي حروف الألف والباء والجيم والدال من ابجد …وها هنا ننتهي إلى بيت القصيد من تحقيق القول بقدم اللغة العربية] العقّاد

أصوات ناشزة تتّهم العربيّة

وهي دعوات تخرج من فترة لأخرى بدعاوي زائفة ومزيّفة، وتلك الدعوات الناشزة تدعو إلى استعمال الدارجة بحجّة عجز الفصحى من جهة أو صعوبتها من جهة أخرى، فوجدت رفضا تامّا وفنّدها العلماء نجد ذلك على لسان الشاعر حافظ إبراهيم في قصيدته التي كان يحفظها الطلبة قبل اليوم ومنها:

رموني بعقم في الشباب وليتني  * عقمت فلم أجزع لقول عداتي

ولــدت ولمّا لم لأجد لعرائسي * رجالا وأكفاء وأدت بناتي

وسعت كتاب الله لفظا وغاية * وما ضقت عن آي به وعظات

فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة * وتنـسيق أسماء لمخترعات

 أنا البحر في أحشائه الدرّ كامن * فهل سألوا الغوّاص عن صدفاتي

 فيا ويحكم أبلى وتبلى محاسني * ومنكم وإن عـزّ الدواء أساتي

فلا تكلوني للـــزمان فإنّني  * أخاف عـــليكم أن تحين وفاتي

 أرى لـــرجال الغرب عزّا ومنعة * وكـــم عزّ أقوام بعزّ لغات

 أيهجرني قومي عفا الله عنـــهم   *    إلى لغة لم تتّصل برواة

وللجزائريّين مساهمات معتبرة في خدمة اللغة العربيّة سواء في علم النحو أو علم القراءات  

من لا يذكر ابن معطي الزواوي صاحب أوّل ألفية التي أقرّ صاحب أشهر ألفية ابن مالك… وفي العصر الحاضر ألا تنحني الهامات أمام عبقريّ الألسنية عبد الرحمن حاج صالح… ولا نجهل العمل الكبير الذي أنجزه الدكتور إبراهيم قلّاتي في قصة الإعراب.

عوامل النهضة اللغوية

من عوامل النهضة اللغوية الحديثة بالجزائر دروس ابن باديس وكتاباته في الشهاب:

[الثورة التعليميّة التي أحدثها الأستاذ الشيخ عبد الحميد بن باديس بدروسه الحيّة والتربيّة الصحيحة التي كان يأخذ بها تلامذته والتعاليم الحقة التي كان يبثّها في نفوسهم الطاهرة النقيّة والإعداد البعيد المدى الذي كان يغذّي به أرواحهم الوثّابة الفتيّة فما كادت تنقضي مدّة حتّى كان الفوج الأوّل من تلاميذ ابن باديس مستكمل الأدوات من فكر صحيح وعقول نيّرة ونفوس طامحة وعزائم صادقة وألسن صقيلة وأقلام كاتبة وتلك كانت الكتائب الأولى من تلاميذ ابن باديس هي طلائع العهد الجديد وقد سمع الناس لأوّل مرّة في الجزائر من بعض تلك البلابل شعرا يؤدّي معنى الشعر كلاما وقرأوا كتابة تؤدّي معنى الكتابة] الإبراهيمي.

العربيّة خدمت وتخدم الإنسانيّة

[ إنّ العربيّة لم تخدم مدنيّة خاصّة بأمّة وإنّما خدمت المدنيّة الإنسانيّة العامّة مدنيّة الخير العامّ والنفع العامّ ولم تخدم علما خاصّا بأمّة وإنّما خدمت العلم المشاع بين البشر بجميع فروعه النافعة ومن يستقرئ خاصّة هذه اللغة لعلم الطبّ وحده يتبيّن مقدار ما أفاءت هذه اللغة على البشريّة من خير ونفع وقد كانت هذه اللغة في القرون الوسطى يوم كان العالم كلّه يتخبّط في ظلمات الجهل- هي اللغة الوحيدة التي احتضنت العلم وأوته ونصرته] الإبراهيمي.

اللغة العربيّة تتّسع لكلّ حركات وصور ووجدان

[وإنّ من مميّزات هذا الطور العلمي إتقان اللغة العربيّة علما وتعليما وإجادتها تكلّما وكتابة فقد قامت هذه النهضة على ألسنة تنثر الدر من العلم وألسنة تنفث السحر من البيان وأقلام تسيل رحمة وتمجّ السمام أو تنثر السهام في مواطن الغضب للحقّ والذود عن الحقّ وقد كانت لدروس الأخ الأستاذ ابن باديس –ولا نكران للحقّ- أقوى الآثار في تكوين هذه الملكات وتقويم هذه الألسنة وتثقيف هذه الرماح فمن تلامذته كتّاب القطر اليوم ومن تلامذته شعراء القطر اليوم ومن تلامذته المفكّرون والدعاة الذين هم دعائم الحركة الإصلاحيّة وقد أصبح الطراز الأدبي الجزائري طرازا مستقلا يحتذى ولا يحتذي، ليست عليه مسحة التأثّر والمحاكاة وإذا كانت ناشئتنا متأثّرة بالتعاليم الزيتونيّة فإنّ ذلك التأثّر لم يجاوز العلميات أمّا الأدبيات فلا؟] الإبراهيمي.

أصالة العربيّة في عيون البصائر

[ إنّ هذه المقالات ذات قيمة تاريخيّة عظيمة فقد أثبتت أنّ الصحافة لا تعني العزوف عن رصانة الأدب ونصاعته كما أثبتت أنّ في اللغة لأدبيّة العالية طريقا سويّا للإعراب عن المشكلات السياسية والاجتماعية وأن ما يحزب الناس في معاشهم وما يدور في مجالسهم ممّا يتّصل بمصائرهم مما يمكن أن يؤدّى بلغة عالية وأنّ أصالة العربيّة شيء من هذا وبقد ارتفعت بهذه الصفحات المشرقة حجّة من يدّعي أنّ الصحافة ينبغي أن تؤدّى باللغة السائرة ….

إنّ هذه النماذج المشرقة التي اشتملت عليها عيون البصائر لهي من الأدب العالي الذي يلزم أن يكون مما تشتمل عليه النماذج الأدبيّة في النصوص المدرسيّة وليس هذا الأدب إقليميّا يتّصل بالجزائر وحدها بل إنّه ليمثّل الأدب العربيّ العالي نصاعة بيان وشرف أسلوب وسموّ معان وأهداف، ومن عجب أنّ هذه النماذج لم تنل من عناية الدارسين ما تستحقّه من البحث والدرس وأنّها لا تحضر في أيّ كتاب مدرسيّ بحيث يتهيّأ للطلاب أن يروا أنّ اللغة العالية شيء يشتمل على عناصر الجمال ولا يجور على الفكرة العالية وربما كان من لوازم الأفكار العالية أن يتهيّأ لها في اللغة القدر البليغ لتتحقّق الغاية ومن عجب أيضا أنّ هذه الألوان الأدبيّة لم تنل من عناية الباحثين الجزائريّين ما هي حقيقة به] الدكتور إبراهيم السامرّائي.    

 

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com