ليتفكروا

عوائق النهضة: الاغتراب الزماني والمكاني

د. بدران بن الحسن */

موضوعنا في هذا المقال هو الحديث عن حالة من الوعي السلبي التي تصحبها حالة شعورية تجعل من الانسان فردا أو مجموعا يشعر بالانفصال عن واقعه، وكره هذا الواقع، والهروب منه، ومحاولة اللجوء شعوريا وفكريا إلى واقع متخيل أو إلى واقع موجود لكنه موجود في الماضي أو في مكان وسياق اجتماعي وثقافي وحضاري مختلف.
وهذا الوعي السلبي وهذا الشعور بالانفصال يمثل عائقا خطيرا من عوائق تحقيق نهضتنا الحضارية التي تسعى إليها أمتنا. وهو ما يسمى بالاغتراب، زمانيا ومكانيا. وهو مصطلح إستعاره ماركس، ولكنه انتقل بعد ذلك إلى علم النفس وإلى الفكر الاجتماعي عموما، على ايدي كثير من رواد علم النفس الاجتماعي والفلاسفة والمفكرين في العالم.
وحالة الاغتراب لدى قطاع كبير من أبناء امتنا وبناتها، تجعلهم يشعرون بفقدان القوة، وفقدان المعنى، والعزلة، وعدم المعيارية، والغربة عن الذات، مما يدفعهم إلى الهامشية في الحضور وفي المشاركة في هموم وآمال مجتمعهم، بل ويؤدي بهم ذلك على نكران المجتمع، وعدم الشعور بالاندماج فيه، وبعدم وجود قيم مشتركة بينه وبين محيطه الاجتماعي، وهو ما يحمل معاني حالة من الشعور بالغربة أو العزلة عن المجتمع أو بين الأفراد أنفسهم، مما يؤدي إلى اضطراب في المرجعية، واضطراب في الشعور بالانتماء، واضطراب في تحديد كيفية الاسهام في النشاط الاجتماعي بإيجابية، واضطراب في تحديد العلاقة مع الانتماء الثقافي والحضاري للمجتمع، وفي تحديد العلاقة مع الكيانات الحضارية الأخرى.
وهذا الاغتراب في الحقيقة هو في ذاته ثمرة تجاهل متغيرات الزمان والمكان، وتحولات التاريخ، وتجاهل او عدم إدراك للثابت والمتغير في مرجعيتنا وفي واقعنا، وفقدان لتصور صحيح للذات وللآخر وللزمن الاجتماعي الذي يعيشه الانسان.
ولعل هذا ما نراه في مشاريعنا الإصلاحية، والتجديدية، وجهود الخروج من التخلف، وتحقيق نهضة حضارية لشعوبنا، إذ نرى أبناء أمتنا سواء منهم الأصاليون أو الحداثيون يتجاهل كثير منهم واقع أمتهم كنقطة انطلاق أساسية لبناء مشروعيهما النهضويين، إذ ترى طائفة من الأصاليين –بتعبير الدكتور مولود قاسم رحمه الله- قد عادت بأفكارها إلى الماضي للتشبث به والدفاع عنه من دون تمحيص ولا نقد، ولاذ الحداثيون بمذاهب فكرية وتوجهات غربية لها واقعها الخاص الذي نشأت فيه. فنشأ عن الفريقين العظيمين من الأمة اغتراب زماني ومكاني، أدى إلى التلفيق والفوضى أحيانا، وإلى اصطدام الجهود أحايين أخرى، مما عرقل السير في طريق النهوض.
وهذه ليس دعوة على تجاهل الماضي، وإنكار منجزاته، ولا دعوة إلى الانعزال عن تجارب الأمم الأخرى وإنكارها، ولكن هي دعوة إلى «توطين» الذات على ألا تنكر مرجعيتها، ولا تنكر زمانها. فعند كثير من الشعوب التي سلكت طريق الحضارة والتنمية في عالمنا المعاصر كان التاريخ مصدر إلهام لها، وكانت تجارب الأمم الأخرى مصدر خبرة مفيدة دون الوقوع في عقدة النقص. بينما بقينا نحن نراوح المكان والزمان، فلم نستطع أخذ العبرة من التاريخ، ولا تخلصنا من عقدة النقص والدونية تجاه الغرب تحديدا، وغيره من الأمم بشكل عام. ولم نتعلم من تجارب الأمم التي اختارت طريقا ثالثا. ولنا في هذا أمثلة كثيرة؛ كوريا الجنوبية، واليابان، وتركيا، وسنغافورة، وماليزيا، وغيرها.
لقد صار التاريخ عبئا علينا، بل وقعنا في الاغتراب التاريخي، واستوردنا منه أفكارا «ميتة» -بتعبير الأستاذ مالك بن نبي- بعثنا فيها الحياة، فأوقعتنا في حروب التاريخ، بدل التوجه إلى المستقبل (مشكلة الأفكار، ص146-152). كما وقعنا في عقدة نقص تجاه شعوب سبقتنا في التنمية والتحضر، فصرنا نجلد أنفسنا، وننكر أصلنا. فصار قطاع منا يعيش استحضار التاريخ، بدل استحضار القيم المنتجة له. وصرنا نعيش على امل أن يظهر لنا «ثوب عمر المرقع»، بدل أن نبني رجالا ونساء يحملون قيم عمر وعدل عمر. ومن جهة أخرى، صرنا –كما يقول طه عبد الرحمن- مغتربين في زمان غيرنا وفي جغرافية غيرنا، نفكر كما يفكر، ونستشكل ما يستشكل، وننتج من داخل صندوق حضارته وافكاره، ولكن باعتبارنا مقلدة لا مبدعين، فتم «تكديس» منتجات الغرب التي أنتجت في سياقه الاجتماعي والحضاري والثقافي، بل والاقتصادي، كما «نكدس» أفكاره وتوجهاته، التي تجاوزها هو، وانتقل إلى غيرها بعد ان مارس عليها النقد.
إن هذا الاضطراب العام الذي أصاب الوعي المسلم والضمير المسلم الحديث، التائه بين حلين، ليبعث على الأسى. وقد لاحظ مالك بن بني هذا منذ عقود، ويبدو ان الحال مازال على حاله. يقول بن نبي: «ويبدو أن رجال الإصلاح في كثير من المجالات يبحثون عن حل ثالث أكثر توافقاً مع فكرة الإسلام ومع ضرورات العصر، بيد أن هذا البحث في ذاته يطفح بألوان التردد والمعاناة. ولا شك أن اضطراب أقطاب الفكر المسلمين يحدث وقفة في تطور الأفكار، إذ ليس في وسع المجتمع الإسلامي أن يعود إلى الوراء، وإلى مرحلة ما بعد الموحدين، أو أن يطفر إلى الأمام طفرة عمياء في حركته (نحو الغرب). وهكذا تشعرنا حالة العالم الإسلامي بأنه يقف في منطقة (حرام) في التاريخ، ما بين فوضى ما بعد الموحدين والنظام الغربي» (وجهة العالم الإسلامي، ص121).
وكلا الوضعين مهلك، ويقود إلى الاغتراب في التاريخ وخوض معاركه، أو الاغتراب في حاضر غيرنا والوقوع في عقدة النقص نحو الغالب المهيمن على مجريات الحاضر اليوم، والوقوع في أسر مقولاته، ومنجزاته، ونظرته للكون والحياة، وطريقة عيشه.
وهذا ما ينبغي تحرير وعي المسلم منه، ليخرج من اغترابه، ويمارس الحضور بين الأمم والشهادة عليهم.
*مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية/ جامعة قطر

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com